اما اذا اردنا الإجابة عن السؤال إجابة تحليلية جذرية، هنا لابد من طرح هذا التساؤل: لماذا مع كل هذه التأكيدات و التوصيات الصادرة عن الرسول الأكرم (ص) على ولاية أمير المؤمنين (ع) بلا فصل، مع هذا نجد الأمر قد خرج من يد علي (ع) ليقع تحت تصرف أناس آخرين؟ و كيف حدث ذلك الأمر الذي لا يمكن توجيهه و تعقله من قبل الاجيال اللاحقة؟

و نحن هنا لسنا بصدد بيان العلل و الاسباب التي أدت الى حدوث ذلك و انما نريد الاشارة الى نكتة مهمة تتعلق بالسؤال و هي: أن هذه التاكيدات و الاستغراب الجماهيري من اقصاء أمير المؤمنين (ع) جعلت المؤلفين الموالين للاتجاه الآخر يسعون و بكل جهد الى عدم التعرض لفضائل أمير المؤمنين و خصائصه، أو الاكتفاء بنقل بعض المقاطع من تلك النصوص. و تارة عندما يواجهون حديثاً متواتراً لاريب فيه، هنا يقعون بين محذورين إما عدم نقله و هذا ما يعد ثلمة و خللا في علميتهم و انتقاصاً لشأنهم باعتبارهم علماء حديث و رجال فقه؛ أو نقله و الاعتراف باحقية علي (ع) و هذا محذور آخر لايمكنهم القبول به!! من هنا نراهم ينتخبون طريقاً آخر هو طريق التأويل بنحو ينسجم مع ما هم عليه من معتقد. و حديث الغدير نموذجا من تلك الاحاديث فبما انهم لم يستطيعوا التعتيم عليه لوروده في الكتب المعتبرة عندهم.[2] و الذي يصرح بولاية علي (ع) بعد الرسول (ص) و هكذا غيره من الادلة المصرحة بذلك و التي فهمها الناس و استغربوا من سلب الخلافة عنه و لماذا هذا الاقصاء؟

هنا جاء دور التأويل لافراغ النصوص من محتواها الحقيقي فقالوا: إن المراد من الولاية هو الولاية العرفانية و المحبة فاخرجوا منها الولاية السياسية!!

ولم يقتصر الأمر على حديث الغدير بل هنا كثير من النصوص تم تأويلها، فقد أوّلوا حديث المنزلة "انت مني بمنزلة هارون من موسى..." بان وزارته تنحصر في حياة النبي (ص) و بعد رحيل المصطفى (ص) انتهت تلك الوزارة و انقضى أمدها!!

من هنا نحاول الاستناد الى مصادر أهل السنة بصورة حيادية من دون جعل عنصر الاعتقاد عاملا مؤثرا في التفكير نقول:

ان الملاحظ في يوم الغدير أن النبي الاكرم (ص) قام بالخطوات التالية:

اولا: تقدم لهم بالسؤال:

أَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟

ولما اقروا بذلك و قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

حينئذ قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ.[3]

و العجيب أن الخليفة الثاني فهم هذا المعنى و توجه الى الامام عليه مهنئاً بقوله: بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.[4]

الحادثة الاخرى التي نقلها علماء أهل السنة و اكدوها، انه لما مضى رسول الله (ص) يسير في أصحابه ، حتى قدم تبوك. واستعمل على المدينة علياً (ع).

وهذه هي الغزوة الوحيدة من الغزوات التي لم يشترك فيها عليُّ بن أبي طالب (ع) مع رسول الله (ص).

فأرجف المنافقون بعلي (ع) و قالوا : ما خلَّفه الا استثقالاً له! فلمَّا سمع عليٌّ (ع) ذلك أخذ سلاحه و لحق برسول الله (ص)، فأخبره ما قال المنافقون، فقال: « كذبوا ، و إنَّما خلفتك لما ورائي، أما ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى ؟ الا أنَّه لا نبيَّ بعدي ».[5]

فلو سلمنا جدلاً بکون المراد من الولاية في يوم الغدير هي الولاية العرفانية، فهل يصح حمل حديث المنزلة عليها أيضاً؟ قطعا لايمكن بحال من الاحوال اخراج الولاية السياسية عن مدلول هذا الحديث قطعاً.

