نظریة فصل الدین عن السیاسة، نظریة تدعو الى عزل الدین او حذفه من مجالات الحیاة المختلفة کالسیاسة، الحکومة، الاخلاق و... انطلاقا من الاعتقاد بکون الانسان یستطیع استناداً الى التنسیق بین العقل و التجربة، رسم الخطط و وضع القوانین الثقافیة و الاجتماعیة و السیاسیة و الاقتصادیة و کذلک رسم العلاقات السلوکیة من دون حاجة للاستعانة بالدین.
و یمکن رصد جذور هذه الفکرة فی القرون الوسطى و ما تلاها من القرون بعد عجز الکنیسة المسیحیة المحرفة، و هیمنة الاستبداد و الاختناق السیاسی الذی مارسه رجال الکنیسة، اضافة الى التعارض الواضح بین معطیات العقل و العلم و بین ما تدعیة التعالیم الواردة فی الانجیل.
اما فی العالم الاسلامی فقد طرحت فکرة فصل الدین عن السیاسة من قبل ثلاث طوائف: 1) طائفة الحکام المستبدین الذین تصدوا لمنصب الحکم فی صدر الاسلام حیث سعوا جاهدین لاستبدال نظریة الخلافة بنظریة الملک و السلطنة. 2) الاستعمار الغربی و الشرقی. 3) ما یطلق علیه عنوان المتنورین المتأثرین بالثقافة الغربیة و المنهزمین أمامها.
و فی مقام الرد على اصحاب نظریة الفصل هناک الکثیر من الادلة نکتفی هنا باسلوبین فقط، هما: 1) الرجوع الى المقولات و المفاهیم المطروحة فی المصادر الاسلامیة. 2). سیرة النبی الاکرم (ص) و منهج الائمة المعصومین (ع). و یمکن من خلال الکم الهائل من الاحکام الاجتماعیة و الاهداف السیاسیة اقتناص الاهداف الاساسیة لهذا الدین المقدس و الوصول الى استحالة فکرة الفصل هذه.
و قد قمنا فی الجواب التفصیلی بنقد هذه النظریة نقداً مفصلاً یمکن الرجوع الیه فی محله.
لکی تتضح الاجابة عن الاشکالیة المطروحة بصورة جلیة لابد من تسلیط الضوء على جذور نظریة فصل الدین عن السیاسة ثم نعرج بالکلام على العلاقة المتأصلة بین الدین و السیاسة و عدم الفصل بینهما:
نظریة فصل الدین عن السیاسة (Secularism) من النظریات التی دعا الیها اصحاب الفکریة القائلة بعزل الدین او حذفه من مجالات الحیاة المختلفة کالسیاسة، الحکومة، الاخلاق و... انطلاقا من الفکرة القائلة بان البشر یستطیع استناداً الى التنسیق بین العقل و التجربة فی رسم الخطط و وضع القوانین الثقافیة و الاجتماعیة و السیاسیة و الاقتصادیة و کذلک رسم العلاقات السلوکیة، فالعقل الذی نجح فی مجال الطبیعة نجاحاً باهراً قادر فی الوقت نفسه على النجاح فی هذه المجالات ایضاً، فهو قادر على التدخل و المعالجة فی المیادین المادیة و المعنویة على حد سواء فیما اذا استعان بعلمه و قدراته المتاحة. و قد جاء فی معجم آکسفورد تعریف السکولاریسم (العلمانیة) بالنحو التالی: "الاعتقاد بکون القوانین، التربیة و التعلیم و... لابد ان تبتنى على الواقعیات العلمیة لا المذهب". و هذا هو المنشأ الاساسی لفکرة فصل الدین عن السیاسة فی الغرب.
فی القرون الوسطى و ما تلاها حدثت بعض العوامل التی ساعدت على تغلّب هذه النظریة على الفکر الغربی. فمن جهة نرى المسیحیة المحرفة تطرح الکثیر من المفاهیم غیر الدقیقة و المنافیة للعقل، و الى جانب ذلک نرى استبداد رجال الکنیسة و تحکمهم بجمیع الشؤون، بالاضافة الى التعارض الواضح بین العقل و العلم و بین التعالیم التی تطرحها الاناجیل من جهة ثالثة، کل ذلک أدى الى خلق حالة من التعارض و التنافی بین الدین و المعطیات العلمیة من التطور و الحداثة. الأمر الذی انجر فی نهایة المطاف الى الفصل بین دائرة الدین و مجال حرکته و بین دائرة العلم و مجاله، و بهذا اقصی الدین عن جمیع المجالات التی یکون العلم هو صاحب الکلمة فیها.
