بحث متقدم
الزيارة
6059
محدثة عن: 2011/12/20
خلاصة السؤال
ما هی الحیاة الإلهیة؟ و هل من تضاد بینها و بین حیاتنا الحالیة؟
السؤال
نحن جئنا إلی هذه الدنیا لنحیا حیاة إلهیة. ما معنی الحیاة الإلهیة و هل من تضاد بینها و بین حیاتنا الحالیة؟
الجواب الإجمالي

لو راجعنا القرآن و سألناه هذا السؤال و هو لماذا خُلقنا؟ سیکون جواب القرآن هکذا "و ما خلقت الجن و الانس إلا لیعبدون". ما معنی العبادة؟ العبادة تعنی تقدیم العبودیة لله سبحانه. و هذا یعنی أن أعمالنا العادیة المتعارفة حتی البسیطة منها کالأکل و الشرب یمکن أن تکون عبادة و إلهیة. الحیاة الإلهیة هی أن نؤدی أعمالنا الیومیة و غیرها بنیة صحیحة و مطابقة للضوابط الدینیة التی شرعها الله تعالى.

الجواب التفصيلي

لو راجعنا القرآن و سألناه هذا السؤال و هو لماذا خُلقنا؟ سیکون جوابه هکذا "وَ مَا خَلَقْتُ الجْنَّ وَ الْانسَ إِلَّا لِیَعْبُدُون".[1] ما معنی العبادة؟ فی بعض الأحیان ننظر إلی العبادة من زوایة محدودة جداً و نتصوّر أن العبادة لا تتعدی بعض المناسک و و الطقوس و الأعمال الخاصة کالصلاة و الصوم و الحج و ...، من الطبیعی أن هذه الأعمال من العبادات، و لکن هل إن الله خلق العباد لأداء هذه المناسک فقط؟ قد یُتصور ان مثل هذه الحیاة ستکون حیاة ضیقة و محدودة، لکننا لو نقبنا أکثر عن معنی العبادة، سنری ان العبادة تعنی العبودیة لله تعالی و بتعبیر صدر المتألهین (ره) فی الأسفار، عبادة کل شخص بمقدار معرفته بالله سبحانه؛ و هذا یعنی أن هناک رابطة مباشرة بین عبادة العبد لله سبحانه و معرفته بالله. فکلما عرف الإنسان ربه أکثر، کانت عبادته أوسع و أعمق. حتی یصل إلی الحد الذی یریده منه الإسلام. ماذا یرید منا الإسلام؟ هل یرید منا أن نعیش حیاة جافّة خالیة من الروح؟ نصلی، نصوم، نذکر الله، ندعوه، هل الإسلام لم یرد منا إلا هذه الأمور؟ و لا یطلب منها فعل شیءٍ آخر؟

مما لا شک فیه و لا ریب یعتریه ان الإسلام لم یرد منا هذا. أَوَ هل کانت حیاة المعصومین (ع) هکذا؟ و هل کان أمیر المؤمنین علی (ع) من الصباح إلی المساء یصلی و یذکر الله و لا یعمل شیئاً آخر؟ من الطبیعی لم یکن کذلک. فالإمام علی (ع) رجل السیاسة و رجل الحرب و رجل العلم و رجل العمل، فمن کان عمله حفر الآبار و القنوات و إیصال الماء إلی الأراضی الجرداء، لم یکن مستشغلاً بالذکر فقط. إذن أین عبادة الإمام علی (ع) هل أن عبادته فقط هذه اللحظات التی کان یقرأ فیها دعاء کمیل؟! هل کانت عبادته تتمثّل باللحظات التی کان یقف فیها للصلاة؟ هذه الصلاة التی کانوا یُخرجون النصل فی أثنائها من رجله و لم یلتفت؟. کلا، فأمیر المؤمنین حتی فی الوقت الذی کان مشغولاً فیه بحفر البئر کان فی عبادة. و حتی فی الوقت الذی کان یقاتل الأعداء فیه کان فی عبادة و إلا ما معنی حدیث النبی (ص): "لضربة علیّ یوم الخندق أفضل من عبادة الثقلین". [2]

هل کان هذا الحدیث مجاملة من النبی (ص) للإمام علی (ع)، لماذا کل هذا الثواب؟ لأنه ضربته کانت عبادته، جهاده کان عبادته. فکل حیاة الإنسان یمکن أن یبدّلها إلی عبادة.

