إن عدم تجنب المال الحرام ـ بنظر الإسلام ـ سلوک مدان و حرام، و یترک آثاراً سیّئة على نفس الإنسان و قلبه و عائلته، و إن الکثیر من الذنوب تنشأ نتیجة لتلوث روح الإنسان و قلبه.
و یؤثر المحیط فی سلوک الإنسان أیضاً و یلعب دوراً أساسیاً فی تربیة أو تحطیم الإنسان. و لکن تأثیر لقمة الحرام و المحیط الفاسد غیر الطاهر إنما یؤثران على مستوى تهیئة الأرضیة المناسبة و توفیر الشرط للانحراف لا على نحو العلة التامة. بمعنى أنهما یوجدان الأرضیة المساعدة لانحراف الإنسان و نسله و لا یعنی ذلک أنهما یسلبان الإنسان و ذریته حریة الاختیار، فکم من ولد تحدّر من أبوین کافرین و لکنه یسلک طریق الخیر و الصلاح، لأنه یتحرک و یرتقی فی طریق الکمال باختیاره و فطرته و من الجدیر بالذکر أن تأثیر أکل الحرام على الإنسان الکبیر أشد من تأثیره على الطفل الصغیر و الذی لیس لدیه اختیار. فان الأطفال الذین نشأوا و تربوا فی بیوت یؤکل فیها الحرام ثم سلکوا طریق الصلاح و الخیر بعد رشدهم و امتلاک الإرادة و الاختیار لم یرتکبوا ذنباً و لیس علیهم من جریرة، و إن الأرضیة بالنسبة لهم مهیئة أکثر للتکامل المعنوی ممن یعتمد کسب الأموال من طرق محرمة. إذن فأکل الحرام و... بالنسبة للولد و ما یترک من آثار وضعیة لا یرتقی إلى حد سلب الإرادة أو التنافی معها، و إنما تتوقف آثاره فی حدود إیجاد الأرضیة فقط.
أثر لقمة الحرام على مصیر الإنسان و عاقبته:
یحکم نظام الوجود قانون ثابت یتمثل فی کون کل عمل یترک أثراً، على الرغم من عدم إمکانیة رؤیة هذه الآثار بالنسبة لبعض الأعمال فی الظاهر و من تأثیرات أکل الحرام ما یخلفه من آثار فی شخصیة الإنسان و روحه، فقد لا یوجد فرق بین أکل الحرام و أکل الحلال فی الظاهر و لکن لقمة الحرام لها آثار و انعکاسات على شخصیة الإنسان و نفسه، و لکن اکتشاف هذه الآثار خارجٌ عن دائرة علوم البشر الظاهریة و فی نظر الإسلام و العقل السلیم فإن عدم تجنب المال الحرام فی تأمین الاحتیاجات الدنیویة المادیة أمرٌ مدان ینکره الإسلام و یحرمه لما یترکه من آثار سیّئة على نفس الإنسان و قلبه، و إن الکثیر من الذنوب و الخطایا مردها إلى تلوث روح الإنسان. لأن لقمة الحرام أشبه بالماء الملوث الذی یضر بالجسم و یمرضه فإنها تمرض الروح و القلب، یقول تعالى فی القرآن الکریم: «وَ لا تَأْکُلُوا أَمْوالَکُمْ بَیْنَکُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُکَّامِ لِتَأْکُلُوا فَریقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُون»[1].
و مع أن الله سبحانه یشیر إلى مصداق من مصادیق المال الحرام فی الآیة و لکنه یلفت نظر الإنسان إلى قاعدة کلیة و عامّة مؤداها أنه یجب على الإنسان أن یبتعد عن التصرف فی أموال الآخرین بالطرق غیر الصحیحة و المشروعة، و أن لا یتصرف بها بغیر حق فإن ذلک أمر محرم[2].
و هنا نشیر إلى بعض آثار لقمة الحرام من خلال ما ورد فی الروایات:
1ـ قال رسول الله (ص): «من اکتسب مالاً من غیر حله کان زاده إلى النار»[3].
2ـ و قال (ص): «إن لله ملکاً على بیت المقدس ینادی کل لیلة: من أکل حراماً ما، لم یقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، والصرف النافلة والعدل الفریضة».[4]
3ـ و قال الإمام الصادق (ع): «کسب الحرام یبین فی الذریة»[5].
و کذلک جاء فی روایات متعددة أخرى أن لقمة الحرام تؤثر فی إیجاد جیل فاسد و منحرف، و هو من موارد شرک الشیطان[6] فی الأموال و الأولاد[7] و على أساس ما ورد فی الآیات و الروایات إذا کنا نرغب بأولاد صالحین متدینین و عن ذوی الأخلاق و الفضل و... فلا بد أن نسعى جاهدین لتأمین مصدر اقتصادی محلل نسد به احتیاجات أولادنا و نجنبهم آثار لقمة الحرام کی یکون للتربیة و التعلیم أثر فی حیاتهم و سلوکهم.
