Please Wait
8729
فسر (العدل) بمعان مختلفة و متعددة منها:
الاتزان و التعادل فی أجزاء مجموعة مرکبة.
رعایة حقوق الأفراد و إعطاء کل ذی حق حقه.
مراعاة الاستحقاق فی نسبة الوجود.
المساواة و اجتناب أی نوع من أنواع التفرقة.
و أما المعنى الذی یتناسب مع السؤال المتقدم فهو المساواة و اجتناب ألوان التفرقة و الذی یقابله الظلم و اللامساواة، و معناه التعامل بمنهج واحد و طریقة واحدة مع کل أحد و کل شیء فی مختلف الظروف و الأحوال.
و مفهوم الحق و الاستحقاق بالنسبة للأشیاء عندما تنسب إلى الله تعالى معناه الاحتیاج و إمکان الوجود أو کمال الوجود. و باعتبار أن الله سبحانه هو المنبع الفیاض و الفاعل التام فإن کل موجود یتلقى من فیض الخالق ما یستحق دون أی نقص. و إذا ما شوهد نقص فالمشکلة فی وعاء و ظرف المستقبل و استعداده لتلقی الفیض الدائم.
و أما لماذا خلق الله العالم و موجوداته بهذه الکیفیة، و هل أن أفعال الله سبحانه معللة بالأغراض أم لا؟
على رأی المعتزلة خلافا للاشاعرة، فإن أفعال الله معللة بالأغراض و المصالح و على أساس اختیار الأصلح، و لذلک فالنظام الموجود فی الکون هو النظام الأحسن.
و أما الحکماء المسلمون الشیعة فقد قسموا الغایة إلى قسمین: غایة الفعل، و غایة الفاعل، و قالوا بعد ذلک: إن لکل فعل غایة، و إن الذات المقدسة الإلهیة هی غایة الکل، أی أنها غایة الغایات، و إن جمیع الأشیاء منه و هی إلیه « وَ أَنَّ إِلَى رَبِّکَ الْمُنْتَهَى».
إن کیفیة و نحو ترتیب نظام الموجودات کامن فی ذاتها و هو عین وجودها، و ذلک ما تحقق بإرادة إلهیة واحدة، و لا وجود لإرادتین فی المسألة، کأن تکون إحداهما مختصة بالخلق و تحقق الأشیاء و الثانیة لنظامها و ترتیبها، فیکون لها تحقق و وجود قبل وجود نظامها و ترتیبها. و لذلک فإن الاختلاف الموجود فی عالم الوجود هو من قبیل التفاوت لا التفرقة و التبعیض. و إن ما یتنافى مع العدل هو التفرقة و التبعیض لا التفاوت. و على أساس قانون العلة و المعلول فإن التفاوت ذاتی بالنسبة للموجودات. و ذلک أن کل علة یصدر عنها معلول خاص، و بما أن العلل مختلفة فلابد أن تکون المعلولات مختلفة أیضاً، لأن تخلف المعلول عن علته محال، و لابد أن یکون المعلول من سنخ علته، إضافة إلى ذلک فإن للاختلاف آثاراً إیجابیة کثیرة منها الحرکة و التحول و الفعالیة و غیرها. فالعالم أشبه بجسم الإنسان، حیث من اللازم لتحقق الکل أن تضم أجزاؤه بعضها إلى البعض الآخر. و لذلک فمن أجل وجود النظام الحسن فالتفاوت (لا التبعیض) ضروری و لو لم یکن القبح و الحسن إلى جانب بعضهما فلا القبح قبح ولا الحسن حسن.
و أما ما یخص المصائب و البلایا فیجب أن یقال: إن المصائب و البلایا المختلفة موجودة فی نظام الوجود، و بعض البلایا و المصائب هی نتیجة لفعل الإنسان، و بعض البلایا تکون من نصیب الأولاد بسبب تساهل الأبوین و إهمالهما، و کلا القسمین یرجع إلى الإنسان و لا ینبغی أن ینسبا إلى الباری تعالى.
و فی بعض الأحیان یکون البلاء لأجل محو الذنوب و إزالة آثارها، فهو کفارة للذنوب فی واقع الحال. و المصائب تکون باعثاً و سبباً للیقظة و التنبه من الغفلة أحیاناً، و تارة تکون من أجل الامتحان و التکامل بالنسبة إلى الأفراد فهی لیست لا تتنافى مع العدالة و حسب، و إنما هی عین الرحمة و کرم الخالق تعالى.