لو رجعنا إلی السؤال الأول و هو ما معنی الحیاة الإلهیة؟ سیکون الجواب، نفس أعمالنا التی نعملها، الأعمال العادیة و الیومیة، کالأکل و الشرب، یمکن أن نصبغها بصبغة إلهیة فتکون عبادة. قد یُسأل، کیف یمکن ذلک؟

الجواب هو: لو التفتنا إلی ضوابط الأکل عند الأکل، لأنه لا یجوز لنا أکل کل شیء، فقد منع الإسلام عدة أمور من المأکل و المشرب کالمال الحرام، فلو امتنعنا عنها و کان مالنا مالاً حلالاً و لا نأکل الطعام إلا بنیة إنه یقوینی علی العمل، العمل الذی یکون لأجل رفع مشاکل الناس مثلاً، أو لمساعدة الأخوة و الاخوت أو الولد أو الزوجة أو الزمیل فی العمل لأجل الحصول علی الارتقاء المعنوی، العمل الذی یکون هدفه أن نؤدی ما کُلّفنا به، مما لا شک هذا الأکل یکون عبادة، و النوم أیضاً یکون عبادة، و یکون للحیاة لون و طعم آخر. ینقل عن النبی (ص) إنه قال یوماً للمسلمین فی المسجد: "إذا أردتم تنظروا إلی شخص من أهل الجنة فانظروا إلی أول داخل للمسجد فهو من أهل الجنة، کان من بین الحاضرین شاب تحمّس کثیراً لیری صفات أهل الجنة فری رجلاً کبیراً دخل المسجد، و کلما دقّق فی أعماله و تصرّفاته لم یر شیئاً خاصاً ممیّزاً یمتاز به، فقال فی نفسه لعله فی البیت یعمل عملاً خاصاً جعله من أهل الجنة، تتبع هذا الرجل الکبیر عندما خرج من المسجد حتی وصل إلی منزله، فدخل الرجل إلی بیته و بقی الشاب خارجاً فدق باب المنزل، قائلاً: أنا إبن السبیل، لیس لی مأوی و ارید المبیت عندکم اللیلة،فإذن له صاحب البیت بالدخول و بقی یراقب أعمال هذا الرجل الکبیر فلم یری شیئاً خاصاً منه، فقال فی نفسه ان کلام النبی (ص) لابد من أن یکون منطلقا من عمل مهم یستحق علیه أن یکون من أهل الجنة. و عندما حلّ وقت النوم قال فی نفسه لعله سیقضی اللیل بالدعاء و التهجّد و البکاء فبقی ساهراً یراقبه فرآه قد نام إلی صلاة الصبح. بقی عنده یومین أو ثلاثة أیام بحجةٍ ما، بعدها ذهب إلی صاحب البیت و قصّ علیه القصة بأکملها و قال له ما هو عملک الذی تستحق علیه أن تکون من أهل الجنة؟ فقال الرجل المسن: لا أدری هل إنی من أهل الجنة أو لست کذلک، فلم أعمل عملاً خاصاً و لکنی أحاول أن تکون أعمالی کلها خالصة لله و کذلک أسعی دائماً أن لا تصدر منی معصیة.

فلم یستحق هذا الوسام الکبیر من شخص الرسول الأکرم (ص) إلا لهذا السبب و لا غیر. إذن، فالحیاة الإلهیة هی أن یؤدی الإنسان کل أعماله حتی العادیة و الیومیة منها بنیة خالصة و مطابقة للشرع الإلهی، عندئذٍ تتلوّن حیاته و تصبغ بالصبغة الإلهیة و تنعکس آثارها علی کل وجوده.

سمعنا کثیراً ما یقال: ادخلوا البرکة إلی حیاتکم، و کما یقول آیة الله العظمی السید بهاء الدینی (ره): "جرّبوا هذه المسائل حتی تحصلون علی العلم بها. و علی حد تعبیر العلامة السید الطباطبائی (ره) حیث یقول: "اعملوا بالروایة القائلة: «من أخلص لله أربعین یوماً فجّر الله ینابیع الحکمة من قلبه علی لسانه". [3] فاعملوا عملاً واحداً لله و کرّروه أربعین یوماً [4] فإذا لم تحصلوا علی النتیجة الموجودة فی الروایة، العنونی، و هذا یدل علی شدة یقینه بالنتیجة.

لذا، تعالوا نجرّب معاً، و نغیّر مسیر حیاتنا. إن شاء الله.



[1]  الذاریات، 56.

[2]  السید إبن طاووس، اقبال الأعمال، ص467، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1367.

[3]  المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج67، ص249، مؤسسة الوفاء، بیروت، لبنان، 1404 هـ.ق.

[4]  نقلاً عن آیة الله الأمینی الذی نقل عن السید العلامة الطباطبائی.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279360 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256924 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128057 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112886 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88920 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59630 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59356 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56813 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49394 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47111 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...