و علی ای حال فالسبب مهماً جداً فهو یرتبط بالامام (ع) نفسه و أصحابه. و ان ما یدعو للسؤال هو التناقض الموجود بین القصص التی تسمع فی مراسم التعزیة للامام الحسین (ع) فی موضوع قلة الماء فی الخیام الامام (ع) مع ما یذکره التاریخ.
و قد نقلت العبارات المتقدمة من الجز الثالث من (الکامل فی التاریخ، طبعة بیروت 1987 م . دار الکتب العملیة) لابن الاثیر الجزری (المتوفی سنة 630 هـ.ق) صفحة 418.
و بعض المصادر التی نقلت هذه القصة هی عبارة عن:
مقتل الحسین، الجزء الخامس من طبقات الآثار للواقدی، تاریخ الطبری، محمد بن الطبری (310 – 224 هـ.ق) الجزء الخامس، ص 422 – 423 ، الطبعة الثانی، القاهرة 1967 م، دار المعارف)؛ البدایة و النهایة، ابن کثیر (774 – 71 هـ.ق)، الجزء 11 ، ص 534 ، الطبقة الاولی، دار هجر، 1998؛ مسیرة الأئمة (ع)، السید محسن الأمین العاملی و غیره.
و بالالتفات الی ما تقدم نری ان أزمة الماء لم تکن موجودة الی صبح یوم عاشوراء علی الاقل فکان عندهم ما یکفیهم من الماء بحیث ان الامام (ع) و اثنین من اصحابه علی الاقل اغتسلوا. و من المسلم انه لو کان الوضع بحیث انهم یحتملون مواجهة شحة الماء – کما نسمع فی المجالس لکانوا یحتفظون بالماء لکیلا یتلّظی الأطفال من الظلمأ.
فکیف نحل هذا التناقض؟
بعد دراسة الروایات التاریخیة المتعلقة بعطش أصحاب و أهل البیت الامام الحسین (ع) و الروایات التی تتحدث عن غسل و وضوء و اغتسال الامام و أصحابه صبح عاشوراء، ینبغی أن یقال: ان ما هو من قطعیات التاریخ فی هذا المجال هو أمران: أحدهما محاصرة معکسر الامام (ع) و منعهم من الوصول الی الماء، و الآخر هو عطش الامام الحسین (ع) فی حین شهادته. اما النقول الأخری التی وردت فی الکتب التاریخیة فلیس أی منها قطعیاً و لیس لها اسناد قابلة للاعتماد تماماً.
و اذا تجاوزنا الاشکال السندی للروایات و أردنا أن نفسّر جمیع النقول التاریخیة جنباً الی جنب و أن نجمع بینها، فیجب أن نذکر بعدة ملاحظات:
1. ان الامام (ع) و أصحابه کانوا علی یقین من استشهادهم و کانوا قد هیّأوا أنفسهم للشهادة. و بناء علی هذا، فقد أراد الامام أن تتحقق هذه الشهادة علی أجمل صورة ظاهریة و باطنیة، و ان تتجلی الطهارة و القداسة فی أدق مفرداتها. و نحن نعلم أن الغسل طهارة و نظافة ظاهریة و هو أیضاً یحقق الأرضیة للطهارة الباطنیة و المعنویة. و ینبغی الالتفات ضمناً ان الغسل لا یستلزم استعمال ماء کثیر (علی خلاف عادتنا)، بل یمکن الاغتسال بماء قلیل جداً.
2. ان المحاصرة و التضییق علی الماء من قبل الأعداء، و حرارة الجو کانت تشتّد بمرور الوقت اذن فیمکن القول انه حینما أمر الامام بالغسل و التنظیف و الاغتسال کان یمکن توفیر الماء حینئذ بطریقة ما، و بعد ذلک اشتد الحصار و الضغط من قبل العدو و ارتفعت درجة حرارة الجو فاشتد العطش فی معکسر الامام فیما بعد الظهیرة.
3. یحتمل أن تکون المیاة المستعملة فی الغسل من المیاه غیر الصالحة للشرب.
و بناء علی ذلک یمکننا قبول کلا الطائفین من الروایات.
ان الادلة و الشواهد التی وصلتنا حول عطش الامام الحسین (ع) و أصحابه و منعهم من الماء هی کما یلی:
1. اتفقت جمیع النقول التاریخیة تقریباً، ان الماء منع عنهم قبل ثلاثة أیّام تقریباً من استشهاد الامام (ع) و أصحابه. فقد أمر ابن زیاد عمر بن سعد (لع) أن یحول بین الحسین بن علی و بین الماء و لایسمح لهم بالوصول الی الماء و قد عین عمر بن سعد عمر و بن الحجاج و معه 500 رجل علی غلق طریق الورود الی الماء و قیل بان هذا المنع قد حصل قبل ثلاثة أیام من استشهاد الامام و اصحابه.[1]
2. من مجموع النقول التاریخیة للشیعة[2] و أهل السنة[3] و الروایات عن النبی (ص)[4] و الأئمة المعصومین (ع)[5] و الزیارات الواردة[6]یمکن القول؛ بان استشهاد الامام الحسین (ع) عطشاناً هو أمر مسلم و یقینی و قد دلّت علیه الأخبار المتواترة.