أما القول بأن الله یعطی البعض و یمنع البعض الآخر فی الرزق، فهذا کلام غیر صحیح، لأن رزق جمیع الأحیاء على الله سبحانه، و لکن السعی و طلب الرزق هو من وظیفة العباد، و إن کان ترتیب الأمور و جمیع الأسباب الظاهریة و غیر الظاهریة هو بتقدیر إلهی، و إن الله سبحانه لم یحرم أحداً من الرزق ابتداءً. و قد جاء فی الروایات أن الرزق رزقان: (رزق مطلوب) و (رزق طالب)، و الرزق الطالب هو الرزق الذی یأتی من دون طلب، و أما الرزق المطلوب فهو الرزق الذی یسعى الإنسان لتحصیله. و الرزق الطالب هو رزق إفاضة الوجود و العمر و ... و أما الرزق المطلوب فهو الذی یحصل من خلال الکدح و تهیئة الإمکانات اللازمة لتحصیله.
و أما بخصوص الهدایة و الإضلال من قبل الله تعالى فیقال فیها: یمکن تقسیم الهدایة الإلهیة إلى نوعین تکوینیة و تشریعیة، و تنقسم الهدایة التکوینیة بدورها إلى قسمین الهدایة العامة و الهدایة الخاصة. و الهدایة التکوینیة العامة تشمل کل أصناف العباد الکافر و المؤمن و ... و أما الهدایة التکوینیة الخاصة فإنها من نصیب عباد الله الخاصین.
أما الإضلال (الإهمال و الترک) الإلهی. فلا یکون من الله ابتداء و هذا أمر مقطوع به، و إن الذات المقدسة لا تترک أحداً و لا تضله ابتداءً. و لکن إذا ما أعرض العبد و تنکر لأوامر الله و نواهیه (الهدایة التشریعیة) و سلک طریق الخیبة و الخسران باختیاره فإن الله یکله إلى نفسه و یترکه و شأنه، و هذا هو معنى الإضلال الإلهی.
هل إن التفاوت بین المخلوقات و خصوصاً بین أفراد الإنسان صحیح؟ و لماذا یرزق الله البعض و یمنع الآخرین، و لماذا یخلق البعض جمیلاً و الآخر قبیحاً، یهدی البعض و یترک البعض الآخر، أفلا یتنافى هذا مع العدالة الإلهیة؟
حتى نجیب عن السؤال لابد من دراسة معنى (العدل) و مدلوله، و لهذه الکلمة أربعة معان:
ألف- (التوازن) إذا فرضنا وجود مجموعة معینة مرکبة من عدة أجزاء مختلفة لها هدف مشخص و مقصود تعمل لأجل تحقیقه. فلابد من مراعاة التوازن بین الأجزاء من حیث المقدار اللازم لکل جزء، و کذلک الکیفیة التی ینبغی أن یکون علیها ارتباط الأجزاء و تناسقها و فی ذلک فقط یمکن للمجموعة أن تبقى و أن تحقق الهدف المطلوب من وجودها و نتائج عملها. فلو أراد مجتمع ـ مثلاً ـ أن یبقى و یستمر و ینعم بالهدوء و الاستقرار لابد له أن یکون متعادلاً و متوازناً.. و ما هو ضروری فی التوازن الاجتماعی هو أن یؤخذ مقدار الاحتیاجات بنظر الاعتبار، فیرصد ما یتناسب و هذه الاحتیاجات من أموال و جهود، و هنا یأتی مفهوم (المصلحة) و المراد بالمصلحة هنا مصلحة الکل، المصلحة التی یعتمد علیها بقاء و دوام الجمیع مع الأخذ بنظر الاعتبار الأهداف المراد تحقیقها لهذا الکل.
فالعالم متوازن و متعادل، و لو لم یکن موزوناً و متعادلاً لما کُتب له البقاء و الثبات، و لما رأینا هذا النظام المحسوب بدقة متناهیة.
