فی قوله «کَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ یَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) تمثیل للاستخفاف بهم و إهانتهم لأنه لا یؤذن على ذوی العلیة و المراتب السامیة إلا للمقربین المکرمین لدیهم و لا یحجب عنهم إلا الأدنیاء الموسومون بالمهانة و القماءة و الصغار، و قد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال مبررا احتجاب المعتصم عن الرعیة:
لیس الحجاب بمقص عنک لی أملا إن السماء ترجى حین تحتجب.
فهم مجوبون عن الرحمة و الکرامة و العز و التوقیر وکل ما یناله المؤمن یوم القیامة من نعیم و راحة معنویة، لأن الذنوب العقیدیة و العملیة تبعد الإنسان عن اللَّه بما تثیره من غضب اللَّه علیه، فیطرده اللَّه عن رحمته، و یمنعه، بذلک، عن الانفتاح علیه، حتى لیحسّ بأن هناک حاجزا بینه و بین اللَّه، یشبه الظلمة التی تمنع الرؤیة، و الکدر الذی یمنع الصفاء. و لیسوا محجوبین عن ذات الله تعالى لان الذات الالهیة کما قلنا غیر قابلة للرؤیا حتى یصدق الحجب عنها.
لیس من الضروری استعمال مفردة الحجب بالمعنى المادی؛ و ذلک لان الادلة العقلیة و النقلیة تنفی الجسم و الجسمانیة عن الله تعالى[1].و الآیة ضمن آیات أخرى تشیر الى حالة الطغاة و الجبارة و ان کانت نزلت فی النضر بن حارث بن کلدة، فان الطغاة کثیرا ما یتذرعون بأعذار واهیة، عسى أن یتخلصوا من لوم و تأنیب الضمیر من جهة . و من اعتراضات النّاس و رجال الحق من جهة اخرى، و العجیب أنّ الطغاة من الحماقة و التحجّر بحیث أنّ أسلوب مواجهتهم للأنبیاء علیهم السّلام و على مرّ التاریخ قد جاء على وتیرة واحدة، و کأنّهم قد وضعوا لأنفسهم مخططا لا ینبغی الحید عنه، فعند مواجهتهم لدعوة الأنبیاء علیهم السّلام بتعالیم السماء، لیس عندهم سوى أن یقولوا: سحر، کهانة، جنون، أساطیر! و یعری القرآن مرّة اخرى جذر طغیانهم و عنادهم، بالقول: (کَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما کانُوا یَکْسِبُونَ).
ما أشد تقریع العبارة! فقد احتوى صدأ أعمالهم کلّ قلوبهم، فأزیل عنها ما جعل اللّه فیها من نور الفطرة الاولى و ذهب صفائها، و لذا . فلا یمکن لشمس الحقیقة أن تشرق بعد فی أفق قلوبهم، و لا یمکن لتلک القلوب التعسة من أن تتقبل نفوذ أنوار الوحی الإلهی إلى دواخلها.
«ران»: من (الرین) على وزن (عین)، و هو: الصدأ یعلو الشیء الجلیل (کما یقول الراغب فی مفرداته)، و یقول عنه بعض أهل اللغة: إنّه قشرة حمراء تتکون على سطح الحدید عند ملامسته لرطوبة الهواء، و هی علامة لتلفه، و ضیاع بریقه و حسن ظاهره.
و قیل: ران علیه: غلب علیه، و رین به: وقع فی ما لا یستطیع الخروج منه و لا طاقة له به [2]
و یستمر البیان القرآنی: (کَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ یَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ).و هو أشدّ ما سیعاقبون به، مثلما منزلة اللقاء باللّه و درجة القرب منه هی من أعظم نعم الأبرار و الصالحین و أکثرها لذة و استئناسا.
«کلّا» لا یمکن إزالة الرین الذی فقأ البصیرة فی قلوبهم، فهم محرومون من رؤیة جمال الحقّ (المعنوی) فی هذا العالم و فی عالم الآخرة أیضا.
أو أنّ الآیة تجیب زعم أولئک من أنّ القیامة (حتى على فرض وجودها!) فهم سینعمون بها کما (یتصورون) بأنّهم منعمین فی الدنیا. و لکنّ أحلامهم ستتلاشى أمام حقیقة وقوع القیامة، و ما سینالونه من شدید العذاب.
نعم، فأعمال الإنسان فی دنیاه ستتجسم له فی آخرته شاء أم أبى، و لما کان أولئک قد أغلقوا عیونهم عن رؤیة الحق، و رانت أعمالهم على قلوبهم، فسیحجبون عن ربّهم فی ذلک الیوم العظیم، و عندها فسوف لن یتمتعوا برؤیة جمال الحق أبدا، و سیحرمون من نعمة اللقاء بالحبیب الحقیقی، الذی لا حبیب سواه.[3] فاذن الأیة لیست فی مقام بیان الحجب المادی عن الله تعالى بل تعنی شیئا معنویا و من هنا فسرها صاحب تفسیر الکاشف بقوله: لقد حجبتهم المعاصی عن اللّه، و حالت بینهم و بین رحمته.[4] و ذهب الى نفس المعنى صاحب تفسیر من وحی القرآن عندما قال: لأن الذنوب العقیدیة و العملیة تبعد الإنسان عن اللَّه بما تثیره من غضب اللَّه علیه، فیطرده اللَّه عن رحمته، و یمنعه، بذلک، عن الانفتاح علیه، حتى لیحسّ بأن هناک حاجزا بینه و بین اللَّه، یشبه الظلمة التی تمنع الرؤیة، و الکدر الذی یمنع الصفاء.[5]
و قد التفت بعض الباحثین الى البعد البلاغی فی الآیة فقال: فی قوله «کَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ یَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) تمثیل – انظر الى التعبیر بکلمة تمثیل- للاستخفاف بهم و إهانتهم لأنه لا یؤذن على ذوی العلیة و المراتب السامیة إلا للمقربین المکرمین لدیهم و لا یحجب عنهم إلا الأدنیاء الموسومون بالمهانة و القماءة و الصغار، و قد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال مبررا احتجاب المعتصم عن الرعیة:
لیس الحجاب بمقص عنک لی أملا إن السماء ترجى حین تحتجب.[6]
فهم مجوبون عن الرحمة و الکرامة و العز و التوقیر وکل ما یناله المؤمن یوم القیامة من نعیم و راحة معنویة ولیسوا محجوبین عن ذات الله تعالى لان الذات الالهیة کما قلنا غیر قابلة للرؤیا حتى یصدق الحجب عنها.
[1] هناک الکثیر من الاسئلة حول هذا الموضوع موجودة فی الموقع فراجعها.
[2] راجع: المنجد، و تفسیر الفخر الرازی فی الآیة المبحوثة.
[3] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج20، ص: 27، مدرسة الامام علی بن أبی طالب (ع)، قم، الطبعة الاولى، 1421هـ.
[4] مغنیة، محمد جواد، تفسیر الکاشف، ج7، ص: 535، فی تفسیر الآیة.
[5] فضل الله، محمد حسین، تفسیر من وحی القرآن، ج24، ص: 133، دار الملاک للطباعة و النشر، بیروت، 1419 ق، الطبعة الثانیة.
[6] انظر: درویش محیى الدین، إعراب القرآن و بیانه، ج10، ص: 418، نشر: دار الارشاد، سوریة، 1415 ق، الطعبة الرابعة.