قبل كل شيء لابد من ذكر بعض المسائل حول المعرفة. و هي أن المعرفة ذات مراتب و أن معرفة النفس ذات درجات و مراتب و ليس من الضروري أن يكون العالم غير المعلوم في جميع مراتب المعرفة. فعلى سبيل المثال، العلم الإجمالي الذي يملكه أي إنسان تجاه نفسه علم وحدوي و حضوري غير ثنوي، و كل إنسان يعلم بالعلم الحضوري أنه موجود. أما عندما يتعمق في وجوده و كيفية وجوده أكثر، يشعر بحاجته إلى معرفة أعلى. عند ذلك يفترض نفسه جاهلا تجاه نفسه فتحصل الثنوية بين العالم و موضوع العلم بصفته موضوعا مجهولا و غاية في العلم. من هذا المنطلق نجد أن هذا النوع من التفكير و السؤال عن ماهية النفس يمثل أحد أهم الأسئلة الأساسية التي منها انطلقت كثير من التأملات الفلسفية و العرفانية. كما قال أمير المؤمنين (ع): نَالَ الْفَوْزَ الْأَكْبَرَ مَنْ ظَفِرَ بِمَعْرِفَةِ النَّفْس.[1]
يمكن أن يقال أن في معرفة النفس هناك نفسان و إنيتان؛ الإنية السفلى و الإنية العليا، و الإنسان غير راض عن إنيته السفلى و يشعر من حيث لا يشعر بأنه ابتعد عن حقيقته و أصيب بالنسيان.
إذن ما لم يحصل الاختلاف و التثنية بين هاتين الإنيتين، ما كانت تحمل هذه التأملات في معرفة النفس من معنى. في بادئ الأمر لم يحصل الإنسان على جواب مقنع لتساؤله عن حقيقة نفسه؛ هل أنا جسم؟ هل أنا مجرد اعتبارات اجتماعية؟ هل أنا حاصل أفكاري و ذهنياتي؟ من أنا و من أين أتيت؟
لابد أن نعلم أن قيمة كل امرئ هي في الأجوبة التي يجدها لهذه الأسئلة و التي من خلالها يصل إلى الوحدة مع نفسه. بعض الناس يرى نفسه مجرد جسم و طعام و نوم و شهوات، أما أولي الهمم العالية فدائما يعيشون الغربة في هذا العالم إذ لا يرضيهم ما موجود حولهم و لا يغنيهم حالهم الذي يعيشونه في هذه الدنيا فكأنهم قد فقدوا حقيقتهم و لابد لهم من معرفتها.
ما دام الإنسان لم يصل إلى جواب نهائي لهذا السؤال لم يحقق شيئا ذا قيمة في حياته.
الحقيقة هي أن النفس و الإنية العليا للإنسان هي نفحة من روح الله، بيد أن الإنسان قد نسى منزلته هذه، إذ أن أعماله و ذنوبه تمنعه من نسيان شخصيته التي أنشأها بأعماله و أن يتحد مع حقيقته، إلا أن ينسى نفسه بتصنّع و بشكل مؤقت ليشعر بالسعادة، و لكن من دون معرفة النفس و الوحدة مع النفس الحقيقية يرجع مرة أخرى إلى تعاسة أعمق.
إن تذكر الإنسان أصله و حقيقته و وعى مدى إجرامه على نفسه، سيتوب من أعماله التي أدت به إلى هذا الحضيض و سيتعرف على نفسه أكثر فأكثر و في نهاية المطاف سيصل إلى حقيقته و موطنه الحقيقي و جنته المفقودة و سيشعر بالسعادة الكاملة، و هذا هو الهدف الأخير في معرفة النفس و الاتحاد و انتهاء التضاد و الثنوية.
و جدير بالذكر أن في العرفان آخر ما يصل إليه الإنسان في الجواب عن سؤال "من أنا؟" هو أنه أنا لست بموجود بل الله موجود؛ "يا من لا هو إلا هو".