3. قد ذکرت کثیر من النقول بشکل واضح عطش الامام (ع) و أصحابه و أهل بیته فی یوم عاشورا، و منها:
الف. الروایة التی تنقل عطش علی الاکبر ساعة القتال، حیث خاطب أباه قائلاً: "العطش قد قتلنی".[7]
ب. الروایة التی تذکر أن العباس (ع) تحرک نحو المیدان لتهیئة الماء و رفع عطش الأطفال قبل شهادته.[8]
ج. کلام الحرّ (ره) مخاطباً الکوفیین بقوله: و حلأتموه و نساءه و صبیته و أهله عن ماء الفرات الجاری تشربه الیهود و النصاری و المجوس و تمرغ فیه خنازیر السواد و کلابهم و ها هم قد صرعهم العطش.[9]
لکن و مع وجود الأدلة المتقدمة، توجد نقولٌ اخری فی الکتب التاریخیة و الروائیة تتحدث باشکال مختلفة عن حصول معسکر الامام علی الماء فی مدة الحصار و منها:
د. کسر حصار الماء من قبل العباس (ع). فقد روی الکثیر انه بعدما اشتد العطش بعد منع الماء عن الامام و أصحابه، ارسل الامام (ع) العباس مع جماعة لجلب الماء، و توجهت هذه المجموعة نحو المشرعة و حصل اشتباک بینها و بین جیش عمرو بن الحجاج.
و حول نتیجة هذه العملیة تذکر اکثر المصادر (و أغلبها مصادر أهل السنة) أنهم نجحوا فی ذلک و رجعوا بقرب مملوءة ماء الی الخیام.[10] لکن صاحب (انساب الاشراف) یقول بعد ذلک: و قیل انهم لم یتمکنوا من ایصال ماء کثیر الی معکسر الامام و ذلک لمقاومة جیش عمر بن سعد.[11] و یتحدث کتاب مثیر الأحزان أیضاً بعد نقله لارسال مجموعة من أصحاب الامام للحصول علی الماء، عن مقاومة عمرو بن الحجاج لهم و لم ینقل خبراً عن ایصال الماء، الی معسکر الامام.[12]
هـ . نقل بعضهم انه بعد منع الماء ذهب الامام (ع) وراء الخیام و حفر عدة أماکن من الارض فجرت منها العیون و ارتوِی جمیع الاصحاب و ملأوا قربهم، و حینما علم عمر بن سعد بذلک أمر بمنعهم.[13]
ح. الاخبار التی تنقل غسل و تنظیف الامام و أصحابه قبل بدء القتال. فقد نقل الشیخ الصدوق عن الامام الصادق (ع) ان الامام الحسین (ع) قال لأصحابه (و الظاهر انه کان صباح یوم عاشوراء). قوموا فاشربوا من الماء یکن آخر زادکم و توضّئوا و اغتسلوا و اغسلوا ثبابکم لتکون اکفانکم ثم صلی بهم الفجر .[14]
و بالالتفات الی المستمسکات التاریخیة الموجودة و التی ذکرت خلاصتها نحصل علی الملاحظات و النتائج الآتیة:
1. من المسلم ان جیش عمر بن سعد سعی فی منع وصول الماء الی معکسر الامام قبل ثلاثة ایام من استشهاده، و هذا یدّل علی أن اصحاب الامام کانوا فی أزمة شدیدة للماء و کانوا مضطرین للقتال من أجل الحصول علی الماء فی أیام الحصار.
2. ان کل مسلم و مؤرخ علی یقین من أن الامام الحسین (ع) سبط النبی و سید شباب أهل الجنة قتل عطشاناً و لم یسمح له أی من الاعداء القساة من الوصول الی الماء فی اللحظات الأخیرة من عمره الشریف.
3. و حول الأخبار الاخری التی وردت فی الکتب التاریخیة لا یمکننا الحکم علیها بشکل قاطع، لانها لم تصل الی حد التواتر و لیس أی منها قابلاً للاعتماد علیه سنداً، لوجود الفاصلة الکبیرة بین رواتها أو ان بعض رواتها غیر معروف او غیر قابل للاعتماد. اذن فیجب التعامل معها معاملة الظن و الاحتمال. و علیه فلا یمکننا القول بشکل قاطع بعطش معکسر الامام لیومین أو ثلاثه أیام و لایمکننا أیضاً الاعتقاد بتوفر الماء الکثیر فی حرم أبی عبدالله (ع).