اما فی العالم الاسلامی فقد طرحت فکرة فصل الدین عن السیاسة من قبل ثلاث طوائف:
الطائفة الاولى: طائفة الحکام المستبدین الذین تصدوا لمنصب الحکم فی صدر الاسلام حیث سعوا جاهدین لاستبدال نظریة الخلافة بنظریة الملک و السلطنة، فعلى سبیل المثال لما استولى معاویة على مقالید الحکم عام اربعین للهجرة خاطب العراقیین قائلا: "ما قاتلتکم لتصلوا او تصوموا و انا اعلم انکم تصلون و تصومون و انما قاتلتکم لأتأمر علیکم و قد اعطانی الله ذلک".[1] و من هنا سلب الحکومة فی المجتمع الاسلامی بعدها الدینی و استبدلها بالملک و السلطنة. و کلما حدثت المواجهة بین سلاطین الجور و العلماء تراهم یرکزون على نطریة فصل الدین عن السیاسة مدعین أن مقام العلماء أسمى من الاعیب السیاسة.[2]
الطائفة الثانیة: الاستعمار الغربی و الشرقی. إن اقوى ضربة تلقاه الاستعمار عندما وطأت قدماه أرض المسلمین هی تلک الصفعة التی وجهت الیه من قبل الدین و التعالیم الدینیة و علماء الدین و قادته؛ من هنا حاول الالتفاف على هذه القضیة و تلقین المسلمین فکرة فصل الدین عن السیاسة کی یتجنب تلک الضربات القاصمة.[3]
الطائفة الثالثة: ما یطلق علیه عنوان المتنورین المتأثرین بالثقافة الغربیة فانهم لما انهزموا أمام تلک الافکار و النظریات المطروحة و اقتنعوا بها صاغرین حاولوا نقل نظریة فصل الدین عن السیاسة من میدانها الغربی الى العالم الاسلامی غافلین عن کون الاسلام لیس کالمسیحیة أولا و ثانیاً ان علماء الاسلام فضلا عن عدم ممارستهم للاستبداد بانفسهم کانوا یتصدون لذلک بکل قوّة، بالاضافة الى عدم تصدیهم و وقوفهم فی وجه التطور العلمی و محاربته، و الشاهد اننا فی کل الحقب التی تصدى فیها العلماء للحکم نجدهم یقفون الى جانب العلماء و المفکرین و المبدعین و تفصیل ذلک مع ذکر الشواهد علیه یحتاج الى مصنف خاص لا یسع المجال هنا لاستعراضه.
من هنا نذکر - بنحو کلی- للاجابة اسلوبین فی التصدی لاصحاب نظریة فصل الدین عن السیاسة:
1. الرجوع الى المقولات و المفاهیم المطروحة فی المصادر الاسلامیة.
2. سیرة النبی الاکرم (ص) و منهج الائمة المعصومین (ع). و یمکن من خلال الکم الهائل من الاحکام الاجتماعیة و الاهداف السیاسیة اقتناص الاهداف الاساسیة لهذا الدین المقدس. یقول الامام الخمینی (ره) فی هذا المجال: " الاسلام دین السیاسة بتمام شؤونها و هذا ما یدرکه کل من تدبر فی الاحکام الحکومیة، السیاسیة، الاجتماعیة، الاقتصادیة فی الاسلام. و کل من یظن بصحة نظریة فصل الدین عن السیاسة لم یدرک معنى الدین و لا معنى السیاسة".[4]
إن اطلالة عابرة على القوانین الاسلامیة و آیات الذکر الحکم توضح بجلاء أن الدین الاسلامی دین جامع ذو رؤیة شاملة فی جمیع ابعاد الحیاة الانسانیة (الفردیة، الاجتماعیة، الدنیویة، و الاخرویة، المادیة و المعنویة)، و کما تدعو الناس الى التوحید و العبادة کذلک تشیر الى التعلیمات الاخلاقیة المتعلقة ببناء الذات على المستوى الفردی فی نفس النفس نرى هناک الکثیر من الاحکام ذات البعد الحکومی، السیاسی، الاقتصادی، الاجتماعی، القضائی و الحقوقی، القضایا الاقتصادیة، التربویة و...و من البدیهی أن إجراء و تنفیذ تلک الاحکام و الدساتیر لا یمکن أن یتحقق و ینزل الى حیز التنفیذ الا مع قیام حکومة دینیة بمعناها الصحیح، تلک الحکومة التی تدیر شؤون المجتمع على أساس القوانین الالهیة و توفر الارضیة المناسبة لتنمیة الاستعدادات و القدرات الذاتیة لا یصال الفرد و المجتمع الى الکمال المنشود و إقامة المدینة المتکاملة و الفاضلة التی تلیق بشأن الناس و محاربة کل انواع الانحراف و الفساد الاخلاقی.
