من يلاحظ السيرة الذاتية لجميع الائمة و تاريخهم الذي امتد الى اكثر من قرنين يكتشف و بوضوح تام عدم تعطشهم للسلطة و الهيمنة، بل كانوا بعيدين كل البعد عن حب الجاه و السلطة. فالامام الذي يرفض الحكم لمجرد وجود شرط واحد لا يرتضيه لنفسه او يصف الحكم إذا لم يحقق العدل و القسط في المجتمع بانه أهون من عفطة عنز، أو يفضل الوزارة على الخلافة، لا يمكن بحال من الاحوال ان يوصف بانه طالب دنيا او متعطش لحكم او سلطان!!
واما بالنسبة الى موروثية الامامة فان الوراثة تارة تكون لمجرد القرابة و النسب و لا يتوفر الوريث على أية مقومات و مؤهلات ذاتية تجعله جديرا بهذا المنصب، و هذا ما ترفضه الشريعة و يذمه العقل، و اما اذا كانت قائمة على وجود مؤهلات ذاتية لذلك المقام لا تتوفر في غيرهم و تنطلق من تنصيب مباشر من الله تعالى لانه سبحانه اعلم حيث يجعل رسالته، و ان النص الشرعي قائم على ذلك، فلا مانع من ذلك عقلا و لا عرفا. و من الواضح جداً ان وراثة الامامة تعد من النوع الثاني القائم على الجدارة و الكفاءة الشخصية، و ان المعيار في الاستخلاف النص الشرعي؛ فقضية الامامة لا تختلف من هذه الحيثية عن النبوة التي انتقلت من إبراهيم الى ولديه اسماعيل و اسحاق (ع) و انتقلت بعد اسحاق الى ولده يعقوب ثم منه الى يوسف (ع) و...
للاجابة عن السؤال المطروح لابد من الاشارة الى قضيتين:
القضية الاولى: من يلاحظ السيرة الذاتية لجميع الائمة و تاريخهم الذي امتد الى اكثر من قرنين يكتشف و بوضوح تام عدم تعطشهم للسلطة و الهيمنة، بل كانوا بعيدين كل البعد عن حب الجاه و السلطة، و اذا ما قدر لاحدهم (ع) أن يدافع عن حق في برهة زمنية معينة انما يفعل ذلك لان الواجب الشرعي قد اقتضى ذلك و انه يتحرك لامتثال الامر الالهي لا لتحقيق رغبات و ميول شخصية، و هنا نشير الى نموذجين يؤكدان تلك الحقيقة:
1. يحدثنا التاريخ انه و بعد انعقاد الشورى السداسية التي عينها عمر بن الخطاب لاختيار الخليفة من بعده، تنازل الزبير لعلي (ع) و تنازل طلحة لصالح عثمان، و تنازل سعد بن ابي وقاص لصالح عبد الرحمن بن عوف، فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي (ع) مبايعته شريطة العمل بسيرة الشيخين! فقال: بل أجتهد برأيي. فبايع عثمان بعد أن عرض عليه، فقال: نعم.[1]
و الجدير بالذكر ان بعض السياسين يرون ان الاجدر – حسب رأيهم- بالامام الموافقة على الشرط المذكور موافقة صورية و عدم تفويت الفرصة، ثم التنصل عن الشرط الذي اخذه على نفسه في مقام العمل، و هذا المعنى يدركه كل من ينظر الى الحكم و السياسة نظرة دنيوية براغماتيه نفعية، الا ان الامام بنظرته الالهية رفض هذا المنطق الميكافيلي لانه لا يريد الحكومة للحكومة و انما يريدها كوسيلة لاحقاق الحق و اقامة القيم.
2. لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ فِيهِمْ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ فَأَتَوْا عَلِيّاً فَقَالُوا لَهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إِمَامٍ قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِي أَمْرِكُمْ فَمَنِ اخْتَرْتُمْ رَضِيتُ بِه، فَإِنِّي أَكُونُ وَزِيراً خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَكُونَ أَمِيراً.[2]
فهل هذا المنطق الرصين منطق رجل يلهث وراء الحكم و حب السيطرة و الحكم؟! و ما أي ميزان من موازين الهيمنة ينسجم هذا الموقف الرافض للسلطة؟!!
