يعد عقبة بن أبي معيط من تلك الثلة التي تصدت لمحاربة النبي (ص) بكل ما أوتيت من قوة، حتى عرف الرجل بانه أسفه رجل في قريش. و قد دونت المصادر التأريخية مواقفه الشنيعة من قبيل القاء الفرث بين كتفي الرسول (ص) و وضع العذرة على باب داره (ص)، و من المواقف العدائية التي وقفها عقبة ضد النبي (ص) أن رسول الله (ص) كان يصلي عند المقام، فقام إليه فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطا، و تصايح الناس فظنوا أنه مقتول.
و قام بتجييش الجيوش لمحاربة الدعوة وتوبيخ من يحاول الامتناع عن محاربة النبي (ص) كأميه بن خلف و الحارث بن عامر بن نوفل، و حكيم بن حزام، و أبي البختري، و علي بن أمية، متهما لهم بالجبن و الضعف، حتى خرجوا. كل هذه الامور جعلت النبي (ص) يتوعده بالقتل و الذي حصل فعلا بعد معركة بدر.
أما بالنسبة الى قاتله، فقد اختلفت كلمة المؤرخين فيه، فبعض المصادر لم تتعرض له و اكتفت بالاشارة الى اصل القتل فقط، و هناك الكثير من المصادر قد نسبت ذلك الى عاصم بن ثابت خاصة. و هناك طائفة ثالثة من المصادر المتأخرة ذكرت الى جنب اسم عاصم هذا، اسم الامام علي (ع)، الا ان القضية تحتاج الى الكثير من التحقيق و البحث و لا يمكن البت بها لمجرد و جود رواية هنا و حديث هناك.
نرى من الضروري قبل الخوض في البحث عن علل و اسباب قتل عقبة بن أبي معيط بأمر من الرسول الاكرم (ص) في معركة بدر، تلسيط الاضواء على شخصية الرجل و دوره في مواجهة الدعوة الاسلامية .
الف. اطلالة على شخصية عقبة و أولاده
قيل أن أبا معيط كان علجاً من أهل صفورية من الأردن، قدم به أبو عمرو بن أمية بن عبد شمس مكة فادعاه.[1] و في رواية أخرى أن أبا عمرو نفسه كان من غلمان أمية ثم ادعاه و الحقه بنسبه.[2]
و على كل حال فان عدم انتساب آل معيط الى قريش من الامور التي لم تكن خافية على المجتمع القرشي. من هنا نرى أنه لما أمر رسول الله (ص) يوم بدر بضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بالسيف صبراً قال: أقتل من بين قريش صبراً؟ فقال عمر ابن الخطاب: حن قدحٌ ليس منها، أي أنك لست من قريش.[3]
و کان عقبة بن أبي معيط خماراً[4]، يتاجر بالخمرة في مكة. و لعقبة ثلاثة من الذكور و ابنتان، و الذكور هم: عمارة و الوليد و خالد اسلموا بعد فتح مكة.[5]
و يكشف عداء ابناء عقبة للاسلام عامة و أهل البيت خاصة أنهم ورثوا العداء من أبيهم، يروى ان عمارة بن عقبة كان جاسوسا لحكومة معاوية و ابنه يزيد في الكوفة[6]؛ أما الوليد فكان معروفا بالفاسق[7] و كان من الذين حثوا معاوية على الثأر لدم عثمان[8]، عينه عثمان قبل قتله والياً على الكوفة ، لكنه عزله تحت ضغط و اعترض أهل المدينة على تنصيبه لفسقه و فجوره و عدم مبالاته بقوانين الشريعة، و أقيم عليه الحد بشر الخمر.[9]