قال تعالى فی وصف الرجال الالهیین: "الَّذینَ إِنْ مَکَّنَّاهُمْ فِی الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّکاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْکَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُور"[5]
کما اظهرت لنا سیرة النبی الاکرم (ص) عدم الفصل بین الدین و السیاسة؛ و ذلک لانه (ص) فی الوقت الذی أسس دولة و اقام حکومة تصدى بنفسه لمنصبی الاجراء و القضاء. و کذلک نرى الامام أمیر المؤمنین(ع) أقام حکومة اساسها العدل و اجراء الدساتیر و القوانین الالهیة، و هکذا الامر فی الفترة القصیرة التی تصدی فیها الامام الحسن (ع) للحکم، اضف الى ذلک ثورة الامام الحسین (ع) و عدم اعتراف سائر الائمة (ع) بشرعیة سائر الحکومات، کل ذلک یکشف عن کون تشکیل الحکومة من ضروریات الدین الاسلامی. و لقد دلت على هذه الحقیقة مجموعة من آیات الذکر الحکیم؛ منها:
1. "لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمیزانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدیدَ فیهِ بَأْسٌ شَدیدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ...[6]
2- "یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا کُونُوا قَوَّامینَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا...[7]"
3-"وَ لَقَدْ بَعَثْنا فی کُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ...[8]"
4- «وَ ما لَکُمْ لا تُقاتِلُونَ فی سَبیلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفینَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذینَ یَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْیَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ وَلِیًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ نَصیراً"[9]
5- "یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا أَطیعُوا اللَّهَ وَ أَطیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ..."[10] و غیر ذلک الکثیر من الآیات التی تتحدث عن الکتاب، المیزان، الحدید و منافعه، الشهادة بالقسط و العدل، اجتناب الطاغوت، الجهاد فی سبیل الله و المستضعفین، نجاة المحرومین، الهجرة فی سبیل الله و...و من البدیهی أن هذه الامور تدخل فی المقولات الاجتماعیة التی تعرض لها القرآن الکریم و أمر بها. و لاریب أن شرح و تفسیر کل آیة من تلک الآیات و بیان ضرورة الحکومة الاسلامیة من قبل النبی و القادة الالهیین یحتاج الى ابحاث مفصلة و مطولة لا یسع المجال هنا للتعرض لها؛ من هنا نکتفی بالاشارة الى اهم المبانی و الاسس السیاسیة التی تتعلق بتشکیل الحکومة الاسلامیة و علاقة الدین بالسیاسة:
1. اثبات شمولیة حاکمیة النبی و أولیائه الخاصین لجمیع الشؤون المادیة و المعنویة، الدنیویة و الاخرویة (المائدة، الآیة 55 - یوسف، الآیة 40 - المائدة، الآیة 42 و 43).
2. اثبات الامامة و القیادة السیاسیة و الاجتماعیة للنبی (ص) و الائمة (ع) المنصوبین من قبله (النساء، الآیة 58 و 59 - المائدة، الآیة 67).
3. اثبات حکومة و خلافة بعض الانبیاء علیهم السلام، فی الارض کداود (ع) و سلیمان (ع)، (سورة ص، الآیات 20 و 26 - النمل الآیات 26 و 27 - النساء، الآیة 54 ).
