المستفاد من الروايات و النقول التأريخية أن النبي الاكرم (ص) نهى عن زيارة القبور في السنين الاول معللا ذلك بعلل خاصة و عندما انتفت تلك العلل و الاسباب المانعه، رفع (ص) المنع و اباح للمسلمين زيارتها، بل أكد استحباب ذلك، و قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانّها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة» و علمهم كيفية الزيارة كما في المروي عن عائشة.
و أما بالنسبة الى تاريخ رفع الحظر فقد حددت بعض المصادر التأريخية ذلك في السنة الهجرية السابعة عند عمرة الحديبية.
تشير الشواهد و القرائن التاريخية و المؤيدات القرآنية الى كون ظاهرة زيارة القبور من الامور الشائعة و بانحاء مختلفة لدى الشعوب و الاقوام قبل الاسلام. و يعتبر بناء القبور و الاضرحة و التوجه لزيارتها من الاساليب التي تعتمدها تلك الشعوب لاستمرارية و خلود عظمائهم و شخصياتهم الكبيرة. و المتابع لتاريخ الحضارات و المدنيات المختلفة كاليونانية و حضارة ما بين النهرين يشاهد و بوضوح تام و خاصة في مصر القديمة الابنية الضخمة التي شيدت على قبول رجالاتهم الاعم من الانبياء و السياسيين و العلماء و.... و التي تحولت رويداً رويداً الى مزارات يؤمها الكثير من الناس، و اتخذت أحياناً دوراً للعبادة و التضرع الى الله تعالى. و قد ورد في بعض الروايات إشارة الى اتخاذ مقابر الانبياء –احيانا- قبلة و التوجه بالعبادة لها و اتخاذ قبور الانبياء مساجد.[1]
و يستفاد من بعض الآيات الكريمة- في القرآن- أنّ تعظيم قبور المؤمنين كان أمراً شائعاً بين الأُمم الّتي سبقت ظهور الإسلام، فحينما انتشر خبر اصحاب الكهف بين الناس هرعوا إلى الكهف لمشاهدتهم- و اتخاذ القرار المناسب بحقهم و حينئذ وقع الخلاف والنزاع حول مدفنهم و انقسموا قسمين، فقال أحدهما: «ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً». و قال الآخر: «لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً».[2]
هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يذكر لنا هذين الرأيين، من دون أن ينتقدهما، وعلى هذا يمكن القول بأنّه لو كان الرأيان باطلين لانتقدهما، أو قصّ، قصّتهما بأُسلوب رافضٍ مستنكر.[3] و مما لاريب فيه أن المقترحين المذكورين إنما كانوا يهدفون تكريم هؤلاء الرجال و الرفع من مقامهم و اتخاذ قبورهم محلا للزيارة.
و هنا يثار السؤال عن الفترة الزمنية التي أبيح فيها بناء القبور و زيارتها في الفكر الاسلامي، و هل هي من الامور التي ولدت بولادة الاسلام؟ او هي من الامور التي تأخر تشريعها فترة معينة؟
المستفاد من الروايات و النقول التأريخية أن النبي الاكرم (ص) نهى عن زيارة القبور في السنين الاول معللا ذلك بعلل خاصة و عندما انتفت تلك العلل و الاسباب المانعه، رفع (ص) المنع و اباح للمسلمين زيارتها، بل استحباب ذلك.
و يمكن الاشارة هنا الى بعض العلل و الاسباب التي دعت الى منع المسلمين من زيارة القبور:
1. لعلّ النهي كان لملاك آخر، و هو أنّ أكثر الأموات- يومذاك- كانوا من المشركين، فنهى النبي (ص) عن زيارتهم، و لمّا كثر المؤمنون بينهم رخّصها بإذن اللَّه عزّ وجلّ، و قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانّها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة». [4]
2. لعل من الاسباب التي أدت الى المنع كون المسلمين حديثي عهد بالاسلام و تعاليمه الراسخة و عدم انصباغ المجتمع بالصبغة الاسلامية في عاداته و تقاليده، و بقاء آثار القيم و العادات الجاهلية و عدم زوالها بالكامل عن ذهنية المجتمع، من قبيل الصراخ و العويل و اللطم على الصدور عند القبور، قد يكون ذلك كله هو الداعي الى المنع من زيارتها، فلما ترسخت المفاهيم الاسلامية و قويت الشخصية الاسلامية و مد الدين الاسلامية جذوره في اعماق المجتمع لم يبق مبرر المنع قائماً، و توفرت الارضية المناسبة لرفع الحكم السابق من قبل النبي الاكرم (ص)، و الشاهد على ذلك لحن كلام النبي (ص) عندما أباح لهم الزيارة: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها و لا تقولوا هجرا".[5]
3. و يحتمل أن تكون العلّة شيئاً آخر، وهو أنّ المسلمين كانوا حديثي عهد بالإسلام، فكانوا ينوحون على قبور موتاهم نياحة باطلة تُخرجهم عن نطاق الشريعة، و لمّا تمركز الإسلام في قلوبهم و أنسُوا بالشريعة و الأحكام، ألغى النبي- ص- بأمر اللَّه تعالى النهي عن زيارة القبور، لما فيها من الآثار الحسنة و النتائج الطيّبة.[6]
تاريخ و كيفية رفع المنع من زيارة القبور
ظهر مما مر بان المنع لم يكن من الاحكام الثابتة و انما كان منطلقا من علل و اسباب خاصة زال بزوالها، و من هنا يحدثنا التأريخ بان النبي الأكرم (ص) أباح ذلك في السنة الهجرية السابعة عند عمرة الحديبية[7]، روى الإمام أحمد، عن أنس أن رسول الله- ص- قال «ألا إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ثم بدا لي أنها ترق القلوب، و تدمع العين، فزوروها و لا تقولوا هجرا»،[8] و انه (ص) زار قبر أمه في ألفي مقنّع فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم. رواه الحاكم و صححه عن [بريدة].[9]
زيارة القبور في القرآن و السنة
تعد زيارة الانسان لمن تربطه به رابطة من النسب او الدين و غيرهما من الامور المحبذة التي تنسجم مع طهر الروح الانسانية و نقائها، و من هنا نرى القرآن الكريم و السنة المطهرة يؤيدان أصل الزيارة، حيث نشاهد في بعض آيات الذكر الحكيم ما يؤكد قضية الزيارة في صدر الاسلام، حيث قال تعالى: «ولا تُصَلِّ عَلى أحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ ورَسُولهِ وماتُوا وَهُم فاسِقُونَ»[10].