و من الواضح أنه لولا إهتمام الامام بشأن العدالة و إقامة القسط و العدل في الوسط الاجتماعي لما فكر هو و سائر الائمة لحظة واحدة بالتصدي لامر الحكومة و تسلم السلطة، و لكانت السلطة و الدنيا عندهم كما عبر عن ذلك أمير المؤمنين (ع): "لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ".[3]
القضية الثانية: وراثة النبوة و الحكومة الوراثية يمكن أن ينظر اليها من زاويتين:
1. الوراثة بلا توفر أية لياقات و مؤهلات لدى الوارث، و إنما يرث لصرف القرابة و النسب فقط، حيث ينتقل المنصب من القريب الى القريب منه، و هذا ما ترفضه الشريعة المقدسة و يذمه منطق العقل و العقلاء.
2. ان يتصدى الشخص للمنصب لجدارته و ليقاته الخاصة لا اعتمادا على منطق القرابة، و من الواضح ان هذا النوع من التصدي للسلطة و استلام المناصب يختلف اختلافا جوهريا عن النوع السابق، و من هنا نحاول نحاول تسليط الضوء على هذا الاصل من خلال رصد تاريخ الانبياء و الاديان الالهية، ثم التعريج على تاريخ الائمة (ع).
1-2. يحدثنا القرآن الكريم بان النبي إبراهيم (ع) بعد وصل الى مقام الامامة طلب ذلك لذريته فكان الجواب الالهي: " وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمين".[4]
2-2. طلب موسى (ع) الوزارة لاخيه هارون (ع) " وَ اجْعَلْ لي وَزيراً مِنْ أَهْلي هارُونَ أَخي".[5]
3-2. قوله تعالى: " وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُد".[6]
و الملاحظ ان كافة النماذج المذكورة لم تحصل الوراثة فيها من فراغ و خلو الوريث من المؤهلات الشخصية، بل كانت في حقيقتها تحكي عن جدارة الوريث لهذا المنصب، و هذا ما أقره القرآن الكريم.
أما بالنسبة الى الائمة أبتداء من أمير المؤمنين و انتهاء بالامام المهدي عليهم السلام، فنحن ننطلق في القول بإمامتهم من النص النبوي الذي اشار الى ذلك، كما في الحديث المروي عن النبي الاكرم (ص) مخاطبا أمير المؤمنين (ع): " أنت وارثي".[7]
و هكذا الامر بالنسبة لسائر الائمة حيث جاء النص عليهم من قبل النبي الاكرم (ص)، و بهذا يتضح ان وراثة الامامة تعد من النوع الثاني القائم على الجدارة و الكفاءة الشخصية، و ان المعيار في الاستخلاف النص الشرعي؛ و ذلك لان " اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَه ".[8] فقضية الامامة لا تختلف من هذه الحيثية عن النبوة التي انتقلت من إبراهيم الى ولديه اسماعيل و اسحاق (ع) و انتقلت بعد اسحاق الى ولده يعقوب ثم منه الى يوسف (ع) و...
لمزيد الاطلاع انظر:
«انحصار الامامة في نسل النبي الاکرم»، سؤال 5168 (الموقع: ar5828).
«حکومة النبي الاكرم و علاقتها بغريزة البحث عن الله»، سؤال 19382 (الموقع: ar18721).
«الأئمة و القیادة السیاسیة»، سؤال 11717 (الموقع: ar11582).
«براهین الاعتقاد بالإمامة و الائمة»، سؤال 1362 (الموقع: ar2709).
«ولایة علي (ع) السیاسیة في الغدیر»، سؤال 11294 (الموقع: ar11139).
[1] انظر: شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 193؛ و الکلیني، اصول الكافي، كمرهاى، محمد باقر، ج 2، ص 721، انتشارات اسوة، الطبعة الثالثة، قم، 1375 ش.
[2] العلامة المجلسي، بحارالأنوار، ج 32، ص 7 و 8، مؤسسة الوفاء بيروت، 1404 هـ ق.
[3] نهج البلاغة، ص 50، دارا الهجرة، قم.
[4] البقرة، 124.
[5] طه، 29 و 30.
[6] النمل، 16.
[7] انظر: الشیخ الصدوق، الأمالي، ص 364، انتشارات المكتبة الاسلامية، 1362 هـ ش، قال رسول الله (ص) لعلي: أنت وارثي.
[8] الانعام،124.