4. عد القرآن الکریم من وظائف الانبیاء الالهیین (ص) هی الحکم و القضاء بین الناس کما فی (النساء، الآیات 58 و 65 - المائدة، الآیة 42 - الانبیاء، الآیة 78 - الانعام، الآیة 89).
5. الدعوة الى الشورى و العمل الجماعی (الشوری، الآیة 38 - آل عمران، الآیة 159).
6. الایات التی تشیر الى کون مواجهة الفساد و الظلم و اشاعة العدل و القسط بین الناس احدى وظائف المؤمنین (البقرة، الآیة 279 - هود، الآیة 113 - النساء، الآیة 58 - النحل، الآیة 90 - ص، الآیة 28 - الحج، الآیة 41).
7.احترام حقوق الانسان و صون کرامته یمثل جزءاً أساسیاً من اصول الادیان الالهیة کما فی الآیات (الاسراء، الآیة 70 - آل عمران، الآیة 19 - النساء، الآیة 32).
8. الامر بالجهاد و التصدی للطواغیب و المستکبرین و الظالمین و توفیر القدرات الدفاعیة (البقرة، الآیة 218 - التحریم، الآیة 9 - النساء، الآیة 75 - الانفال، الآیة 60 - الاعراف، الآیة 56).
9. اعتبار العزة و الکرامة من شؤون المؤمنین و خصائصهم و نفی أی سلطة و هیمنة علیهم فلا خضوع عندهم الا لله تعالى (المنافقون، الآیة 8 - محمد، الآیة 35 - هود، الآیة 113 - آل عمران، الآیة 146 و 149).
10. بیان الحقوق و المسؤولیات المتقابلة بین الحاکم و الرعیة (نهج البلاغة، الخطبة 216، ص 335 و 336).
11. اثبات السلطنة و الحاکمیة لبعض الصالحین العادلین کطالوت و ذی القرنین (البقرة، الآیة 246 و 247 - الکهف، الآیات 83 - 98).
12. اختصاص بعض الحقوق المالیة الکبیرة بولی أمر المسلمین و الحکومة الاسلامیة لصرفها فی المصالح العامة للمجتمع (انظر: اصول الکافی، باب صلة الامام و باب الفیء والانفال و تفسیر الخمس(.
یتضح من جمیع ما مر و بجلاء عدم صدق نظریة فصل الدین عن السیاسة بالنسبة الى الدین الاسلامی؛ بل أن الکم الهائل من التعالیم و المقولات الاسلامیة تتعلق بالقضایا السیاسیة و الاجتماعیة، و حسب تعبیر الامام الخمینی (ره) أن من بین 58 او 58 کتابا من الفقه الاسلامی لایوجد الا 7 او 8 کتب تتعلق بالعبادات و البقیة الباقیة کلها تتعلق فی مجال السیاسة، الاجتماع، و القضایا و المناسبات الاساسیة.
و فی الختام: نشیر الى احدى التبریرات الداعمة لنظریة فصل الدین عن السیاسة و نقدها نقدها مختصراً:
یعد علی عبد الرازق من الشخصیات الداعمة لفکرة او نطریة فصل الدین عن السیاسة مستندا فی ذلک الى بعض آیات الذکر الحکیم کقوله تعالى " قُلْ لَسْتُ عَلَیْکُمْ بِوَکیل" [11]؛ "إِنْ عَلَیْکَ إِلاَّ الْبَلاغ "[12] مدعیاً أن القرآن الکریم لم یمنح النبی وظائف اکبر من المسؤولیات و المهام الدینیة و أنه نزع ذلک عن کاهل النبی" [13]. و هذا عین ما استنبطة المهندس بازگان من الآیات المذکورة آیضاً.[14]
و یلاحظ على هذا الفهم، ان هذا الاستنباط ینطلق من النظرة السطحیة لکتاب الله تعالى. فان هذه الآیات لا تحصر مهام النبی (ص) و مسؤولیاته بالانذار و التبلیغ فقط، حتى تکون منافیة لسائر المقامات و المناصب التی تقع على کاهل النبی الاکرم (ص)، و هذا ما یفهمه أدنى متأمل فی الآیات التی تتعرض لمقام الحکومة و القضاء و هی کثیرة جداً نکتفی بواحدة منها و هی قوله تعالى " النَّبِیُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنینَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ ..."[15] فقد جعلت الآیات النبی (ص) أولى بالمؤمنین من انفسهم و اعطته حق التصرف بکل شیء بما فیه نفوسهم. و مما لاریب فیه أن مقام الاولویة شیء اکبر من مقام نبوته (ص)، روی عن الامام الباقر (ع) انه قال فی تفسیر الآیة المذکورة: " إنها نزلت فی الإمرة".[16]
و هناک آیات من الذکر الحکیم کلفت الانبیاء و وضعت على عاتقهم مسؤولیة اقامة القسط فی المجتمع" "لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمیزانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدیدَ فیهِ بَأْسٌ شَدیدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ...[17] " فهل من الممکن اقامة القسط و العدل بلا اصلاح للمجتمع و من دون سلطنة تستطیع تنفیذ ذلک؟!!
