قبل الاجابة عن السؤال نرى من الضروری الاشارة الى مسألة مهمة و هی:
اختلفت کلمة الباحثین فی هذه القضیة- الشمولیة فی القرآن الکریم- فذهب البعض الى ان القرآن یحتوی الى جزئیات المسائل العلمیة و ذهب فریق آخر الى خلاف هذا الرأی حیث رأى ان القرآن الکریم خال عن کل اشارة الى العلوم و المعارف التجربیة، و ذهب فریق ثالث الى نظریة متوسطة، حیث رأی ان القرآن الکریم هو فی الواقع کتاب هدایة و ارشاد للبشریة و لیس کتابا علمیا تخصصیا فی الکیمیاء او الفیزیاء او الفلک و ان ماجاء فیه من الاشارات العلمیة انما یقع فی سیاق الهدف العام للقرآن الکریم، و کلما تکاملت العلم و تطورت التقنیات نراها تکتشف بعض الاشارات العلمیة التی قد جاءت فی سیاق الهدف العام -کما قلنا- و لکنها فی الوقت نفسه تشیر الى عظمة هذا الکتاب السماوی و انه صادر من جهة الله تعالى العالم بکل الامور، و من هذه الآیات قوله تعالى: «فَمَنْ یُرِدِ اللَّهُ أَنْ یَهْدِیَهُ یَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ یُرِدْ أَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً کَأَنَّما یَصَّعَّدُ فِی السَّماءِ کَذلِکَ یَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذینَ لا یُؤْمِنُون».[1]
وقد تعرض بعض المفسرین لتفسیر تلک الآیة ضمن فقرات فقالوا:
ینبغی الاشارة الى مجموعة من الامور منها:
1- المقصود من «الصّدر» هنا هو الروح و الفکر، و هذه الکنایة ترد کثیرا، و المقصود من «الشرح» هو بسط الروح و ارتفاع الفکر و اتسّاع أفق العقل البشری، لأنّ تقبّل الحق یستدعی التنازل عن الکثیر من المصالح الشخصیة، ممّا لا یقدر علیه إلّا ذوو الأرواح العالیة و الأفکار السامیة.
2- «الحرج» بمعنى الضیق الشدید، و هذه هی حال المعاندین و فاقدی الإیمان، ففکرهم قاصر و روحهم ضیقة صغیرة، و لا یتنازلون فی حیاتهم عن شیء.
3- معجزة قرآنیة علمیة: إنّ تشبیه أمثال هؤلاء بالذی یرید أن یصعد إلى السماء، جاء لأنّ الصعود إلى السماء صعب جدّا، فکذلک هو قبول الحق عند هؤلاء.
إنّنا فی کلامنا الیومی نتمثل بهذا التشبیه، فإذا أردنا أن نقول أنّ الوصول إلى الأمر الفلانی صعب نقول: أن تصل إلى السماء أقرب إلیک من ذلک.
بالطّبع لم یکن الطیران فی السماء للبشر آنذاک أکثر من تصور، و لکن على الرغم من تحقق ذلک الیوم، فهو ما یزال صعبا، و کثیرا ما یصادف رواد الفضاء المشاکل فی طیرانهم.
