لا يصح تقسيم العرفان الى العملي و النظري بالنسبة الى الائمة (ع)؛ لانه لا فرق عندهم بين العرفانين؛ لان سيرتهم تكشف عن عدم الفصل بين العرفانين، فما توصلوا اليه من الحقائق و انكشف لهم عرفانياً وضعوه تحت متناول الناس، هذا أولا. و ثانياً: ان الجذور التاريخية للتقسيم الثنائي لا تضرب بجذورها في اعماق التاريخ و انما ظهر مؤخراً في كلمات ابن عربي.
و الناظر في كتاب نهج البلاغة يراه متوفراً على كم هائل من المعارف العرفانية تبرر لنا وصفه بالبحر الزخار عرفانياً، لما احتواه من كلمات ذلك الانسان الكامل الحائز على العرفان بشقيه النظري و العملي. و قد أشرنا في الجواب التفصيلي الى نماذج من كلماته (ع) في العرفان بشقيه النظري و العملي.
عُرّف العرفان بانه الطريق و المنهج الذي يعتمده طالبوا الحق للوصول الى غايتهم و معرفة الحق. و يقسم العرفان الى نوعين؛ العرفان العلمي؛ يعني السير و السلوك و الوصول و الفناء. و العرفان النظري و يراد به معرفة الضوابط و اساليب الكشف و الشهود[1]. و بعبارة أخرى، العرفان النظري يتكفل بتفسير الوجود؛ يعني بيان المراد من الباري و العالم و الانسان، و أما العرفان العلمي فيتكفل ببناء الانسان الكامل.
و قبل البدء في الاجابة نرى من الضروري الاشارة الى أن تقسيم العرفان على العملي و النظري لا يصح بالنسبة الى الائمة (ع) فلا فرق عندهم بين العرفانين؛ لان سيرتهم تكشف عن عدم الفصل عندهم بين العرفانين، فما توصلوا اليه من الحقائق و انكشف لهم عرفانياً وضعوه تحت متناول الناس، هذا أولا. و ثانياً: ان الجذور التاريخية للتقسيم الثنائي لا تضرب بجذورها في اعماق التاريخ و انما ظهر في كلمات ابن عربي و منه أخذ طريقه الى الفلسفة و خير مثال على ذلك ما جاء في الحكمة المتعالية.
لكن مع ذلك كله يتوفر كتاب نهج البلاغة على كم هائل من المعارف العرفانية تبرر لنا وصفه بالبحر الزخار عرفانياً، لما احتواه من كلمات ذلك الانسان الكامل المتوفر على العرفان بشقيه النظري و العملي، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان كلمات أمير المؤمنين (ع) العرفانية لا تنحصر في كتاب نهج البلاغة فقط.
يقول أمير العارفين (ع): "نحن شجرة النبوة و محط الرسالة و مختلف الملائکة، و معادن العلم و ینابیع الحکم....".[2] فاذا ما بحث عن علم أو عرفان فلابد من البحث عنه في سيرة و كلمات بيت الوحي و الرسالة؛ علي و أولاده البررة.
و قد اشار الامام الخميني (ره) ذلك العارف الكبير الى حقيقة مهمة حول نهج البلاغة حينما قال: اما كتاب نهج البلاغة فهو ثمرة روح أمير المؤمنين (ع) لتعليم البشرية و تربية المتعطشين الى المعرفة و الغارقين في حجب الانانية.... فهو مجموعة بوسع الانسان و بوسع المجتمع... فمهما توسعت المجتمات و الشعوب و كثر الفلاسفة و المفكرون و العارفون و غاروا جميعهم في فقرة واحدة من ذلك السفر الخالد و كان بعضهم لبعض ظهيراً لما استطاعوا معرفة كنهها و الوصول الى حقيقتها و لاعترف الجميع بعجزه عن الغوص في بحرها الزاخر و الوصول الى عمقها و اقتناص دررها، الا و هي قوله (ع) في أول النهج: " مع کل شيءٍ لابمقارنةٍ و غیر کل شيءٍ لا بمزایلةٍ". و هي اشارة الى وحدة الوجود المطروحة في الفكر العرفاني.
فنهج البلاغة بحر زاخر في العرفان النظري حول المبدأ و المعاد، الخلق، الوحي، الملائكة، عالم المجردات، عالم الملكوت و....، و العرفان العملي في مجال الاخلاق، الفضائل النفسية، العدالة، التقوى، الزهد، و السير و السلوك، الجهاد، والدعاء و...
و سنحاول هنا الاشارة الى نماذج من العرفانين النظري و العملي في كلماته (ع):
الف. العرفان النظري
حينما يلقي الباحث نظرة عابرة على الخطبة الاول من نهج البلاغة يراها تموج بانواع المعارف و خاصة ما يتعلق بالله تعالى و كبريائه و عظمته، من قبيل:
1. " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ وَ لا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ وَ لا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَ لا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لا نَعْتٌ مَوْجُود".
2. " أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ و كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ و كمالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَ كَمَالُ الإِخلاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ".
3. " كَائِنٌ لا عن حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عن عَدَمٍ مع كُلِّ شَيْءٍ لا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لا بِمُزَايَلَة".[3]
4. و يقول (ع) في موضع آخر من النهج في توصيف عملية الخلق: " قَدَّرَ ما خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُور".[4]
هذه قبسات من ذلك النور الساطع و قطرات بحر العرفان النظري الزاخر، و مَن ذا الذي يستطيع الغور في اعماقه او الاحاطة بمعارفه؟!!
ب. العرفان العملي
1. يشير أمور المؤمنين الى المراقاة الاولى في السير و السلوك و وصف السالك بقوله: " قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ و بَرَقَ لهُ لامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ".[5]
2. و قوله (ع): " عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِه".[6]
3. و من خطبة له عرفت بخطبة المتقين جاء فيها وصفه لهم: " عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون".[7]
4. و يقول في موضع آخر: " أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ وَ لَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاه".[8]
5. " ما عبدتك طمعا في جنتك و لا خوفا من نارك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".[9]
6. و يقول (ع) واصفاً حالته العرفانية عند استقباله للموت: " وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه".[10]
7. و له في حث المتقين على احياء الليل و قلة النوم و الاكل: " أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَ أَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ وَ اسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وَ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا".[11]
8. و يقول في وصف الجهاد في سبيل الحق و العدل: " أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى وَ دِرْعُ اللَّهِ الْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ الْوَثِيقَةُ".[12]
[1] سجادي، سید جعفر، فرهنگ اصطلاحات عرفاني = معجم المصطلحات العرفانیة، مفردة العرفان، مکتبة طهوري، طهران، الطبعة الرابعة، 1378ش.
[2] نهج البلاغة، خ 108.
[3] نهج البلاغة، الخطبة الاولى.
[4] المصدر، خ91.
[5] المصدر، خ 220.
[6] المصدر، خ87.
[7] المصدر، خ 193.
[8] المصدر، خ 2.
[9] الاحسائي، ابن ابي جمهور، عوالي اللآلي، ج 1، ص 44، انتشارات سید الشهداء، قم، 1405ق.
[10] نهج البلاغة، خ 5.
[11] المصدر، خ183.
[12] المصدر، خ 27.