کذلک نرى الباری تعالى فی کتابه الکریم یشیر الى الهدف من وراء ارسال الانبیاء و بعث الرسل قائلا "کانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرینَ وَ مُنْذِرینَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیمَا اخْتَلَفُوا فیهِ وَ....[18]" فقد عدت الآیة المبارکة رفع الخصومة بین الناس هدفا من اهداف البعثة. فلو کان الاختلاف بین الناس أمراً طبیعیاً و واقعیاً و ان رفع الاختلاف بینهم ضروری لتحقق نظام المجتمع و الابتعاد عن حالة الهرج و المرج، فهل یکفی مجرد النصح و الارشاد فی تحقیق هذا الهدف الکبیر؟! و هل یکفی الوعظ فی معالجة مشاکل المجتمع؟!!. من هنا لم نجد نبیّا جاء بشریعة الا و نراه یطرح الى جانب الارشاد الذی یقوم مسألة الحاکمیة و الإمرة، فالله سبحانه لم یقل ان رفع الحکم و الخصومات یتم عن طریق البشارة و الانذار؛ بل انما یتم ذلک من خلال "الحکم"؛ و ذلک لانه من المستحیل حل الاختلاف و رفع الخصومات من دون ان تتوفر الضمانة التنفیذیة للحکم الصادر. و انطلاقاً من ذلک نرى جمیع المذاهب الفکریة و التشریعیة التی طرحت فی الوسط الانسانی کلها تؤکد على ضرورة وجود الحکومة التی تقوم بدور التنفیذ و الاجراء لتلک التعالیم و القوانین التی جاء بها ذلک المذهب او تلک المدرسة و لا یمکن ان تثبت تلک القوانین جدوائیتها من دون سلطة قادرة على التنفیذ. و إلا فاما ان لاتنفذ تلک الاحکام و القوانین او اذا وقع اجراؤها بید الجمیع یؤدی الى حصول حالة من الهرج و المرج فی المجتمع، و ما ذکرناه یشمل التعالیم الاسلامیة و هی غیر مستثناة عن ذلک، فصرف وجود القوانین لا یکفی فی تحقق الغرض من وراء تشریعه.
و هنا یطرح السؤال التالی: اذا کان من مهام الانبیاء تشکیل الدولة و الحکم بین الناس فلماذا نجد بعض الانبیاء لم یتصدوا لذلک فی حیاتهم؟
جوابه: هناک عدة احتمالات: الاول: یحتمل ان یکون تشکیل الحکومة مشروطاً بتوفر ظروف خاصة؛ کما نشاهد ذلک فی حیاة النبی الاکرم (ص) فانه فی السنین الاولى من عمر الرسالة (المرحلة المکیة) لم یتمکن من اقامة الدولة و الحکم الا انه تمکن من تشکیل الحکومة بعد الهجرة المبارکة.
الثانی: قد یکون النبی الذی لم یقم حکومة یعیش فی عصر رسول آخر، فتکون مهمة هذا النبی التبیلغ و الارشاد فقط کما نشاهد ذلک بالنسبة الى لوط (ع) الذی کان تابعاً لإبراهیم (ع) "فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ و..." [19] و لا محذور فی ذلک؛ لان نبوّة هؤلاء تمثل قبساً من نبوّة ذلک الرسول الذی تقع على کاهله قضیة إدارة الامور و تسییر المجتمع، و قد صرح القرآن الکریم بان مهمة ابراهیم تتمثل فی الامامة و القیادة "قالَ إِنِّی جاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِماما..."[20].
