التقیة: هی نوع تکتیک مدروس شرع لأجل حفظ القوی البشریة و الأفراد المؤمنین من الهلاک بسبب امور صغیرة و غیر ذات أهمیة. لذلک فالتقیة هی طریقة عُقلائیة و منطقیة –قبل أن تکون برنامجاً إسلامیاً- لکل من هو فی حال جهاد مع العدو.
و التقیة تختلف فی حُکمها حسب الموارد و الظروف المختلفة، فتارة تکون واجبة و تارة تحرم و أخری تکون مباحة، أما التقیة الواجبة ففی الوقت الذی تکون حیاة الإنسان عرضه للخطر من دون ثمرة مهمة، أما إذا کانت التقیة و السکوت موجبة لترویج الباطل و تقویة الظلم و ضلال الناس فهی ممنوعة و محرمة.
أما المنافقون، فهم فئة لا یؤمنون بالله و لا بالآخرة فی قلوبهم، و لکن یظهرون ذلک أمام الناس فهم یبطنون الکفر ویظهرون الإیمان، و اما التقیة فتقع تماماً فی النقطة لمقابلة.
واما الذلة و الخنوع و قبول الظلم فلا تظهر إلا إذا کان سبب کتمان الحقائق و عدم اظهار العقائد الحقة هو الخوف و الجُبن. و لکن التقیة لا تعنی الضعف و الخوف و الجُبن، بل هی دائماً تستعمل کاداة مؤثرة فی جهاد الجبابرة و الظلمة.
واما فی مسائل الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر فلا بد من الحیطة و التحرز والتدبیر و امعان الفکر و المنطق لذلک؛ و من هنا نرى علماء الاجتماع یشیرون الی السبب فی انقراض الخوراج قائلین: "ان سرّ انقراض الخوارج هو إنکارهم للمنطق کوسیلة للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، فعقیدتهم هی عدم ضرورة التقیة بعنوانها تکتیک مهم فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.
نجد من الضروری قبل الدخول فی بحث و دراسة أصل السؤال، بیان المعنی اللفظی و الاصطلاحی للتقیة و کذلک بیان أدلتها: "التقیة" فی اللغة هی الوقایة و الاعراض عن الضرر. و فی الاصطلاح، اظهار الصلح و المسالمة و ان عمل باطناً خلاف ذلک.
و التقیة من المواضیع التی لها جذور فی الکتاب و السنة، و هی موافقة لوظیفة المکلّف و تعتبر من الأحکام الثانویة، و إن خالفت الحکم الاولی.
فالتقیة فی الحقیقة تعد نوعاً من الکتمان و تتبعها أهداف مقدسة منها:
الف: حفظ المؤمنین من الانقراض علی أیدی الظالمین.
ب: حفظ طاقات العناصر المؤمنة لاستفادة منها فی الظروف الحساسة و المصیریة.
ج: حفظ الأسرار و الخطط و البرامج من الوقوع فی أیدی الأعداد.
و من هنا نجد القرآن الکریم قد اضفی الشرعیة علی تقیة عمار بن یاسر مقابل المشرکین، عندما نطق بکلمة الکفر أمامهم لحفظ حیاته، ثم بعدها اظهر تألّمه الشدید علی ما صدر منه فنزلت آیة تُبیّن أن عمله کان مرضیاً من قبل الله سبحانه. یقول الإمام الباقر (ع) فی هذا المورد: "ان التقیة من دینی و دین آبائی، و لا إیمان لمن لا تقیة له". و عن الإمام الصادق (ع): "التقیة ترس المؤمن و التقیة حرز المؤمن و لا ایمان لمن لا تقیة له".
