ما یصدر من الطواغیب و المجرمین القساة من سلوکیات ظاهرها اللین و الصلاح لا یکشف بالضرورة عن البعد الانسانی عندهم، و لایکشف عن إیمانهم بحقوق الانسان و قواعد الانسانیة، بل لعله صادر تحت ضغط العرف الاجتماعی و السنن الحاکمة بنحو یعد التمرد علیها معیباً من أی شخص صدر فحینئذ لا خیار أمامهم الا التظاهر بالرأفة و الرحمة و الالتزام بتلک السنن و التقالید لأجل الحفاظ على مکانتهم الاجتماعیة و السیاسیة فی الوسط الاجتماعی، فلا ینطلقون فی سلوکیاتهم هذه من دافع إنسانی أو اخلاقی قطعاً.
نشاهد فی التأریخ الاسلامی مواقف و حالات یقف فیها أعتى المجرمین موقفاً یتصف بالرحمة و الرّقة و الانسانیة!
فهل یصح الحکم علیهم لمجرد تلک المواقف بانهم اناس یؤمنون بکرامة الانسان و حقوق البشر و یحملون بعداً انسانیاً؟! و الا، فما هو السبب الذی دعاهم لیتخذوا مثل هکذا مواقف ایجابیة؟!
و قبل البدء فی الاجابة، من المناسب الاشارة الى اصل الحادثة التی جاء السؤال عنها نقلا عن بعض المصادر التی تعرضت لذکرها:
قال العلامة المجلسی: فلمَّا أَمسى رسولُ اللَّه (ص) جاءت قریشٌ لیدخلوا علیه فقال أَبو لهب: لا أَدعکُمْ أَن تدخلوا علیه باللَیل فإِنَّ فی الدَّار صبیاناً و نساءً و لا نأْمنُ أَنْ تقع یدٌ خاطئةٌ فنحرسهُ اللَّیْلَةَ فإِذا أَصبحنا دخلنا علیه.[1]
فهل کان أبو لهب- الذی وضع هو وزوجه انواع المعقوات و خلق للنبی شتّى المشاکل وهو الآن یشارک فی تلک الجریمة النکراء- فی علمه هذا ینطلق من دوافع انسانیة و ایمان بحقوق البشر؟
التأریخ لایساعد على هذا المعنى و لا یتمکن الانسان الباحث فی التاریخ أن یصل الى هذه النتیجة الایجابیة بحق الرجل و امثاله من المجرمین و القتلة؛ و ذلک لان العرف السائد فی ذلک الزمان یحتم علیهم اتخاذ مثل هذه المواقف، و الا یصبحون عرضة للاستهزاء و السخریة و التحقیر.
و لتتضح الفکرة جیدة نشیر الى نموذجین آخرین وقعا فی معرکة ارتکبت فیها أکبر جریمة وقعت على مرّ التاریخ و هی شهادة الامام الحسین (ع):
1. لما حمل القوم على الامام الحسین (ع) من کل جانب فحالوا بینه و بین رحله (عیاله). فصاح بهم الحسین (ع) ویحکمْ یا شیعةَ آل أَبی سفیان إِنْ لمْ یکن لکم دینٌ و کنتُمْ لا تخافون المعادَ فکونوا أَحراراً فی دنیاکم و ارجعوا إِلَى أَحسابِکُمْ إِذ کنتمْ أَعراباً. فناداهُ شمرٌ فقَال: ما تقولُ یا ابن فاطمة؟َ قال: أَنا الَّذی أُقاِتکم و تقَاتلُونِّی و النِّساءُ لیس علیهِنَّ جنَاحٌ فامنعُوا عتاتکم عنِ التَّعرُّضِ لحرمی ما دمتُ حیّاً!!
فقال شمر: لک هذا. ثم صاح شمر إلیکم عن حرم الرجل فاقصدوه فی نفسه.[2]
2. بعد انتهاء معرکة عاشوراء و دخول بنات الرسالة الى دار الأمارة فی الکوفة جرى حوار بین السیدة زینب و انب زیاد فغضب ان زیاد لعنه الله فاراد قتلها فتصدى له ابن حریث متذرعا بانها امرأة و المرأة لا تواخذ بشیء من منطقها، تقول القصة: لما دخلت زینب و اخواتها الى دار الامارة، قال ابن زیاد: کیف رأیت صنع الله بأخیک و أهل بیتک؟ فقالت: ما رأیت إلا جمیلا هؤلاء قوم کتب الله علیهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم و سیجمع الله بینک و بینهم فتحاج و تخاصم فانظر لمن یکون الفلج یومئذ هبلتک أمک یا ابن مرجانة. فغضب ابن زیاد و کأنه هم بها فقال له عمرو بن حریث: إنها امرأة و المرأة لا تؤخذ بشیء من منطقها.[3] و وقعت حادثة مشابهة لتلک الحادثة فی مجلس ابن زیاد ایضا لما أراد قتل الامام علی بن الحسین السجاد (ع)، تقول الروایة: ثم التفت ابن زیاد إلى علی بن الحسین (ع) فقال: من هذا؟ فقیل: علی بن الحسین. فقال: أ لیس قد قتل الله علی بن الحسین! فقال علی (ع): قد کان لی أخ یقال له علی بن الحسین قتله الناس. فقال: بل الله قتله! فقال علی (ع): الله یتوفى الأنفس حین موتها و التی لم تمت فی منامها. فقال ابن زیاد: أ لک جرأة على جوابی اذهبوا به فاضربوا عنقه!! فسمعت به عمته زینب فقالت: یا ابن زیاد إنک لم تبق منا أحدا فإن کنت عزمت على قتله فاقتلنی معه.[4]
و هنا نتساءل هل کان الشمر و ابن زیاد - لعنهما الله- یحملان ذرّة من الانسانیة جعلتهما یقفان تلک المواقف اللینة و التراجع عن قرار مهاجمة الخیام أو القتل؟!!