ب. عداء و محاربة عقبة للرسول الاكرم (ص)
يعد عقبة بن أبي معيط من تلك الثلة التي تصدت لمحاربة النبي الاكرم (ص) بكل ما أوتيت من قوة، حتى عرف الرجل بانه أسفه رجل في قريش. و قد دونت المصادر التأريخية مواقفه الشنيعة مع الرسول (ص) حيث فلم يدخر وسعاً في إيذاء النبي (ص) و المؤمنين به، روى المقريزي في إمتاع الاسماع: كان نفر من قريش فيهم عقبة بن أبي معيط ، و كان عقبة أسفه قريش، و رسول الله (ص) يصلي فأطال السجود، فقال أبو جهل: أيكم يأتي جزورا لبني فلان قد نحرت بأسفل مكة، فيجيء بفرثها فيلقيه على محمد، فانطلق عقبة بن أبي معيط، فأتى بفرثها فألقاه على ما بين كتفي رسول الله (ص) و هو ساجد، فجاءت فاطمة عليها السلام، فأماطت ذلك عنه.[10]
و لم يسلم النبي الاكرم (ص) من شر إبن معيط و صحبه حتى و هو في بيته (ص)، فقد روت المصادر التأريخية أنهم كانوا يلقون بروث و فرث الحيوانات المذبوحة على داره (ص)، روى المقريزي أن عقبة بن أبي معيط كان أشد الناس عداوة لرسول الله (ص) و أذى، فعمد إلى مكتل فحول فيه عذرة، ثم ألقاه على باب النبي (ص).[11] من هنا كان (ص) يصفهم بانهم شر الجيران.[12]
و من المواقف العدائية التي وقفها عقبة ضد النبي (ص) أن رسول الله (ص) كان يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي معيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطا، و تصايح الناس فظنوا أنه مقتول.[13]
روى البلاذري: أن أبيّاً صنع طعاما، ثم أتى حلقة فيها النبي (ص)، فدعاهم و دعاه. فقال رسول الله (ص): لا أقوم حتى تشهد أن لا إله إلا الله. ففعل. فقام النبي (ص) معه. فلقيه عقبة بن أبي معيط، فقال: أقلت كذا و كذا؟ قال: إنما قلت ذلك لطعامنا. فنزلت: «و يوم يعضّ الظالم على يديه»[14]. الآية. و قد قيل: إنّ الذي دعا النبي (ص)، فيمن دعا، عقبة بن أبي معيط. فأنكر أبيّ ذلك عليه، و كان صديقا له و نديما. و قال: اتبعت محمدا؟ فقال: لا و الله، و لكني تذممت أن لا أدعوه، و إذ دعوته ألا يأكل من طعامي، فقلت له قولا لم أعتقده. فقال له: وجهي من وجهك حرام إن لم تكفر به و تتفل في وجهه. ففعل. و رجع ما خرج من فيه إلى وجهه. فأنزل الله: «و يوم يعضّ الظالم على يديه»، يعني عقبة.[15]
هذه بعض المواقف الشنيعة التي صدرت من إبن أبي معيط ضد النبي (ص) و التي يهتز لها ضمير الانسان الحر، و من هنا يتضح لنا ضرورة التعرف على تلك الخصومة لتكون منطلقا للاجابة الصحيحة عن السؤال المطروح.