و من الجدیر بالذکر أن الآثار الوضعیة التی یترکها المال الحرام على شخصیة الإنسان البالغ المختار أضعاف ما یترکه على نفس الطفل الذی لا یملک إرادته و اختیاره، فأکل الحرام بالنسبة إلى الطفل أمر غیر اختیاری و لا یترتب علیه العذاب و العقوبة، و لکنه مع ذلک یضعف من صلابة الأرضیة التی یعتمد علیها للانطلاق نحو التکامل فالأطفال الذین ولدوا و نشأوا فی أسر یتفشى فیها أکل الحرام ثم تغیر واقعهم بعد أن بلغوا رشدهم ومالوا إلى الحلال لم یکونوا مذنبین، و أن الأرضیة التی یقفون علیها أقوى بکثیر من أولئک الذین سلکوا طرقاً محرمة لاکتساب المال و باختیارهم و إرادتهم و لکن مع ذلک فإن الأثر الوضعی للقمة الحرام موجود فی الأبناء، و لکن لیس إلى حد سلب الإرادة و الاختیار أو منافاتها، و إنما فی حدود الأرضیة، فإذا ما رأینا أشخاصاً آلت عاقبتهم إلى الصلاح و الخیر مع وجود أکل الحرام فمرد ذلک إلى أن تأثیر لقمة الحرام فی حدود الأرضیة و الشرط فقط و لا تکون بمنزلة العلة التامة.
و من هنا فالکسب الحرام یشکل أرضیة لدى البعض قد تمیل بهم و بأولادهم إلى الحرام و ما لا یحمد من السلوک و لا یمکن إنکار هذه الحقیقة. و لکن لا تسلبه و أولاده الاختیار، فکم من ولد تحدر من أبوین کافرین، و لکنه سلک طریق الخیر و الصلاح، لأن الإنسان بإمکانه سد هذا النقص بالمعرفة و الاختیار، فعندما علم بحرمة أمواله لجأ إلى التوبة، و إذا کان علیه حق للناس یبادر إلى إرجاعه، و من ثم یبلغ الفلاح من خلال الکسب الحلال فکان مع الصالحین و الطاهرین من الناس.
دور المحیط فی تربیة الإنسان:
المحیط من العوامل المؤثرة فی تربیة الإنسان، و لا شک فیما یترکه المحیط من آثار على أقوال الإنسان و أعماله و مجمل سلوکه، و إنه یلعب دوراً أساسیاً فی بناء شخصیة الإنسان أو تخریبها[8].
إن تأثر الإنسان بأوضاع محیطه و ظروفه أمرٌ لا یقبل الإنکار. و لکن السؤال المهم هو: هل من الممکن للإنسان أن یعمل بکیفیة تحدُ من آثار المحیط السییء و الفاسد على شخصیته، و بعبارة أخرى یبطل مثل هذا التأثیر؟
و الجواب أن الإنسان یمتلک اختیاراً، و إن کماله مرهون باختیاره و عندما یسلک الإنسان طریق الکمال الإلهی و یعرف الموانع و العراقیل التی تصده عن المسیر، فإن المحیط الفاسد لا یمکنه أن یؤثر علیه. و القرآن یعرفنا على موانع و سدود مقاومة المحیط الفاسد نشیر فیما یلی إلى اثنین منها:
1ـ العلم[9] و المعرفة: إن روح التعالیم الإسلامیة لا تنسجم أساساً مع الجهل، و لا یمکن التوصل إلى الکمال و القرب الإلهی و حیازة مرکز ممتاز فی المجتمع من دون العلم. فالإسلام دین ذو أبعاد و جوانب متعددة. و من هنا فالصلاة و الصوم تحظى بأهمیة کبیرة، و طلب العلم أیضاً له قیمة کبرى.
إن إحیاء نفس الإنسان و روحه لا یمکن أن تتحق إلا فی ظل الحقائق العلمیة الأصیلة، یقول الإمام علی(ع): (العلم محیی النفس و منیر العقل و ممیت الجهل )[10].
فأتباع موسى(ع) و على الرغم من الاستفادة من تعالیمه و إراشاداته و لکنهم وقعوا تحت تأثیر المحیط بسبب الجهل و عدم المعرفة فتأثروا بعبادة الأصنام، و لذلک وبّخهم موسى (ع) کما اشار الى ذلک القرآن الکریم فی قوله تعالى: «وَ جَاوَزْنَا بِبَنِی إِسْرَائِیلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ یَعْکُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا یَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا کَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّکُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِیهِ وَ بَاطِلٌ مَا کَانُوا یَعْمَلُونَ»[11].
2ـ إصلاح الوضع[12]: على الإنسان أن یبادر إلى تغییر المحیط الفاسد و غیر الملائم و ذلک من خلال القضاء على بعض الممارسات و السلوکیات غیر الملائمة و اللامطلوبة، و من جهة أخرى تأکید و تکریس الحالات الإیجابیة البنّاءة داخل المجتمع، فإن تغییر الإنسان للظروف الزمانیة و المکانیة و الحالات الإجتماعیة یشکل نقطة انطلاق لتغییر الکثیر من الحالات و السلوکیات.
