بحث متقدم

«رمضان» لغة مشتق من «الرمض». والرَّمَضُ والرَّمْضاءُ: شِدّةُ الحَرّ. والرَّمَضُ: حَرُّ الحجارة من شدّة حَرّ الشمس، وقيل: هو الحرّ والرُّجوعُ عن المَبادِي إِلى المَحاضِر، وأَرضٌ رَمِضَةُ الحجارة.[1]

ورمض الرجل احترقت قدماه من شدة الحر. وقيل سمي رمضان لارتماضهم في حر الجوع‏.[2] ورمضت الغنم إذا رعت في شدّة الحرّ فقرحت أكبادها. ويقال ارتمض بطنه: فسد، كأنّ ثمّ داء يحرقه.[3]

وفي الاصطلاح هو الشهر التاسع من الشهور العربية، وشهر صيام المسلمين، وهو شهر نزول القرآن الكريم: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...»[4]. [5]

حقيقة شهر رمضان المباركة وباطنه

كل ما في عالم الوجود له حقيقة وباطن؛ وذلك لان الدنيا تنزل للعوالم العليا، وكل ما يظهر في عالم الدنيا يمثل نموذجا لعوالم المعنى. ثم إن الاحكام والقوانين الالهية تتجلى في عالم الدنيا بصورة الاوامر والدساتير العبادية، ولها اسرار باطنية. وهكذا الامر بالنسبة الى الاشياء الاخرى من الازمان والاماكن. فان لها هي الاخرى بواطن وحقيقة أخرى، منها شهر رمضان المبارك الذي وصفه النبي الاكرم(ص) حينما قال: "أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة؛ شهر هو عند الله أفضل الشهور؛ وأيامه أفضل الأيام؛ و لياليه أفضل الليالي؛ وساعاته أفضل الساعات؛ هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله؛ وجعلتم فيه من أهل كرامة الله‏".[6]

وكان الامام السجاد(ع) كما ورد في الصحيفة السجادية، يستقبل شهر رمضان بكلمات بليغة ورقيقة تكشف عن مكانة الشهر ومنزلته في الفكر الاسلامي، حيث يقول(ع): "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَ جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ لِنَكُونَ لِإِحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ، شَهْرَ الصِّيَامِ، وَ شَهْرَ الْإِسْلَامِ، وَ شَهْرَ الطَّهُورِ، وَ شَهْرَ التَّمْحِيصِ، وَ شَهْرَ الْقِيَامِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، هُدًى لِلنَّاسِ، وَ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَ الْفُرْقَانِ،  فَأَبَانَ فَضِيلَتَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ بِمَا جَعَلَ لَهُ مِنَ الْحُرُمَاتِ الْمَوْفُورَةِ، وَ الْفَضَائِلِ الْمَشْهُورَة".[7]

إن وصف الإمام لشهر رمضان كشهر الله وشهر الاسلام وشهر نزول الوحي، يعكس مدى رؤية الامام السجاد(ع) ومدرسة أهل البيت(ع) لهذا الشهر المبارك، وانه عرصة لتجلي حقيقة الاسلام؛ ويعني التسليم المحض لله تعالى. هذه العرصة التي توفر للعباد فرصة التزكية والتطهير واظهار الرضا بأمر الله تعالى والخضوع له في كل شيء بما فيها الامساك عن المباحات في سائر الشهور، والخضوع لله الباري المتعال. ويمثل هذا التمرين فرصة جيدة لتقوية الارادة وليكون المحطة التي يتزود منها التقوى لسائر الشهور؛ وذلك لانّ الانسان الذي يخضع للاوامر الالهية لمدة شهر كامل ويمنع نفسه من الحلال استجابة للامر الرباني ويمسك عن حاجاته الطبيعية كالطعام والشراب، سيمتلك القدرة في سائر الشهور في مواجة وساوس الشيطان وأهواء النفس الامارة، و يكون في عداد المتقين والمخبتين.

إنّ شهر رمضان هو شهر التزكية والطهارة، الشهر الذي يردع فيه الانسان نفسه ويكفها عن الميول والشهوات والغرائز الحيوانية والمادية حيث يقوم المصلي في آن واحد بتطهير البدن والروح لينتقل بروحه الى عالم الطهارة والتسامي والتكامل، و يستضيء بنور الهداية الرباني.

إذن، يمكن القول بأنّ حقيقة شهر رمضان هي: التحرر من ضغوط الانا؛ التحرر من الميول الحيوانية، ولادة الروح الالهية، وشهر رمضان هو شهر التخلق باخلاق الله تعالى، وانّ حقيقته الباطنة عبارة عن: الوصول الى لقاء الله تعالى. فقد ورد في الحديث أن الله تعالى قال: «الصَّوْمُ لِي وَ أَنَا أَجْزِي بِه‏».[8] وهناك من قرأ كلمة "اجزي" بصيغة المبني للمجهول "اُجزَی" بمعنى انّ الصوم لي و انا جزاءه. ولشديد الاسف نرى الانسان تعلق بذاته وبكل ما هو متغير وترك التعلق بالله تعالى؛ وذلك لان كل ما سوى الله تعالى هو في معرض الزوال والتغيير ولا يمكن أن يكون جزاء للانسان؛ فان جزاء الصيام لقاء الحق تعالى.[9]


[1] ابن منظور، محمد بن مكرم‏، لسان العرب، ج ‏7، ص 160، بیروت، دار صادر، الطبعة الثالثة‏، 1414ق‏.

[2]. کفعمی، ابراهیم بن علی، المصباح (جنة الأمان الواقیة و جنة الإیمان الباقیة)، ص 513 دار الرضی (زاهدی)، قم، چاپ دوم، 1405ق.

[3]. مصطفوي، حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج ‏4، ص 230، طهران، نشر بنگاه ترجمه و نشر كتاب، 1360ش.

[4]. البقرة، 185.

[5]. القرشي، سيد علي اكبر، قاموس القرأن، ج ‏3، ص 123، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة السادسة، 1371ش‏.

[6] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص 93، انتشارات المکتبة الاسلامية، 1362ش.

[7]. الامام السجاد، الصحيفةالسجادية(ع)، ص 186، الدعاء رقم44، إِذا دخل شهر رمضان.

[8]. الشيخ الصدوق، من ‏لايحضره ‏الفقيه، ج 2، ص 75، قم، مؤسسة النشر الاسلامی، 1413ق.

[9] جوادی آملي، عبد الله، حکمت عبادات، ص 33و131- 135و 145- 147، قم، مرکز نشر الاسراء، الطبعة الاولی، 1378ش.

 

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279422 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257176 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128119 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113187 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88978 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59799 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59519 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56845 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49698 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47148 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...