یستعمل لفظ الحریة فی عدّة معان کالاختیار، و التحرر من الغرائز و القیود، و الانعتاق و لکن محور البحث هنا فی الحریة السیاسیة، الحریات المدنیة، الاجتماعیة.
و لقد انتهج البعض هنا منهجاً افراطیاً و اعتبروا أیّ تحدید لحریة الانسان سبباً لتعاسة الانسان و بؤسه، و لم یسمحوا بتحدید الحریة الاّ فی حالة واحدة و هی فیما اذا کانت الحریة محددة للحریة نفسها، و منهم من ذهب أن التقنین و التشریع حق من حقوق الشعب هو الذی یشرّع، و منهم من ذهب الى انّه حق الاخصائیین و الخبراء و السیاسیین فقط .
و فی المقابل نجد هناک طائفة أُخرى انتهجت منهج التفریط حیث اعتبرت الناس کائنات وحشیة و کاسرة اسرتهم المدنیة، و یذهب هذا الصنف من الناس الى ان سبب السلوک الانسان المتمدّن نسبیاً فی المجتمعات الحاضرة هو بسبب ان الانسان راى من مصلحته ان یتنازل أو یوقف حالة الصراع و المواجهة مع الاطراف الأُخرى و یذعن الى سلطة الدولة و القانون. فمن أجل الامن الاجتماعی یتنازل عن سبعیته الفطریة.
ترتبط رؤیة المفکرین الغربیین للحریة بالتفسیر الذی عرضوه للانسان من جهة، و من جهة أُخرى ان هؤلاء المفکرین بالرغم من کل نقاط الاختلاف الاساسیة بینهم إلاّ انهم یشترکون فی نقطة واحدة و هی انهم یرون: التقنین حقاً بشریاً خالصاً.
و لکن الفکر السیاسی الإسلامی یرفض هذین المسلکین و المنهجین، لانّ الانسان وفقاً للنظریة الإسلامیة ذو بعدین، البعد الفطری الالهی، و البعد المادی الطبیعی و الذی هو منشأ المیول الحیوانیة. و من هنا لابدّ ان یکون التقنین و تحدید مسار الانسان الدنیوی لله سبحانه و فی ظل الوحی الربّانی باعتبار کونه تعالى هو العارف بمصالح ومفاسد العباد.
یطلق لفظ الحریة و یراد منه معان متعددة کالاختیار، و التحرر من الغرائز و القیود، و الانعتاق، و لکن الذی یعتبر مصب البحث و مرکز الدراسة فی مجال السیاسة هو الحریّات المدنیة و الاجتماعیة. و السؤال الاساسی المطروح فی باب الحریة الاجتماعیة هو: الى أیّ حدّ یمکن للدولة أو القانون التدخل فی الحریة الفردیة و تحدیدها؟
انتهج بعض المفکرین فی مقام الجواب عن السؤال المطروح منهج الإفراط و اعتبروا أیَّ تحدید للحریة یُعد سبباً لتعاسة الانسان و بؤسه یقول جان استورت میل:
«المجتمع الذی یحدّ الحریة یصنع افراداً ضعفی العقول مترددیین، و الخلاصة: یصنع اناساً ذوی استعدادات قلیلة»[1].
و اما جان جاک روسو فیقول:
«ان من یصرف النظر عن الحریة لدى الانسان انما یصرف النظر عن حقوق بل و حتى عن وظائف البشریة، و هذه الخسارة لا یجبرها أیّ شیء ابداً».[2]
ان هذه الطائفة من المفکرین لا یسمحوا بتحدید الحریة إلاّ فی حالة واحدة و هی فیما اذا کانت الحریة مانعة من تحقق الحریة، یعنی فی حالة ما اذا کانت حریة فرد معیّن سبباً لتقیید أو سلب حریة الآخرین، من هنا یرى هؤلاء ان الحریة تحد بالحریة فقط.
و من بین هؤلاء المفکرین مثل روسو یرون ان التقنین و التشریع حق من حقوق الشعب، و لیس للدولة إلاّ دور التنفیذ لارادة الشعب. و لکن هناک طائفة أُخرى منهم مثل جان استوارت میل یذهبون ان هذا حق من حقوق الاخصائیین و الخبراء و السیاسیین الذین یستطیعون البحث فی القضایا الاجتماعیة و تشخیص الصالح من الفاسد منها و رسم الحدود بینهما.