فعندما غاب موسى علیه السلام مدة عن قومه، استغل السامری هذه الحالة فأخرج لهم عجلاً من الذهب، و بحسب قولهم فإنهم مالوا إلى السامری حین خدعهم بإظهار العجل فسجدوا أمامه و عبدوه، و لکن عندما رجع موسى (ع) و وجد قومه قد فتنهم السامری قرر المواجهة الشدیدة مع ذلک الواقع الفاسد: «قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَکَ فِی الْحَیَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَ إِنَّ لَکَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلَى إِلَهِکَ الَّذِی ظَلْتَ عَلَیْهِ عَاکِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِی الْیَمِّ نَسْفًا»[13].
و من أجل أن یقضی موسى (ع) على فکرة الشرک بادر إلى تغییر الموقع. حیث أخرج السامری، ثم أزال آثار ضلالته من المجتمع، و بهذا اقتلع جذور الفتنة من أساسها.
و من هنا نقول:
على الرغم من نشأة موسى فی بیت فرعون، و لکننا نعلم أن الأنبیاء یمتلکون روحیة. عالیة بسبب الإیمان و المعرفة و الیقین الکامل و الحریة الکاملة التی تمنعهم من ارتکاب الذنوب و إقتراف المعاصی، بل لم یفکروا فی ذلک[14].
و مع الاعتراف بوجود موسى فترة طویلة فی بیت فرعون، و لکن هذا لا یدل على أنه (ع) أکل الحرام، فکما أن الله أنقذه من أمواج ماء النیل یوم ألقی فیه، فمن الممکن أن یهییء له طعاماً حلالاً. و کذلک الأمر بالنسبة لآسیة امرأة فرعون، على الرغم من أنها عاشت فی بیته لا یمکن أن یقال أنه لا یمکنها أن تکون من الصالحین بأی وجه، و ذلک، أولاً: لیس من المعلوم أنها کانت تأکل الحرام، و ثانیاً کما قلنا أن لقمة الحرام لیست علة تامة.
و أما فیما یخص معاویة الثانی فلا بد من القول:
على الرغم من أنه ابن یزید إلا أنه تمکن من معرفة خطأ ما قام به جده معاویة و أبوه یزید من أعمال. و لذلک نأى بنفسه عن الخلافة، و کان هذا الموقف محموداً[15].
أما بالنسبة لأولاد الرشید فمن اللازم ذکره أن الرشید أخذ البیعة لولده القاسم بعد ولدیه الأمین و المأمون، و ذلک فی عام 186هـ و أطلق لقب (المؤتمن) على ولده القاسم و لم یکن طفلاً صغیراً آنذاک، إنما کان حاکم الجزیرة. و إذا سلمنا بکونه إنساناً صالحاً فکلامنا فیه کما هو کلامنا فی من تقدم من الأشخاص.
[1] البقرة، 188.
[2] مکارم الشیرازی، ناصر، التفسیر الأمثل، ج 2، ص 3 – 4، دار الکتب الإسلامیة، طهران، الطبعة الأولى، 1374ش؛ الطباطبائی، السید محمد حسین، تفسیر المیزان، ترجمة الموسوی الهمدانی، السید محمد باقر، ج 2، ص 73 – 74، مکتب انتشارات اسلامی جامعهى مدرسین حوزه علمیه قم، الطبعة الخامسة، 1374ش.
[3] المجلسی، محمد باقر، بحارالأنوار، ج 100، ص 10، مؤسسة الوفاء بیروت - لبنان، 1404 ق.
[4]المصدر نفسه، ص16.
[5] ثقة الاسلام الکلینی، الکافی، ج 5، ص 124، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1365ش.
[6] الإسراء، آیة 64.
[7] بحارالانوار، ج 101، ص 136.
[8]انظر: النوروزی، محمد، آسیب شناسی رفتاری انسان از دیدگاه قرآن، ص66 ـ 69، مرکز طبع ونشر مکتب التبلیغات الإسلامیة، قم، الطبعة الثالثة، 1386ش ؛ شکوهی، محسن، التعلیم والتربیة الإسلامیة، ص85، مرکز تربیة معلم؛ مهدوی، سید سعید، نظرة فی قصص التربیة فی القرآن الکریم، ص222 ـ 230، مرکز طبع ونشر مکتب التبلیغات الإسلامیة، قم الطبعة الثانیة، 1386 ش.
[9] انظر: نظرة فی قصص التربیة فی القرآن الکریم، ص225 ـ 228.
[10]التمیمی الآمدی، عبد الواحد بن محمد، غرر الحکم، ص63، رقم الحکمة 754، منشورات مکتب التبلیغات الإسلامیة، قم، 1366 ش.
[11] الأعراف، 138 – 139.
[12] انظر: نظرة فی قصص التربیة فی القرآن الکریم، ص225 ـ 228.
[13] طه، 97.
[15] راجع حول هذا الموضوع الأسئلة: 14424 (الموقع 14226) و 854(الموقع 928) و5465 (الموقع 5774).