یصف أمیر المؤمنین (ع) الرسول الاکرم (ص) بانه "طبیب دوار بطبه...." و یرید بذلک أنّه طبیب مرضى الجهل و رذائل الأخلاق، و کنّى بدورانه بطبّه تعرّضه لعلاج الجهّال من دائهم و نصب نفسه لذلک، و استعار لفظ المراهم لما عنده من العلوم و مکارم الأخلاق، و لفظ المواسم لما یتمکّن منه من إصلاح من لا ینفع فیه الموعظة و التعلیم بالجلد و سائر الحدود. فهو کالطبیب الکامل الّذی یملک المراهم و الأدویة و المکاوى لمن لا ینفع فیه المراهم یضع کلّ واحد من أدویته و مواسمه حیث الحاجة إلیه من قلوب عمى یفتح عماها بإعدادها لقبول أنوار العلم و الهدایة لسلوک سبیل اللّه. و الجدیر بالذکر أنه إنما قال دوار بطبه- لأن الطبیب الدوار أکثر تجربة- أو یکون عنى به أنه یدور على من یعالجه- لأن الصالحین یدورون على مرضى القلوب فیعالجونهم، و لا ینتظرون المریض هو الذی یأتی لطلب العلاج و هذه صفة المخلصین لله و المتحرقین على مصیر الانسانیة و الساعین لارشادها و هدایتها، یسعون لتزکیة النفوس و تطهیرها کما قال عز من قائل: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنینَ إِذْ بَعَثَ فیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفی ضَلالٍ مُبین".
قبل بیان المراد من الوصف المذکور نرى من المناسب الاشارة الى مقطع من الخطبة التی جاءت فیها الجملة المذکورة، ثم نعرج البحث على بیان المراد من العبارة. قال أمیر المؤمنین (ع) فی وصف رسول الله (ص): " طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ یَضَعُ ذَلِکَ حَیْثُ الْحَاجَةُ إِلَیْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْیٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُکْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ الْحَیْرَةِ ...".[1]
فقوله: طبیب دوّار بطبّه. کنایة عن نفسه کنایة بالمستعار فإنّه طبیب مرضى الجهل و رذائل الأخلاق، و کنّى بدورانه بطبّه تعرّضه لعلاج الجهّال من دائهم و نصب نفسه لذلک، و استعار لفظ المراهم لما عنده من العلوم و مکارم الأخلاق، و لفظ المواسم لما یتمکّن منه من إصلاح من لا ینفع فیه الموعظة و التعلیم بالجلد و سائر الحدود. فهو کالطبیب الکامل الّذی یملک المراهم و الأدویة و المکاوى لمن لا ینفع فیه المراهم یضع کلّ واحد من أدویته و مواسمه حیث الحاجة إلیه من قلوب عمى یفتح عماها بإعدادها لقبول أنوار العلم و الهدایة لسلوک سبیل اللّه، و من آذان صمّ یعدّها لقبول المواعظ، و تجوّز بلفظ الصمم فی عدم انتفاع النفس بالمواعظة من جهتها فهی کالصمّاء إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.
إذ کان الصمم یستلزم ذلک العدم، و من ألسنة بکم یطلقها بذکر اللّه و الحکمة، و أطلق لفظ البکم مجازا فی عدم المطلوب منها بوجودها و هو التکلّم بما ینبغی فإنّها لفقدها ذلک المطلوب کالبکم.
و قوله: متّبع. صفة لطبیب، و مواضع الغفلة و مواطن الحیرة کنایة عن قلوب الجهّال [الجهلة خ] و لذلک أشار إلیهم بأنّهم لم یستضیئوا بأضواء الحکمة: أى لم یکسبوا شیئا من العلوم و الأخلاق و لم یقدحوا بزناد العلوم الثاقبة الّتی تثقب سترات الحجب کما یستخرج بالزناد النار.[2]
وقال ابن ابی الحدید فی شرحه لهذه المقطع من الخطبة: إنما قال دوار بطبه- لأن الطبیب الدوار أکثر تجربة- أو یکون عنى به أنه یدور على من یعالجه- لأن الصالحین یدورون على مرضى القلوب فیعالجونهم- و یقال إن المسیح رئی خارجا من بیت مومسة- فقیل له یا سیدنا أ مثلک یکون هاهنا- فقال إنما یأتی الطبیب المرضی- . و المراهم الأدویة المرکبة للجراحات و القروح- و المواسم حدائد یوسم بها الخیل و غیرها- . ثم ذکر أنه إنما یعالج بذلک من یحتاج إلیه- و هم أولو القلوب العمی- و الآذان الصم- و الألسنة البکم أی الخرس- و هذا تقسیم صحیح حاصر- لأن الضلال و مخالفة الحق یکون بثلاثة أمور- إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ و الحجج- أو بالإمساک عن شهادة التوحید و تلاوة الذکر- فهذه أصول الضلال و أما أفعال المعاصی ففروع علیها.[3]
و تعرض المیرزا حبیب الله الخوئی للمقطع المذکور قائلا: و لا یخفى علیک أنّه لو کان الاشارة بلفظة ذلک فی قوله علیه السّلام: یضع من ذلک، إلى المراهم و المواسم لا بدّ أن یکون قوله، قد أحکم مراهمه و أحمى مواسمه، من باب التمثیل على سبیل الاستعارة، إذا المراهم و المواسم بمعناهما الحقیقی لا ینفعان للقلوب المتّصفة بالعمى، فلا معنى لوضعهما فیها، و لو کان المشار إلیه به الطبّ کان جملة یضع و ما یتلوها إلى قوله: و مواطن الحیرة، من باب التجرید، فیکون کلامه جامعا بین الاستعارة التحقیقیة و الترشیح و التجرید، حیث ذکر لفظ الطّبیب و أراد نفسه، و هو استعارة تحقیقیة و قرنها بما یلایم المستعار منه أعنى قوله: دوّار إلى قوله: مواسمه، و هو الترشیح، ثمّ قرنها بما یلایم المستعار له أعنى قوله: یضع، إلى آخر الکلام، و هو التجرید، و مثله قول الشاعر:
لدى أسد شاکى السّلاح مقذّف له لبد أظفاره لم تقلّم
ثمّ لا یخفى علیک أنّ وصفه علیه السّلام القلوب بالعمى باعتبار أنّ القلب جار مجرى العین و غریزة العقل فیه جاریة مجرى قوّة البصر فی العین و قوّة الابصار لطیفة تفقد فی العمى و یوجد فی البصیر، و کذلک القوّة العقلانیة فی القلب الجاهل دون العاقل فنسبة البصیرة الباطنة إلى القلب کنسبة الابصار إلى البصر إلّا انّه لا مناسبة بینهما فی الشرف لأنّ القلب بمنزلة الفارس و البدن بمنزلة الفرس و عمى الفارس أضرّ علیه من عمى الفرس، و لموازنة البصیرة للبصر الظّاهر سمّاه اللّه تعالى باسمه فقال: ما کَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى.[4]
و هذه صفة المخلصین لله و المتحرقین على مصیر الانسانیة و الساعین لارشادها و هدایتها، یسعون لتزکیة النفوس و تطهیرها کما قال عز من قائل: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنینَ إِذْ بَعَثَ فیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفی ضَلالٍ مُبین".[5]