و النقطة التی تقابل العدل بهذا المعنى هی عدم التناسب لا الظلم، وعلى هذا الاساس یخرج العدل بهذا المعنى عن موضوع بحث التبعیض والتفاوت، ان بحث العدل بمعنى التناسب یکون بلحاظ الکل و المجموع بالنسبة لنظام العالم، و لکن بحث العدل فی مقابل الظلم یکون منظوراً فیه کل فرد و کل جزء على حدة دون ارتباطه بالأجزاء الأخرى.
ب ـ المعنى الثانی للعدل هو رعایة حقوق الأفراد و إعطاء کل ذی حق حقه، و الظلم هنا بمعنى مصادرة حقوق الآخرین و التجاوز علیها و التصرف فیها، و هذا المعنى من العدل و الظلم لا یمکن أن ینسب للذات الإلهیة بأی حال من الأحوال، و ذلک على أساس قاعدة الأولویات من جهة، و من جهة أخرى فإنه ناشئ من بعض خصوصیات البشر، و ذلک عندما یبتلى الناس باستخدام سلسلة من الأفکار الاعتباریة و یصوغون على أساسها (ما ینبغی و ما لا ینبغی) و ینتزعون بذلک نوعاً من الحسن و القبح.
و هذا کله من مختصات البشر و لا سبیل له بالنسبة لساحة القدس الإلهی ذلک أنه سبحانه هو المالک المطلق، و لیس لموجود أی أولولیة إذا نسب لأی شیء قیاساً بالله تعالى.
فتفاوت الأولیات یکون بین الناس بالنسبة إلى الأشیاء.
جـ ـ مراعاة الاستحقاق فی إفاضة الوجود و عدم امتناع الإفاضة:
تتفاوت الموجودات فی نظام الوجود بلحاظ قابلیاتها و استعداداتها و إمکاناتها بالنسبة لتلقی الفیض من مبدأ الوجود، فکل موجود ـ و فی أی مرتبة کان ـ له استحقاق خاص من الإفاضة، بلحاظ قابلیة الاستفاضة. فذات الحق المقدسة التی هی کمال مطلق و فیاض على الإطلاق، تعطی و تفیض على کل موجود ما هو ممکن من الوجود و الکمال، من دون إمساک أو نقص.
و من هنا یذهب الحکماء الى أنه لیس لموجود حق على الله سبحانه فیکون أداؤه من باب القیام (بالوظیفة) أو (أداء الدین). فعدل الله هو عین الفضل و الجود.
د- المعنى الآخر للعدل هو المساواة ونفی التبعیض.
اذا کان المقصود من العدل انه لاتراعى الاستحقاقات و ان ینظر لکل شیء و لکل احد بعین المساواة من دون ای امتیاز،.فهذا المعنى فی الواقع هو عین الظلم.
و اما اذا کان المقصود من العدل رعایة التساوی فی موارد الاستحقاق المتساویة.
فهذا معنى صحیح، و العدل یقتضی مثل هذه المساواة و هذه المساواة من لوازمه.
أما ما یخص التفاوت و اختلاف الموجودات فیجب أن یقال: إن مفهوم الحق و الاستحقاق للأشیاء بالنسبة إلى الله سبحانه عبارة عن الاحتیاج و إمکان الوجود أو کمال الوجود. فکل موجود له إمکان محدد من الوجود أو إمکان نوع من کمال الوجود فإن الله سبحانه یفیض علیه ذلک بحکم کونه تام الفعالیة و واجب (الفیاضیة).
و العدل هنا یتمثل بالفیض العام الشامل بالنسبة لجمیع الموجودات التی لها إمکان الوجود أو کمال الوجود، من دون إمساک أو تفرقة بین الموجودات.[1]
و هنا من الممکن التساؤل: لماذا خلق الله هذا العالم و موجوداته بهذه الکیفیة، حیث التفاوت فی الاستعداد و القابلیة و إمکان الاستحقاق؟ و هل أفعال الله سبحانه کأفعال الإنسان تعلل بالأغراض و الغایات؟ هل إن أفعال الله کأفعال الإنسان تقبل القول (لماذا) و (لأی شیء) و ...؟
یذهب المعتزلة إلى القول بالغایة و الغرض فی صنع الله، و حملوا صفة الحکیم بالنسبة إلى الله المتکرر ذکرها فی القرآن الکریم على هذا المعنى، أی أنه سبحانه له غرض و حکمة و غایة فی أعماله، و حیث أنه العالم بالکمال جاءت أعماله من أجل أهداف مشخصة و معینة و على أساس اختیار الأصلح و الأرجح، و على هذا الأساس فالنظام الموجود هو الأحسن و الأکمل، أی أن العالم خلق على أحسن وجه و أفضل صورة ممکنة.