4. اذا تجاوزنا الاشکال السندی للروایات و أردنا أن نفسر جمیع الروایات التاریخیة مع بعضها البعض و أن نجمع بینها، یجب أن نذکر بعدة ملاحظات:
الف. ان الامام و أصحابه کانوا علی یقین من استشهادهم و قد هیأوا أنفسهم للشهادة. و الشواهد و القرائن الظاهریة کانت بحیث انها، اولاً: لا یمکن ان تکون نتیجة القتال غیر الشهادة و قتل الامام و أصحابه. ثانیاً: ان فترة القتال و الحرب لا ینبغی ان تکون طویلة عادة، لان عدد أنصار الامام قلیل جداً بالقیاس الی أفراد العدو و لا یتطلب قتل ما یقارب المائة شخص من قبل الآلاف زمانا طویلاً، کما یذکر التاریخ ان خمسین شخصاً تقریباً ای نصف أنصار الامام (ع) استشهدوا فی الحملة الاولی صباح عاشورا.[15] و بناء علی هذا فقد أراد الامام أن تتحقق هذه الشهادة علی أجمل صورة ظاهریة و باطنیة و تتجلی القداسة و الطهارة فی أدق مفرادتها، و نحن نعلم ان الغسل طهارة و نظافة ظاهریة و أیضاً یحقق أرضیة للطهارة الباطنیة المعنویة. و یجب الالتفات ضمناً انه و علی خلاف عادتنا فان الغسل لا یستلزم استهلاک ماء کثیر، بل یمکن الغسل بماء قلیل جداً.
ب. یجب الالتفات الی ان الحصار العدو و تضییقه علی الماء[16] من جانب، و من جانب آخر حرارة الجو کانت تشتّد بمرور الوقت و فی النتیجة فکلّما مضت فترة من الزمان تشتد الازمة و یصعب وصول الامام و أنصاره الی الماء، فالذین یستشهدون لاحقاً کانوا هم أشد عطشاً، فعلیه یمکن القول بان الوقت الذی أمر فیه الامام بالغسل و التنظیف و الاغتسال کان یمکن فیه توفیر الماء بأی نحو من الانحاء، ثم بعد ذلک اتشد الحصار و التضییق من قبل العدو و ارتفعت حرارة الجو فواجه معسکر الامام العطش الشدید فی فترة ما بعد الظهر.
ج. یحتمل ان یکون الماء المستعمل فی الغسل من المیاه غیر الصالحة للشرب.
و علی ای حال یبدو انه بالالتفات الی هذه الملاحظات یمکن رفع التناقض الموجود بین هذه الروایات الی حدٍٍما.
[1] لاحظ: تاریخ الطبری، ج 5، ص 409؛ البدایة و النهایة، ج 8، ص 175؛ الاخبار الطوال، ص 255؛ انساب الاشراف، ج 3، ص 181؛ روضة الواعظین، ج 1، ص 182؛ الارشاد، ج 2، ص 86 و بهذا المضمون، کشف الغمة، ج 2، ص 47؛ اعلام الوری، ص 235؛ الامامة و السیاسة، ج 2، ص 11.
[2] اللهوف، ص 117؛ بحار الانوار، ج 45، ص 56.
[3] البدء و التاریخ، ج 6، ص 11؛ الاخبار الطوال، ص 258.
[4] بحار الانوار، ج 44، ص 245.
[5] کامل الزیارات، ص 131؛ وسائل الشیعة، ج 3، ص 282 و ج 25، ص 278؛ مستدرک الوسائل، ج 10، ص 237 و 239.
[6] کامل الزیارات، ص 151 و 168 و 131.
[7] بحار الانوار، ج 45، ص 43؛ الفتوح، ج 5، ص 115.
[8] بحار الانوار، ج 45، ص41.
[9] بحار الانوار، ج 45، ص 10، الارشاد، ج 2، ص 100؛ اعلام الوری، ص 242؛ تاریخ الطبری، ج 5، ص 428؛ الکامل، ج 4، ص 65.
[10] تاریخ الطبری، ج 5، ص 412؛ الاخبار الطوال، ص 255؛ الفتوح، ج 5، ص 6؛ انساب الاشراف، ج 3، ص 181؛ بحار، ج 44، ص 387، و بهذا المضمون، الامامة و السیاسة، ج 2، ص 11.
[11] انساب الاشراف، ج 3، ص 181.
[12] مثیر الاحزان، ص 71.
[13] بحار الانوار، ج 44، ص 387؛ الفتوح، ج 5، ص 91.
[14] الامالی، الصدوق، ص 150.
[15] بحار الانوار، ج 45، ص 12.
[16] بحار الانوار، ج 44، ص 388.