و یخطر فی الذهن معنى ألطف من ذلک یکمل البحث السابق، و هو أنّه ثبت الیوم علمیا أنّ الهواء المجاور للأرض مضغوط بشکل یصلح لتنفس الإنسان، و لکنّنا کلما ارتفعنا قلت کثافة الهواء و نسبة وجود الأوکسجین فیه، بحیث إنّنا إذا ارتفعنا بضع کیلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغیر قناع الأوکسجین)، و إذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضیق تنفسنا و أصبنا بالإغماء، إن ذکر هذا التشبیه فی ذلک الزمن قبل أن تثبت هذه الحقیقة العملیة یعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمیة.[2]
و قال المراغی فی الآیة: أی إن من فسدت فطرته بالشرک و تدنست نفسه بالآثام و الذنوب یجد فی صدره ضیقا أیما ضیق إذا طلب إلیه التأمل فیما یدعى له من دلائل التوحید و النظر فى الآفاق و الأنفس، لما استحوذ على قلبه من باطل التقالید و الاستکبار عن مخالفة ما ألفه و سار علیه الناس، و تضعف إرادته عن ترک ما هو علیه فتکون إجابته الداعی إلى الدین الجدید ثقیلة علیه و یشعر بالعجز عن احتمالها و یکون مثله مثل من صعد فى الطبقات العلیا فى جو السماء، إذ یشعر بضیق شدید فی التنفس، و کلما صعد فى الجو أکثر شعر بضیق أشد حتى إذا ما ارتفع إلى أعلى من ذلک شعر بتخلخل الهواء و لم یستطع سبیلا إلى البقاء فإن هو قد بقی فیها مات اختناقا.
و خلاصة ذلک؛ إن اللّه ضرب مثلا لضیق النفس المعنوی یجده من دعی إلى الحق و قد ألف الباطل و رکن إلیه، بضیق التنفس الذی یجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العلیا من الجو حتى لقد یشعر بأنه أشرف على الهلاک و هو لا محالة هالک إن لم یتدارک نفسه و ینزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل.
سبحانک ربی نطق کتابک الکریم بقضیة لم یتفهم سرها البشر، و لم یفقه معرفة کنهها إلاّ بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرنا، و تقدم فن الطیران الآن علّم الطیارین بالتجربة صدق ما جاء فى کتابک، و دل على صحة ما ثبت فی علم الطبیعة من اختلاف الضغط الجوى فى مختلف طبقات الهواء، و قد علم الآن أن الطبقات العلیا أقل کثافة فى الهواء من الطبقات التی هى أسفل منها، و أنه کلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء و بضیق فى التنفس نتیجة لقلة الهواء الذی یحتاج إلیه، حتى لقد یحتاجون أحیانا إلى استعمال جهاز التنفس لیساعدهم على السیر فى تلک الطبقات.
و هذه الآیات و أمثالها لم یستطع العلماء أن یفسروها تفسیرا جلیا لأنهم لم یهتدوا لسرها، و جاء الکشف الحدیث و تقدم العلوم فأمکن شرح مغزاها و بیان المراد منها بحسب ما أثبته العلم، و من هذا صح قولهم الدین و العلم صنوان لا عدوّان، و هکذا کلما تقدم العلم أرشد إلى إیضاح قضایا خفى أمرها على المتقدمین من العلماء و المفسرین.[3]
و قد ذکر بعض الکتاب الغربیین أن هذا التعبیر یَصَّعَّدُ فِی السَّماءِ یوحی بإعجاز القرآن لأن حالة الاختناق التی یشعر بها الإنسان الذی یصعد فی السماء لم تکن مکتشفة فی عصر النبی محمد (ص)، لأنه لم یکن یملک تجربة حیّة تؤکد هذه الحقیقة العلمیة، التی لا یشعر بها إلاّ الذی یرتفع بعیدا فی الفضاء.
و هذا ممّا لم یتحقق فی البیئة التی عاشها النبی (ص)، فالجبال التی ارتقاها لا تعطی مثل هذه الحالة، لأنها لا تبلغ- فی ارتفاعها- حدّا کبیرا یبلغ الصاعد إلیها حالة الاختناق.
و قد ذکر فی سبب هذه الظاهرة الاختناقیة للصاعد إلى السماء، أن الهواء المحیط على الأرض صالح لتنفّس الإنسان، و لکن الإنسان کلما ارتفع فی الفضاء، قلّت کثافة الهواء و نسبة وجود الأوکسجین فیه بحیث إننا إذا ارتفعنا أکثر بضع کیلومترات، أصبح من الصعب أن نتنفس بغیر قناع الأوکسجین، و إذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضیق تنفّسنا و أصبنا بالإغماء.[4]