ج. علل و اسباب قتل عقبة
مع كل هذه المواقف التي قام بها إبن أبي معيط و التي توجب بنفسها انزال أشد العقوبات بالرجل، الا ان العقوبة التي انزلت به لم تكن منطلقة من مواقفه تلك فقط، بل هناك الكثير من العوامل التي أدت الى قتله، لعل من ضمنها ارتداده عن الاسلام فقد ذكرت بعض المصادر التفسيرية و التأريخية أنه اعتنق الاسلام ثم ارتد منه، و من الثابت ان حكم المرتد القتل.[16]
و من الجرائم التي اقترفها الرجل و التي تستحق عقوبة القتل ما قام به من تحريك الافراد و تجييش الجيوش لمحاربة الدعوة الاسلامية و القضاء عليها، و كان يوبخ من يحاول الامتناع عن محاربة النبي (ص)، روى الطبري ان أميه بن خلف كان قد اجمع القعود، فأتاه عقبه بن أبي معيط، و هو جالس في المسجد بين ظهري قومه بمجمرة يحملها، فيها نار و مجمر، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: استجمر، فإنما أنت من النساء. و هكذا كان موقفه مع كل من الحارث بن عامر بن نوفل، و حكيم بن حزام، و أبي البختري، و علي بن أمية، متهمينهم بالجبن و الضعف، حتى خرجوا.[17]
ثم اننا اذا رجعنا الى القرآن الكريم نجده يحكم على امثال ابن أبي معيط بالقتل لمواقفهم المعادية للدعوة الاسلامية " إِنَّما جَزاءُ الَّذينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض.."[18] و لعل ذلك ينطلق من شدة الموانع التي يضعونها في طريق الرسالة الاسلامية. من هنا نرى النبي الاكرم (ص) لما أمر بقتله، جعل عقبة يقول: «يا ويلتى، علام أقتل يا معشر قريش أقتل من بين هؤلاء؟» فقال رسول الله (ص):«لعداوتك للَّه و رسوله».[19]
يتضح من خلال ذلك أن النبي الاكرم (ص) كان بصدد رفع جميع الموانع و العقبات التي تقف بوجه نشر الدعوة و انتصارها، و خاصة قبل فتح مكة و انكسار المعسكر القرشي، و من هنا لم يعفو عن امثال إبن ابي معيط لما في العفو من تعزيز و قوة لمعسكر المشركين، الا انه (ص) بعد فتح مكة عفا عن القرشيين عامة و عن قياداتهم الرئيسية كابي سفيان و زوجته و كذلك عفا عن و حشي قاتل عمه حمزة (رضوان الله عليه).
بقي الكلام في قاتل عقبة بن أبي معيط، و هل قتل بيد أمير المؤمنين (ع) أو بيد شخص آخ؟، و بغض النظر عن صحة هذه النسبة، لابد من القول بان طاعة النبي (ص) تعتبر من الامور التي تعد من مفاخر الامام (ع) خاصة في الامور التي تعد إقامة لحدود الله تعالى التي كان يتلقاها الامام برحابة صدر و يقوم بها من دون أدنى ترديد أو إرتياب.
إلا ان هذه القضية تحتاج الى وسائل اثبات تؤكد قيام الامام (ع) بقتل الرجل. و نحن اذا رجعنا الى المصادر التاريخية نرى كلمتها مختلفة فيها، فان بعض المصادر لم تتعرض لبيان اسم من نفذ الامر، و هناك الكثير من المصادر التي دونت ما بين القرن الثالث و السابع الهجريين قد نسبت ذلك الى عاصم بن ثابت و انه هو الذي قام بقتل ابن أبي معيط. نعم، ذكرت بعض المصادر المتاخرة الى جنب اسم عاصم هذا اسم الامام علي (ع).[20] و ان كان الشيخ الصدوق المتوفى381هـ يروي ما يؤكد النسبة الى الإمام (ع)[21]، و كذلك روى ذلك ابن أعثم المتوفى 314هـ في كتاب الفتوح[22]، الا ان القضية تحتاج الى الكثير من التحقيق و البحث و لا يمكن البت بها لمجرد و جود رواية هنا و حديث هناك.
[1] الزمخشري، جار الله، ربيع الأبرار و نصوص الأخيار، ج1، ص 153، مؤسسة الاعلمي، بیروت، الطبعة الاولی، 1412ق؛ الخوارزمي، ابو بکر، الأمثال المولدة، ص 310، مجمع ثقافي، ابو ظبي، 1424ق.
[2] الاصفهاني، ابو الفرج، الأغاني، ج 1، ص 45، دار احياء التراث العربي، بیروت، الطبعة الاولی ، 1415ق.
[3] ابن حمدون، محمد بن حسن، التذكرة الحمدونية، ج 7، ص 113، دار صادر، الطبعة الاولی، بیروت،1417ق.