أما الأشاعرة فقد أنکروا الغایة و الغرض فی أفعال الله، و قد أولوا و وجهوا مفهوم الحکمة فی القرآن الکریم کما قالوا فی العدل أی أنه کل ما یصدر عن الله فهو حکمة، لا أن ما هو حکمة الله یفعله، و على أساس هذه النظریة فمن الخطأ أن نقول ان أفعال الباری معللة بسلسلة من المصالح.[2]
و فی المذهب الکلامی و الفلسفی للشیعة فإن المسائل المتعلقة بالتوحید عولجت جمیعها بنظرة توحیدیة. و على هذا الأساس بحثت مسألة الغرض و الغایة فی أفعال الله تعالى. ففی البدایة قسموا الغایة إلى قسمین: غایة الفعل و غایة الفاعل، و إن مفهوم الحکمة بالنسبة إلى الباری تعالى یساوی مفهوم العنایة و إیصال الأشیاء إلى غایاتها، و بذلک اکتسبت المسألة وضوحاً أکثر.
فی نظر الحکماء المسلمین فإن لکل فعل غایة، و إن الذات الإلهیة المقدسة هی غایة الکل و غایة الغایات، و کل الأشیاء منه و إلیه « وَ أَنَّ إِلَى رَبِّکَ الْمُنْتَهَى».[3]
هل إن نظام العالم هو ذات العالم؟
و فی الجواب لابد من القول: إن ترتیب الموجودات و نظامها هو عین وجودها الذی أفیض علیها من جهة الحق تعالى، إن إرادة الحق هی التی وهبت الموجودات هذا النظام، و لکن لیس بمعنى أن الحق خلق الموجودات بإرادة و أعطاها النظام بإرادة أخرى حیث یصح فرض زوال إرادة النظام مع بقاء إرادة أصل الخلق. إنها إرادة واحدة تحقق فیها الخلق و ترتیب النظام، و الموجودات فی نظام طولی ینتهی إلى سبب تتعلق به إرادة الحق بشکل مباشر، و إن إرادة الحق المتعلقة بأصل الوجود هی عین إرادته المتعلقة بوجود جمیع الأشیاء و نظامها.[4]
الفرق بین التفاوت و التفرقة (التبعیض):
إن ما یوجد فی الخلق هو (تفاوت) لا تفرقة و تبعیض. و التفاوت هو جعل الفرق فی حالات و شرائط عدم التساوی و الاستحقاق، و لکن التفرقة و التبعیض تعنی جعل الفروق بین الأشیاء فی حالة وجود عین الظروف و الشروط و الاستحقاق. و بعبارة أخرى فإن التفرقة تکون من جهة المعطی، أما التفاوت فهو منسوب إلى المستقبل. مثلاً لو أن المعلم أعطى طلابه درجات مختلفة مع فرض تساوی الحالات و الشروط و الاستحقاق، فمثل هذا العمل یسمى (تفرقة) أو (تبعیضاً). و لکن لو أعطى کل طالب ما یستحق من درجات بحسب أداء الامتحان و الاختبار فإن اختلاف الدرجات فی هذه الحالة هو (تفاوت) لا تفرقة.[5]
و تفاوت الموجودات ذاتی بالنسبة لها، و من لوازم قانون العلة و المعلول لأن العالم بدءاً و ختاماً وجد بإرادة إلهیة واحدة، لا بإرادات متعددة منفصلة، و هی إرادة بسیطة، کما جاء فی القرآن الکریم: « إِنَّا کُلَّ شَیْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ».[6]
و على هذا المعتقد فإن للخلق نظاماً خاصاً و ترتیباً معیناً، و من هنا انبثق قانون العلة و المعلول، أو الأسباب و المسببات، أی أنه لکل علة معلول خاص، و لکل معلول علة مخصوصة. و بحسب قانون العلة و المعلول فإن لکل موجود مکاناً مشخصاً و معیناً. أی أن کل معلول معلول لشیء معین، و علة لشیء معین، و لذلک فتخلف المعلول عن العلة محال، فمثلاً لا یمکن تحقق حیوان بعلیة وجود الإنسان، فلا یکون وجود الإنسان معلولاً لوجود الحیوان؛ لأن کون الشیء علةً هو علة لمعلول معین، و کون شیء معین معلول یعنی أنه معلول لعلة معینة.