أخیراً فالتقیة تعتبر نوع تکتیک مدروس شرع لأجل حفظ القوی البشریة و الأفراد المؤمنین من الهلاک بسبب امور صغیرة و غیر ذات أهمیة. و ذلک لأن العقل لا یرضی أن یُعرّف المجاهدون أنفسهم للأعداء و یعرّضوا أنفسهم للخطر تبعاً لذلک و هم أقلیة فیصبحوا عرضه للهلاک علی أیدیهم. لذلک فالتقیة هی طریقة عقلائیة و منطقیة قبل أن تکون برنامجاً إسلامیاً لکل من هو فی حال الجهاد مع الأعداء.[1]
بناء علی ما بیّنا سیکون الجواب کالترتیب الآتی:
1- تختلف التقیة فی حُکمها حسب الموارد و الظروف المختلفة، فتارة تکون واجبة و تارة تحرم و اخری تکون مباحة.أما التقیة الواجبة فهی عندما تعرض حیاة الإنسان للخطر من دون ثمرة مهمة، أما إذا کانت التقیة و السکوت موجبة لترویج الباطل و تقویة الظلم و من ثم ضلال الناس فهی ممنوعة و محرمة. فقد یحصل فی تاریخ الجهاد الدینی أو الإجتماعی أو السیاسی، ان المدافعین عن الحقیقة إذا أرادوا أن یُمارسوا جهادهم علناً یعرضون أنفسهم و مذاهبهم للخطر أو الهلاک و هذا ما حصل لشیعة أمیر المؤمنین (ع) فی زمن حکومة بنی أمیة الغاصبة. ففی تلک الظروف یحکم العقل بعدم تضییع المؤمنین لقواهم و طاقاتهم بل علیهم أن یُمارسوا الجهاد الخفی غیر المباشر للوصول الی أهدافهم المقدسة. و فی الحقیقة تعتبر التقیة لهذا الصنف من المذاهب و لأتباعهم فی هذه اللحظات الحساسة نوع تغییر مدروس لشکل الجهاد یُمکن أن یحفظ حیاتهم من الهلاک، و من ثم یصل جهادهم و جهودهم الی النصر.
و من هنا نتساءل: ماذا یفعل من ینفی التقیة تماماً و یعتبرها باطلة لو تعرض لمثل هذه المواقف الحساسة و المصیریة؟! فهل الاقدام علی الموت و الهلاک هو النموذج الاکمل و الصحیح أو الجهاد بطریقة مدروسة و خطط محکمة و منطقیة؟ فالطریق الثانی هو التقیة و الأول لا یُمکن لأی أحد أن یُجوّزه.[2]
من جهة اخری نری الإمام الخمینی (ره) یقول فی وقت کان الخوف و القلق یملأ کل إیران، لا مجال الآن للتقیة: "قد تکون التقیة حراماً، فعندما یری الإنسان دین الله فی خطر لا یُمکنه أن یتقی، فعندئذٍ یجب أن یُقدم مهما کانت النتائج، فالتقیة فی الفروع لا فی الاصول، و التقیة لأجل حفظ الدین، فإذا کان الدین فی خطر فلا مجال للتقیة، و لا مجال للسکوت".[3]
خلاصة القول ان التقیة هی مهمة لمصلحة الدین لا لمصلحة الدنیا، لذلک کلما کانت التقیة و السکوت یفوت مصالح أهم أو یوجد مفاسد أکبر فالعقل و الشرع یحکمان بعدم جواز التقیة.
2- المنافق هو من یخفی کفره و یظهر خلافه، و المنافقون، هم فئة لا یؤمنون بالله و لا بالیوم الآخر فی اعماق قلوبهم و لکنهم مع ذلک یظهرون الإیمان أمام المسلمین.[4] لکن نجد فی تعریف التقیة انها تقع تماماً فی النقطة المقابلة للنفاق، و ذلک لأن الشخص المتقی مؤمن بالله فی قلبه بشکل کامل، و بسبب هذا الإیمان و لأجل حفظ مصالح و أهداف مقدسة یقدم علی التقیة و کتمان ما فی قلبه.
3- أما عن الذلة و الصغار (التی فرضت فی السؤال مع التقیة) فیجب القول: ان الذلة و قبول الظلم فلا تظهر إلا إذا کان سبب کتمان الحقائق و عدم اظهار العقائد الحقة هو الخوف و الجبن.