[4] الدمیري، کمال الدین، حياة الحيوان الكبرى، ج 1، ص 279، دار الكتب العلمية، بیروت، الطبعة الاولی، 1424ق.
[5] ابن عبد البر، یوسف بن عبد اللّه، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 3، ص 1144، بيروت، دار الجيل، الطبعة الاولی، 1412ق؛ ابن الاثیر، عز الدین، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 3، ص 639، دار الفکر، بیروت، 1409ق.
[6] الدینوري، ابو حنیفه، الأخبارالطوال، ص231، منشورات الرضي، قم، 1368ش؛ البلاذري، احمد بن یحیی، أنساب الأشراف، ج 2، ص 384، دار الفكر، بیروت، الطبعة الاولی، 1417ق.
[7] الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج 4، ص 1553.
[8] أنساب الأشراف، ج 2، ص290؛ الزرکلي، خیر الدین، الأعلام، ج 8، ص 122، دار العلم للملايين، بیروت الطبعة الثامنة، 1989م.
[9] ابن الاثیر، أسد الغابة، ج 4، ص 676، دار الفكر، بیروت، 1409ق.
[10] المقریزي، تقي الدین، إمتاع الأسماع، ج 6، ص 230، دار الكتب العلمية، بیروت الطبعة الاولی، 1420ق؛ انساب الأشراف، ج 1، ص 125.
[11] إمتاعالأسماع،ج14،ص:331- 332.
[12] أنساب الأشراف، ج1، ص 31.
[13] إمتاع الأسماع، ج 4، ص 128.
[14] الفرقان، 27.
[15] أنساب الأشراف، ج 1، ص137 و 138.
[16] الاندلسي، ابو حيان محمد بن يوسف، البحر المحيط في التفسير، ج 8، ص 101 دار الفكر، بيروت، 1420 ق؛ الواحدي، علي بن احمد، أسباب نزول القرآن، ص 344، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولی،1411 ق؛ دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث، ج 3، ص 7، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1383 ق؛ الطبري، ابو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، ج 19، ص 7، دار المعرفه، بيروت، الطبعة الاولی، 1412 ق؛ ابن الجوزي، عبدالرحمن بن علي، زاد المسير في علم التفسير، ج 3، ص 319، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الاولی، 1422 ق؛ صالحي شامي، محمد بن یوسف، سبلالهدى، ج 2، ص 469، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولی، 1414ق؛ أنساب الأشراف، ج1، ص 138.
[17] أنساب الأشراف، ج 1، ص 292؛ الطبري، محمد بن جریر، تاريخ الطبري، ج 2، ص 430 ؛ دار التراث، بیروت، الطبعة الثانية، 1387ق؛ إمتاع الأسماع، ج1، ص 88.
[18] المائدة، 33.
[19] أنساب الأشراف، ج 1، ص 148؛ إمتاع الأسماع، ج 10، ص 5.
[20] ابن کثیر، اسماعیل بن عمر، البداية والنهاية، ج 3، ص 305 و 306، دار الفكر، بیروت 1407؛ الذهبي، شمس الدین، تاريخ الإسلام، ج 2، ص 65، دار الكتاب العربي، بیروت، الطبعة الثانیة، 1413ق.
[21] «فِي كَلَامٍ كَانَ بَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(ع) وَ بَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ(ع) لَا أَلُومُكَ أَنْ تَسُبَّ عَلِيّاً(ع) وَ قَدْ جَلَدَكَ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ سَوْطاً وَ قَتَلَ أَبَاكَ صَبْراً بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ(ص) فِي يَوْمِ بَدْر»؛ الأمالي ص 490، كتابچي - طهران، الطبعة السادسة، 1376ش.
[22] ابن اعثم الکوفي، الفتوح، تحقيق: علي شيري،ج 2، ص 443، دارالأضواء، بيروت، الطبعة الاولی، 1411ق.