فلیس الأمر خاضعاً للجعل و الاعتبار، و إنما بسبب وجود خصوصیة فی العلة و المعلول و هذه الخصوصیة هی عبارة عن نحو وجودهما، و هی أمر واقعی لا اعتباری و لا عرضی یقبل الانتقال، و لذلک فالعلة بتمام ذاتها تکون منشأً لصدور المعلول.
لکل شیء مکانه المخصص له، و إن فرض انتقاله عن مکانه یساوی فقدانه لذاته، کما أشیر لذلک فی القرآن الکریم.[7]
و نظام الوجود أشبه بوجود الإنسان الذی یتشکل من أجزاء مختلفة، و إن کل جزء موضوع فی مکانه المناسب. و بعبارة أخرى، إنه لابد من اختلاف الأجزاء فیما بینها حتى یتحقق وجود المجموع الکلی، و لابد من وضع کل جزء فی مکانه المخصص لیحصل النظام الأحسن و الأکمل.[8]
إن وجود التفاوت فی العالم ضروری. و عندما ننظر إلى العالم بمجموعه، فلابد لنا من قبول ما نشاهده فیه - و بحسب توازنه العام - من تفاوت، کوجود المرتفعات و المنخفضات، و المسرات و الأحزان، المتاعب و اللذائذ، النجاح و الإخفاق، الجمال و القبح، کل ذلک أمر لازم.
فلولا وجود هذا التفاوت لما وجدت المخلوقات المختلفة، فعظمة العالم و سر جماله فی تنوعه الواسع، وتعدد ألوانه. فالقبح مظهر للجمیل، و القبائح لیست ضروریة بلحاظ کونها جزءاً من مجموع العالم و أن نظامه الکلی یتعلق بوجودها و حسب، و إنما یکون وجودها لازماً و ضروریاً أیضاً لأجل إظهار الجمال و الکشف عن وجهه، و لولا المقارنة بین القبح و الجمال، فلا القبیح قبیح، ولا الجمیل جمیل، و لو کان الجمیع على حد المساواة فلا حرکة و لا جاذبیة و لا نشاط و لا حب، لأن کون الجمیع فی مستوى واحد یوجب انطفاء جذوة الحیاة و انعدام کل ما فی الحیاة من ضجیج فلا حسن و لا قبیح ولا تکامل و لا حرکة.
و لکن لیس معنى هذا أن شخصاً معیناً کان من الممکن أن یخلق جمیلاً و لکنه خلق قبیحاً لإظهار جمال شخص معین آخر، حتى یقال: لماذا لم یکن العکس؟ و إنما معناه هو: إن التفاوت ناتج عن استیفاء کل موجود الحد الأعلى من الکمال و الجمال الذی یستحق، و الممکن استیفاؤه بالنسبة إلیه، و إن ذلک تترتب علیه مجموعة من الآثار الإیجابیة، کإظهار الجمال، و وجود الجاذبیة و التحرک وغیرها. إضافة إلى ذلک فإن عالم الوجود هو مجموعة من العلل و المعلولات، و إن کل معلول وجد على أثر علته الخاصة، و تخلفه عنها محال.[9]
أما لماذا تکون البلایا و المصائب مصاحبة لحیاة الإنسان و مستدیمة معها؟
فلابد من القول فی الجواب: إن البلایا و المصائب على عدة أقسام:
1- المصائب المتسببة عن عمل الإنسان، کما یکون الإنسان سبباً لخسرانه و بواره. و هذا النوع من البلاء لا ینبغی أن یحسب على الله.
و ذلک ما أشار إلیه القرآن الکریم حیث علل ما یقع من ظلم و سوء على سطح الأرض بأعمال الإنسان الظالم المتجبر، و لا ینبغی أن ینسب إلى الخالق.