فالتقیة أو (کتمان الإعتقاد) لیست من الضعف أو الخوف کما یظن البعض، بل غالبا ما توظّف کأسلوب مؤثّر فی إدارة مع الظالمین و الجبارین و الطغاة، إذ أن کشف أسرار العدو لا یمکن أن یتمّ إلا عن طریق الأشخاص الذین یعملون بأسلوب التقیة.
و کذلک الضربات الموجعة و المباغتة للعدو، لا تتمّ إلّا عن طریق التقیة و کتمان الخطط و أسالیب الصراع.[5]
لذلک نؤکّد أولا: ان التقیة لا تنحصر فی حالات الخوف و تحمل الصعوبات. ثانیاً: و إذا کان سببها الخوف فمن الضرورة أن لا یکون الخوف علی نفسه بل ربما تکون بسبب حفظ حیاة أو مال أو عرض المؤمنین أو قد تکون بسبب احتمال تعرض الاسلام نفسه للضرر و المخاطر، کالخشیة من وقوع الفرقة بین المسلمین، نعم قد تشرع التقیة لحفظ النفس أو العرض أو مال الأشخاص، و هذا لا یعنی الفرار من الموت أو العذاب المستحق، و ذلک لأن الأصل الاولی هو أن یحفظ الإنسان نفسه و عدم القائها فی الهلاک [6] إلا فی موارد أهم.[7]
4- أما عن حدود التقیة و علاقتها بمسألة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر، فمن المناسب هنا الاشارة الی لکلام الشهید المطهری حول هذا الموضوع:
"یجب أن یستعمل الإنسان فی مسائل الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر تدبیره و فکره و منطقه. یقول العلماء الذین لهم مطالعات فی المسائل الاجتماعیة: ان سر انقراض الخوارج هو إنکارهم للمنطق کوسیلة للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر (طبعاً المعروف و المنکر الذی یرونه معروفاً و منکراً برأیهم، و کثیراً ما لم یطابق الحق). حیث یأتی الخارجی و یتکلّم أمام جبّار متفرعن شاهراً لسیفه مع علمه بأن کلامه لیس له أی تأثیر فیقدم الحاکم علی اعدامه فی الحال. و من هنا تکون مواقفهم اشبه بالمواقف المتهورة و غیر المدروسة، فلا منطق یحکم سلوکایتهم و لا محاسبة لأعمالهم، یرمون بأنفسهم الی المهالک بدون أی تقدیر.فعقیدتهم هی عدم ضرورة التقیة بعنوانها تکتیک لهم فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر. فما یحکم منطقنا من وجوب تحکیم العقل و اعمال الموازنة بین النفع و الضرر، فلا تقدم الا حین یکون النفع أکثر من الضرر، مفقود فی منطقهم. بل یقولون علینا أن نأمر بالمعروف و ننهی عن المنکر و لو بلغ ما بلغ. فأکبر سبب لإنقراضهم هو إنهم لا یرون للمنطق أی دخل فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و الحال إنه کذلک".[8]
[1] بالاستعانة بجواب السؤال 1779 (الموقع: 2132).
[3] صحیفة الإمام، ج8، ص11، مؤسسة تنظیم و نشر آثار الإمام الخمیبنی (ره)، الطبعة الرابعة، 1386 ش.
[5] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج15، ص: 250.
[6] القبرة، 195” وَ أَنفِقُواْ فىِ سَبِیلِ اللَّهِ وَ لَا تُلْقُواْ بِأَیْدِیکُمْ إِلىَ التهَّلُکَةِ وَ أَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ یحُبُّ الْمُحْسِنِین”.
[7] بالاستعانة بجواب السؤال 1779 (الموقع: 2132).
[8] الاستاذ الشهید المطهری، مجموعة آثار، ج21، ص92، بالاستعانة ببرمجة نور الکامبیوتریة.