فإنّ الآية تسعى لهدم شخصية المنافق، و رفع العصا في وجوه حزبه و نظرائه، و النهي عن هذين الأمرين بالنسبة إلى المنافق، معناه و مفهومه مطلوبية هذين الأمرين (الصلاة و القيام على القبر) بالنسبة لغيره أي للمؤمن.[11]
و قد جسّد النبي الاكرم (ص) بعمله مشروعية زيارة القبور- مضافاً إلى أنّه أمر بها – و علّم كيفيتها، و كيف يتكلّم الإنسان مع الموتى، فقد ورد في غير واحد من المصادر، أنّه (ص) زار البقيع، نكتفي بذ كر روايتين منها:
1- روى مسلم عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللَّه (ص) كلّما كان ليلتها من رسول اللَّه (ص) يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين و أتاكم ما توعدون، غداً مؤجَّلون و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللّهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» .[12]
2- و عن عائشة في حديث طويل أنّ النبيّ (ص) قال لها: «أتاني جبرئيل فقال: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول اللَّه؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين، و رحم اللَّه المستقدمين منّا و المستأخرين و إنّا إن شاء اللَّه بكم لاحقون».[13] و[14]
ثمار زيارة القبور
تشتمل زيارة القبور على الكثير من الفوائد و الثمار على المستويين التربوي و الاخلاقي، اشار النبي (ص) الى بعضها في الحديث المروي عنه: "زيارة القبور تُذكِركمُ الآخرةَ".[15]
ثم ان زيارة القبور و التأمل في الحالة التي وصل اليها الموتى و اشتراك غنيهم و فقيرهم و حاكمهم و محكومهم و عالمهم و جاهلهم في قبور دارسه في أرض مقفرة و حفر مظلمة و... كل ذلك يزيل من النفس الحرص و الطمع و التعلق بهذه الدنيا الفانية، و يجعله ينظر الى الأمور نظرة موضوعية و يغير من سلوكه اتجاه الاحداث و الوقائع و المواقف التي تواجهه، معرضاً عن المنكرات و عاملاً للخيرات و مهتما بالقيم الاخلاقية، من هنا نرى النبي الاكرم (ص) يشير الى هذا البعد التربوي و العبر الكامنة في زيارة القبور.[16]
و روي عن الامام الرضا (ع) في بيان فوائد زيارة قبور المؤمنين: " ما منْ عبد مؤمن زار قبر مُؤمن فقرأَ عندهُ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) سبع مرَّاتٍ إِلا غفر اللَّهُ لهُ و لصاحب القبر".[17] و في رواية أخرى: " أمن من الفزع الاكبر"[18] هذا في زيارة غير المعصومين، و اما زيارة النبي الاكرم و الائمة الاطهار فلها آثارها الخاصة التي تعرضت لها الروايات، منها ما روي عن الامام الحسين (ع) أنه سأل جده المصطفى: يا أَبتاهْ ما جزاءُ من زارك؟ فقال رسولُ اللَّه (ص): يا بنيَّ من زارني حيّاً أَو ميِّتاً أَو زار أَباك أَو زار أَخاك أَو زارك كان حقّاً عليَّ أَن أَزورهُ يوم القيامة و أُخلِّصهُ من ذنوبه".[19]
هذه قبسة من تلك الثمار العظيمة المترتبة على زيارة القبور. و قد فصل بعض الاعلام الكلام في النتائج المترتبة على الزيارة و نظر الى القضية من زاوية أخرى حيث قال:
النتائج البنّاءة لزيارة قبور الشخصيّات الدينيّة
إنّ القبور الّتي تحظى باهتمام و احترام المؤمنين باللَّه في العالم- و خاصّة المسلمين- هي في الغالب قبور حَمَلة الرسالات الإصلاحية الذين أدّوا مهمَّتهم على الوجه المطلوب. وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
1. الأنبياء و القادة الدينيّون الذين حملوا على عاتقهم رسالة السماء و ضحّوا- من أجلها- بالنفس و المال و الأحباب، و تحمّلوا أنواع المتاعب و المصاعب من أجل هداية الناس.