من هنا لا نبوّة الا و معها حکومة؛ على نحو الاستقلال او التبعیة؛ ففی المثال المذکور نجد النبی لوطاً (ع) یقع تحت سلطنة و حاکمیة إبراهیم فی حیاته السیاسیة و الاجتماعیة شأنه شأن سائر الناس.
و على هذا الاساس نجد القرآن الکریم یشیر الى حضور الانبیاء فی میادین السیاسة و الاجتماع و الادارة على نحو الموجبة الجزئیة: "وَ کَأَیِّنْ مِنْ نَبِیٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّیُّونَ کَثیرٌ.."[21]. فعدم التصریح بحکومة کل من نوح و عیسى (علیهما السلام) و غیرهم من الانبیاء لا یدل على عدم وجودها فی الواقع؛ بل ذلک من قبیل قوله تعالى "... وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَیْکَ وَ ..." [22] فکما لم یذکر القرآن الکریم جمیع الانبیاء المبعوثین من قبل الله تعالى کذلک لم یذکر جمیع خصوصیاتهم و شؤون حیاتهم.
تحصل: ان تشکیل الحکومة و اقامة الدولة من قبل الانبیاء یعد من الضروریات و کلهم تحرکوا وفقاً للشروط و الظروف المحیطة بهم. و یشیر الى ذلک بالاضافة الى آیات الذکر الحکیم، السیرة النبویة الشریفة، و فی ذلک کله رد على النظریة التی تدعی فصل الدین عن السیاسة.[23]
ب: لمزید الاطلاع انظر السؤال رقم 7883، تحت عنوان: نقد دلیل العلمانیة، کذلک ینبغی مراجعة الکتب التالیة:
1. الامام الخمینی و الحکومة الاسلامیة، العدد 1، الاسس الکلامیة، مؤتمر الامام الخمینی و فکر الحکومة الاسلامیة.
2. کاظم قاضی زاده، اندیشههای فقهی - سیاسی امام خمینی3 (الفکر الفقهی و السیاسی عند الامام الخمینی).
3. الامام الخمینی، ولایة الفقیه.
4. آیة الله جوادی آملی، ولایة الفقیه.
5. آیة الله مکارم الشیرازی، التفسیر الامثل، ج 2
6. محمد جواد نوروزی، نظام سیاسی اسلام (النظام السیاسی فی الاسلام).
7.نبی الله ابراهیم زاده آملی، حاکمیت دینی "الحکومة الدینیة".
8- علی ذوعلم، مبانی قرآنی ولایت فقیه (الاسس القرآنیة لولایة الفقیه).
9- عبد الله نصری، انتظار بشر از دین، ص 307 (الدین بین الانتظار و التوقع).
10. حسن قدردان قراملکی، سکولاریسم در اسلام و مسیحیت (العلمانیة فی الاسلام و المسیحیة).
[1] ابن ابی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 160.
[2] الامام الخمینی، صحیفة النور، ج83، ص217؛ حول خطاب رضا شاه لآیة الله الکاشانی.
[3] سروش، محمد ، دین و دولت در اندیشه اسلامی(الدین و الدولة فی الفکر الاسلامی)، ص 120 ـ 126
[4] صحیفه نور، ج 1، ص 6.
[5] الحج،41.
[6]. حدید، 25
[7]. مائده، 8
[8]. نحل، 36
[9]. نساء، 75
[10]. نساء، 59
.[11] انعام، 66.
.[12] شوری، 48
[13] . علی عبدالرزاق، الاسلام و اصول الحکم، ص 171.
[14] مجله کیان، شماره 28، ص 51
[15] . احزاب، 6
[16] مجمعالبحرین،ج1، ص 457،ماده "ولی"
[17]. حدید، 25
[18] بقره، آیه 213
[19] عنکبوت، 26
[20] بقره، 124
[21] آل عمران، آیه 146
[22] نساء، آیه 164
[23] مستل من مقال: دین و سیاست