و لکن هناک طائفة أُخری من المفکرین انتهجت منهج التفریط مثل میکافیلی الذی یرى ان الناس وحوشا کاسرة و مفترسة اسرتهم المدنیّة، و من هنا لو اطلق لهم عنان الحریة فانّهم سیرجعون الى حالتهم و صفاتهم السابقة من التوحش و الافتراس، و قد أیّد تلک النظریة المیکافیلیة العالم الانجلیزی توماس هویز حیث یرى هویز ان سبب هذا السلوک المدنی نسبیّاً لدى الانسان فی المجتمعات المعاصرة هو انهم رأوا أن من مصلحتهم الخاصة التنازل و ترک حالة الصراع و المواجهة مع بعضهم الآخر و الاذعان الى السلطة و القانون، فمن أجل الامن الاجتماعی تنازل و تخلّى عن سبعیته الفطریة. و بعبارة أُخرى: یرى هویز ان المجتمع البشری مجتمع یحکمه قانون الغاب فی حروبة فلابدّ من وجود (آفة) تنین[3] باسم الدولة یستطیع السیطرة علیه،[4] و من هنا نرى هابز یوجه دکتاتوریة الدولة قائلاً: ان الناس وفقاً لنظریة العقد الاجتماعی قد امضوا عقداً آحادی الجانب (ایقاعی) مع الدولة، تنازلوا خلاله عن حریاتهم الفردیة فی مقابل الامن الاجتماعی.
ان نظرة اجمالیة لما مرّ تکشف لنا ان آراء المفکرین الغربیین فی الحریة ترتبط ارتباطاً وثیقاً بتفسیرهم للانسان، فاذا ما کان التفسیر سلبیّاً ، کان المنهج المعتمد هو قبال الحریة هو المنهج المیکافیلی ومنهج توماس هویز، و امّا اذا کان التفسیر ایجابیّاً و النظرة إلى الانسان نظرة تفاؤلیة حینها یسود منهج جون لوک و جان جاک روسو.
نلاحظ من جهة أُخرى ان جمیع هؤلاء المفکرین المتنوّرین ـ حسب الاصطلاح المعاصر ـ بالرغم من وجود الاختلاف الکثیر بینهم فی کافة القضایا إلاّ انّهم یشترکون فی نقطة واحدة و هی انهم یرون: ان التقنین حق بشری خالص، حتى من یرى ان الانسان وحشی بالطبع و کائن مفترس.
و لکن الفکر الإسلامی یرفض هذین المنهجین، حیث یرى الانسان کائناً مزدوجاً ففی الوقت الذی یحمل فیه فطرة الهیة تسوقه نحو فعل الخیرات و التمسّک بالمعنویات[5]، فی نفس الوقت هو موجود یمتلک بُعداً مادیّاً و طبیعیاً یکون منشأ للغرائز و المیول الحیوانیة، و ان سعادة الانسان تتحقق فیما اذا تغلّب البعد المعنوی الالهی و الفطری من الانسان على بعده المادی، مع المحافظة على البعد الطبیعی بصورة متوازنة و صحیحة.
کما ان الفکر الاسلامی یذهب إلى ان التشریع و التقنین و تعیین المسار المادی للإنسان منحصر بالهدایة الالهیة و فی دائرة الوحی الربانی، لانه سبحانه و تعالى هو العالم الواقعی بمصالح الانسان و مفاسده.
من هنا یتضح لنا ان النظریة الاسلامیة لمفهوم الحریة نظریة متوازنة لا تمیل الى جانب الافراط و لا التفریط، فلا تبیح الحریة المفرطة التی تقود المجتمع إلى الفساد و الرذیلة، و لا أنها تنظر إلى الانسان نظرة متشائمة و سلبیة تجبره على الاذعان لکل حکومة ظالمة تستحق حریاته و تهدر کرامته و تحوّله من موجود فعّال و مختّار و مسؤول إلى موجود ذلیل عدیم الارادة.
لمزید الاطلاع انظر: هادوی طهرانی، ولایت و دیانت، نشر مؤسسة فرهنگى خانه خرد ـ دار العقل الثقافیة ـ ، قم، الطبعة الثانیة، 1380 هـ . ش.
[1] جان استورت میل، رساله در باره آزادى ـ رسالة حول الحریة، الشیخ الإسلامی، ص 25، بنگاه ترجمه و نشر کتاب، 1338 هـ ش.
[2] جان جاک روسو، قرارداد اجتماعی -العقد الاجتماعی-، شکیباپور.
[3]Leviatan.
[4] ضاعی، محمود، آزادی فرد و قدرت دولت» بحث در عقاید سیاسی احتناعی -بحث فی المذهب السیاسی و الاجتماعی لتوماس هوبز و لوک و استوارت میل، طهران 1338 هـ . ش. د. جمیل باروت المجتمع المدنی ص 18 ـ 14 .
[5] الروم 30، فطرت الله التی فطر الناس علیها.