و بعد التأمل في مضامين تلك الاحاديث والوقائع يثار السؤالان التاليان:

1- هل سؤال النبي "من أولى بالمؤمنين من انفسهم؟" قائم على العلاقة العرفانية فقط و لا يشمل الولاية السياسية لتنحصر ولاية أمير المؤمنين بالولاية العرفانية فقط؟!

2- لو كانت الاجابة عن السؤال الاول بالنفي و قلنا بشمولية و عمومية الولاية لجميع الشؤون فقد تم المطلوب، و إن أصر البعض على كون المراد هو الولاية العرفانية، هنا يثار السؤال التالي: اذا كان هناك شخص له الولاية العرفانية و الشجاعة في الحروب و أنه خليفته و انه منه (ص) بمنزلة هارون من موسى، و ارسله ممثلا عنه لحل ما حدث في اليمن من مشاكل، هذا من جهة، و من جهة أخرى أن الطرف المقابل –علماء أهل السنة- يعتقدون أن النبي الاكرم (ص) لم يستخلف و إنما ترك الأمر الى الأمة، فلا يعد القول بولاية علي  منافياً لأمر رسول الله (ص)!! فاذا وجدنا هذا العارف قد امتنع عن بيعة الخليفة الاول مدة ستة اشهر[6].

أ ليس من المناسب أن نتبع هذا الرجل العارف المدبر في موقفه هذا؟ و أ ليس التمرد على رأيه يعد مخالفاُ لما أمر به النبي الاكرم (ص)؟ و اذا لم نطع هذا العارف في مثل هكذا مسالة مهمة فماذا تعني الولاية العرفانية اذن؟!

اتضح من خلال ذلك أن الولاية المعلنة في يوم الغدير هي ولاية عامة و أن ما ذهبوا اليه من توجيه الولاية بأنها ولايةعرفانية لا يعد مبرراً لاقصائه (ع) عن منصب الخلافة، مع اعتقادنا الجازم بان له عليه السلام ولاية عرفانية بالاضافة الى الولاية السياسية كما كان الامر بالنسبة الى الرسول (ص) و أن التفكيك بين الولايتين لا معنى له، بل لم يتعرض أحد من العلماء للتفكيك بينهما بالنسبة الى الرسول (ص)؛ من هنا من توفرت فيه جميع خصوصيات النبي (ص) هو الاحق بخلافته مطلقا سياسية كانت أم عرفانية. و أن إقصاءه و منحها لشخص غيره يعد من عجائب الأمور.

 

[1] كما حدث في یوم الدار، یوم المباهلة، و في تبوك، وعندما اعترض بعضهم على  قيادته في اليمن و....

[2]  انظر على سبيل المثال: احمد بن حنبل ، المسند، ج 1، ص 119-118، دار صادر، بیروت، ابن ماجة القزویني، السنن، ج1، صص 45-43 ، دار الفکر، بیروت و صحیح الترمذي ، 1403 ه ق، ج 5، ص 297، دار الفکر، بیروت و .... . و انظر موسوعة الغدير للعلامة الاميني التي جمع فيها طرق الحديث و اسانيده من الكتب المعتبرة عند اهل السنة.

[3] احمد بن حنبل، مسند، ج 4، ص 281، دار صادر، بیروت. 

[4] مستدرك الصحيحين للحاكم 3 / 109؛ تذكرة الخواص / 35 - نقلها باختصار - ؛ مناقب ابن المغازلي / 16 - 26 ، الإرشاد، للمفيد / 91 ، مجمع البيان 3 / 223.

[5] الكامل في التاريخ 2 : 150، و انظر الاصابة في تمييز الصحابة 2 : 507 ترجمة الامام علي، و سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين ): 229، و أخرجه الترمذي 2999 و3724  قال: صحيح غريب. و انظر طرق الحديث عن الصحابة في تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي 1 : 306 ـ 390. وانظر: البخاري، الصحیح ، 1401 ه ق، ج 5، ص 129، دار الفکر، بیروت.

[6] انظر: البخاري ، الصحیح، ج 5 ، صص 82 و  83 .