2- البلاء و المصائب المترتبة على تساهل و تهاون البعض بالنسبة إلى البعض الآخر، کما لو تسبب الأبوان فی إنجاب طفل معلول أو مشوه بسبب عدم مراعاة الضوابط الصحیة. و هذا النوع من البلاء و المصائب محسوب على الإنسان و الخالق بریء و منزه منه.
کما قلنا آنفاً فإن نظام الوجود هو مجموعة من العلل و المعالیل و إن کل علة یصدر عنها معلولها الخاص، فالعلة المعیبة تنتج معلولاً معیباً مریضاً.
فکما أن الإنسان یأتی من إنسان و الحیوان یأتی من حیوان (البُرُّ من البُرِّ و الشعیر من الشعیر) و مع ذلک فإن الله سبحانه و بمقتضى لطفه و کرمه اللامتناهی و فضله و عفوه فإنه یعوض مثل هذا الإنسان فی الآخرة، و یجبره على ما یعانی فی هذه الدنیا.
3- البلایا و المصائب التی تمحق آثار الذنوب، و هذا النوع لا یتنافى مع عدالة الباری تعالى. بل هو من مقتضیات رحمته و لطفه، لأنه کفارة للذنوب، حتى یأتی الإنسان یوم القیامة خفیف الظهر من حمل الخطایا، و مع أن المصائب و البلایا تمر بعجل فی هذه الدنیا القصیرة، إلاّ أنها تکون کفارة و ماحیة للذنوب و الخطایا فی الآخرة، فیعتاض الإنسان منها الأمان من العذاب الأخروی.
4- البلاء الذی یحمل الناس على التوجه إلى الخالق تعالى، أو أنه یوقظ الغافلین من غفلتهم و نسیانهم، لیعیدهم إلى الصواب و الإقلاع عما کانوا علیه من خطأ و اشتباه. و هذا القسم یندرج ضمن رحمة الخالق و لطفه، و یطابقها ولا یتعارض معها.
5- إن البلاء و الشدائد فی حیاة الإنسان باعث للتکامل فی میادین مختلفة، و ما توصل إلیه الإنسان فی هذا العصر من تقدم و تطور حضاری إنما هو معلول لوجود هذه المشکلات و العقبات و المصاعب والتحدیات.
6- البلاء من أجل امتحان الأفراد، أو الارتقاء بدرجات الأولیاء و المحبوبین عند الله، و کما عبر القرآن الکریم أنها سنة لا تقبل التغییر و التبدیل، و أنها موجودة فی جمیع الأمم، یقول تعالى: « وَ لَنَبْلُوَنَّکُمْ بِشَیْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنْفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِینَ».[10]
أما القول أن الله یعطی البعض و یمنع البعض الآخر فی الرزق، فهو کلام غیر صحیح؛ لأن رزق جمیع من فی السماوات و الأرض على الله «وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِی الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا»[11]. و لیس من أحد (رازق) سواه. و لکنه لابد من السعی للحصول على هذا الرزق المقدر. لأن هذا الطلب من تکالیف و واجبات العباد، و أما ترتیب الأمور و جمیع الأسباب الظاهریة و غیر الظاهریة فإن أغلبها خارج عن اختیار العبد، و هی من تقدیر الحق تعالى.[12]
و لم یمنع الله سبحانه رزق أحد ابتداءً. نعم من یترک السعی و الکدح للحصول على رزقه المقدر فإنه یحرم ذلک الرزق. و على کل حال، فإن نیل الرزق و عدمه أمر خاضع لعلم الله و إذنه، و لم یکن أحد مستقلاً فی مسألة الرزق.[13]
و قد أشارت الروایات إلى قسمین من الرزق: (الرزق الطالب) و (الرزق المطلوب).
الرزق الطالب: هو الذی یأتی صاحبه دون طلب، و إنما یلاحقه و یتبعه أینما حل، و هذا النوع من الرزق له جذور ثابتة فی قضاء الحق تعالى و لا یقبل التحول و التغییر. الرزق الطالب هو رزق الوجود، و العمر، و إمکانات المحیط و العائلة و الاستعداد و ...، و هذا القسم من الرزق هو العلة فی إیجاد القوة اللازمة و الدقة و ... لأجل القیام بالعمل.