2. العلماء و المفكّرون الذين كانوا كالشمعة تُحرق نفسها لتُضيء للآخرين، و قد عاش هؤلاء حياة الزهد و الحرمان، و قدّموا للعالم البحوث القيّمة و التحقيقات الرائعة في شتى المجالات.
3. المجاهدون الثائرون الذين ضاقوا ذرعاً ممّا يعيشه المجتمع من الظلم و سحق الحقوق و التمييز العنصري أو القومي، فثاروا ضدّ الظلم و الطغيان و طالبوا بحفظ كرامة الإنسان و أداء حقوقه، و أقاموا صرح العدالة بدمائهم الغالية.
إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيّات هي نوع من الشكر والتقدير على تضحياتهم، و إعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحقّ و الهدى والفضيلة و الدفاع عن المبدأ والعقيدة.[20]
انطلاقا من هذه الثمار و الفوائد الاجتماعية الكبيرة المترتبة على زيارة مراقد الصالحين و العظماء نجد الشعوب غير الاسلامية هي الاخرى تحتفظ لشخصياتها بهذا الحق فتشيد على قبورهم الابنية الشامخة و تزورها و تؤدي أمامها مراسم التقدير و التبجيل للاقتداء بهم و اتخاذهم أسوة في الحياة؛ و ذلك لان البشرية ترى ذلك حقا ينبغي الوفاء به و ان تجليل العظماء و احترامهم من الامور التي تدعو اليه الفطرية البشرية.
تحصل: ان زيارة القبور من الامور التي أقر شرعيتها القرآن الكريم و السنة المطهرة و العقل، بل يمكن القول بانها من الامور الفطرية؛ و ذلك لان الانسان يميل بفطرته لزيارة و تكريم من تربطه بهم رابطه خاصة. اضف الى ذلك ان زيارة القبور من الامور التي تساعد في نشر و ترسيخ المفاهيم الدينية و العقائدية لدى الانسان. و بهذا لا تعد الزيارة من الامور المباحة فقط بل ترتقي الى مستوى الاستحباب الشرعي.
انظر المواضيع التالية:
فلسفة زیارة الأئمة (ع)، 5362 (الموقع: ar5694).
ثواب زیارة الإمام الحسین (ع)، 7470 (الموقع: 7672).
زیارة بيت الله الحرام و الأئمة بنية خالصة، 5404 (الموقع: ar5829).
[1] الصدوق، محمد بن علي، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 178،مؤسسة النشر الاسلامي، قم، الطبعة الثالثة، 1413 ق.
[2] الكهف، 21.
[3] السبحاني، جعفر، الوهابية في الميزان، ص: 38.
[4] السبحاني، جعفر، بحوث قرآنية، ص: 55- 56، نقلا عن: سنن ابن ماجة: 1/ 117، باب ما جاء في زيارة القبور.
[5] الاحسائي، محمد بن علي، عوالياللآلي، ج 1، ص 45، انتشارات سيد الشهداء عليهالسلام، قم، الطبعة الاولی، 1405 ق.
[6] الوهابية في الميزان، ص: 95.
[7] ابن سعد، الطبقات الکبری، ج 1، ص 94 ، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الاولی، 1410ق.
[8] صالحي شامي، سبل الهدى، ج 8، ص 384 ، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الاولی ، 1414 ق.
[9] نفس المصدر،ج2،ص:126.
[10] التوبة، 84.
[11] الشيخ السبحاني، جعفر، في ظلال التوحيد، ص: 240- 241.
[12] مسلم، الصحيح 3: 63، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها من كتاب الجنائز
[13] مسلم، الصحيح 3: 64، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز؛ النسائي، السنن 4: 91
[14] في ظلال التوحيد، ص:244.
[15] المجلسي، محمد باقر، بحارالأنوار، ج 79، ص 169، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة 1404 ق.
[16] انظر: الفيض الکاشاني، ملامحسن، المحجةالبيضاء، ج 9، ص 289، نشر اسلامي، الطبعة الرابعة، 1417 ق.
[17] عطاردي، عزیزالله، مسند الإمام الرضا عليه السلام، ج2 ، ص 254،آستان قدس رضوی ،مشهد ، الطبعة الاولی 1406 ق.
[18] الشیخ المفید، المقنعة ص : 492، مؤتمر الشیخ المفید، قم، 1413هـ.
[19] الصدوق محمد بن علي ،منلايحضره الفقيه ج : 2 ص : 577 ،مؤسسة النشر الإسلامي،قم ، الطبعة الثالثة 1413 ق.
[20] الوهابية في الميزان، ص 103.