لاریب أن الأمر لم یکن کذلک قطعا، و انما اتخذا تلک المواقف تحت ضغط العادات و التقالید الاجتماعیة و العرفیة التی کانت حاکمة فی تلک البرهة الزمنیة، و الا ستبقى العیون تلاحقهم بالغمز واللمز و الاستهانة و التحقیر هم و انباؤهم. فانهم یستطیعون تضلیل الرأی العام و تبریر موقفهم من الامام الحسین (ع) و قتله مع اصحابه و أهل بیته تحت ذریعة الخروج على الشرعیة و التمرد على الحاکم الاسلامی و أمثال ذلک من التحریف و الکذب، و لکنهم بأی شیء یعتذرون أمام الناس فی قتل النساء و الاطفال و کیف یبررون ذلک؟.
و قد أشار أمیر المؤمنین (ع) الى ذلک العرف الاجتماعی السائد، بقوله: " و لا تَهِیجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى و إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَکُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَکُمْ، إِنْ کنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْکَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِکَاتٌ و إِنْ کان الرَّجل لیتناولُ المرْأَةَ فِی الْجَاهِلِیَّةِ بِالفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَیُعَیَّرُ بِهَا و عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِه".[5]
و أما أبو لهب فبالاضافة الى موقعه الاجتماعی البارز فی ذلک الزمان فی الوسط القرشی، کانت تربطه بالرسول الاکرم (ص) و اسرته رابطة نسبیة فهو عم النبی (ص)، فاذا ما منع من الهجوم على الدار لیلاً لکی لا تروع النساء و الاطفال فهذا انما ینطلق فیه من منطلقات قبلیة و عشائریة، و الا سیعیّر بها على مر الایام و سیعرض موقعه الاجتماعی للخطر، فلم ینطلق الرجل من دواعی انسانیة و ضمیر حی، بل کان الدافع له لاتخاذ ذلک الموقف الایجابی، حفظ ماء وجهه و مکانته الاجتماعیة.
بطبیعة الحال هناک من هو عدیم الحیاء فی ذلک المجتمع و لا یتورع عن المجازفة بسمعته و مکانته هو على استعداد للقیام بذلک الفعل الشنیع.
وفی عالمنا المعاصر توجد هناک بعض النماذج التی تظهر أحیاناً موقفاً یظهر منه اللین بسبب العرف السیاسی و الدولی الضاغط، فعلى سبیل نرى الصهاینة الذین لم یترکوا جریمة الا اقترفوها بحق الاطفال و العزل و النساء و احرقوا الحرث و النساء خلال أکثر من ستین عاماً، و لکنهم فی الوقت نفسه لا یسمحون لجیوشهم باستعمال الاسلحة النوویة التی بامکانها حرق الارض الفلسطینیة و من علیها، او تراهم یحذورن السکان قبل ضرباتهم الجویة!! فهل ینطلق هؤلاء من دواعی انسانیة و هم الذین لم یشمّوا رائحتها؟!! لکن الحقیقة أنهم یخشون الضغط الدولی و هیجان الرأی العام العالمی ضدهم و کذلک یخشون العزلة و الانزواء فی المحافل الدولیة، فمن هنا تراهم یظهور تلک اللیونة النسبیة لیخدعوا بها الرأی العام و لیظهروا قادتهم بصورة الحمل الودیع و الدولة التی تحمل طابع الانسانیة و احترام حقوق الانسان، و الحال أنهم لا یمسحون لجنودهم و المراتب الدانیة من جیوشهم باتخاذ هکذا مواقف لیّنة و افعال ظاهرها الانسانیة!!!
[1] المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 19، ص 50، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 هـ ق.
[2] الحلی، ابن نما، مثیر الأحزان، ص 73-72، مدرسة الإمام المهدی (عج)، قم، 1406 هـ ق.
[3] السید بن طاووس، اللهوف علی قتلی الطفوف، ص 161-160، انتشارات جهان، طهران، 1348 هـ ش.
[4]نفس المصدر، ص162.
[5] نهج البلاغة، رسالة رقم 14، ص 373، دار الهجرة للنشر، قم، بدون تاریخ.