و الرزق المطلوب ما یسعى الأفراد فی تحصیله، و هو رزق مقدر لطالبه، فإذا سعى فی طلبه من خلال توفیر الوسائل و الشروط اللازمة لاستحصاله، فإنه ینال مثل هذا الرزق و یحصل علیه.[14]
أما ما یخص التساؤل بشأن الهدایة و الإضلال، و لماذا یهدی الله البعض و یتخلى عن البعض الآخر، فمن الممکن القول فیه باختصار[15]: إن الهدایة الإلهیة على کیفیتین:
1- الهدایة التکوینیة العامة الشاملة لجمیع الموجودات فی عالم الوجود و إن کل موجود متوجه إلیه.
2- الهدایة التکوینیة الخاصة، التی تشمل عباد الله المخلصین على وجه الخصوص، فهؤلاء إضافة لما ینالهم من الهدایة العامة، و بسبب العمل بأوامر الله و نواهیه (الهدایة التشریعیة) صاروا مورداً لتوجه إلهی خاص، و هذا النوع من الهدایة یمکن أن نطلق علیه اسم (الهدایة الثانویة).
و الهدایة التشریعیة تأتی عن طریق إرسال الرسل و إنزال الکتب (شریعة الله) و هی شاملة للجمیع أیضاً الکافر و المؤمن، و لکن البعض و بسوء اختیارهم سلکوا طریقاً غیر الطریق المستقیم الذی رسمه الله لعباده، فاستحقوا بذلک العقاب الإلهی. و لکن (الإضلال) الإلهی لا یکون فی أی نوع من النوعین المتقدمین، و لم یضل الله أحداً ابتداءً، و لکن إذا لم یکن العبد شاکراً نعمة مولاه و خالقه، و کان معرضاً عن أوامره و نواهیه، و سالکاً طریقاً مغایراً لطریق فطرته و خلقته، مدلاً متکبراً مظهراً التباهی و الانحراف، فإن الله یترکه و شأنه فی مثل هذه الحالة. هذا هو معنى الترک و الإهمال، و إضاعة السبیل و السقوط و الانحطاط. و لیس وراء هذا من معنى (للإضلال الإلهی).
و من أجل الاطلاع الأکثر تراجع التفاسیر و المصنفات و ...[16]
[1] المطهری، مرتضى، العدل الإلهی، ص54-60، منشورات صدرا؛ الملا صدرا، الأسفار الأربعة، ج2، بحث کیفیة وجود الکائنات.
[2] المطهری، مرتضى، العدل الإلهی،ص 23، منشورات صدرا، 1380؛ السبحانی، الإلهیات، ج1، ص273-292.
[3] النجم، 42؛ العدل الإلهی، ص30.
[4] العدل الإلهی، ص97؛ المعارف الإسلامیة، ص94-104 منشورات سمت، 1376.
[5]انظر: المطهری، مرتضى، العدل الإلهی، ص101.
[6] القمر، 49-50.
[7] الصافات، 164.
[8] الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، ج13، ص194؛ المطهری، مرتضى، العدل الإلهی، ص107؛ الطباطبائی، محمد حسین، نهایة الحکمة، المرحلة الثامنة، ص156، جماعة المدرسین؛ الملا صدرا، الأسفار الأربعة، ج2، بحث العلة و المعلول، ص268، منشورات وزارة الإرشاد؛ تعلیم الفلسفة، مصباح الیزدی، محمد تقی، الدرس 35، 36.
[9] المطهری، مرتضى، العدل الإلهی، ص143 - 144.
[10] البقرة، 155؛ انظر: السبحانی، جعفر، الإلهیات، ج1، ص290؛ المعارف الإسلامیة، ص100، منشورات سمت؛ الملا صدر، الأسفار الأربعة، منشورات وزارة الإرشاد، بحث الشرور، ص445؛ الطباطبائی، محمد حسین، نهایة الحکمة، المرحلة 12، الفصل 17 و 18، ص308؛ الإمام الخمینی ، الأربعون حدیثاً، الحدیث 39.
[11] هود، 6.
[12] الإمام الخمینی ، روح الله، شرح الأربعین حدیثاً، ص510.
[13] انظر.موضوع: دور الإنسان فی کسب الرزق.
[14] انظر: نهج البلاغة، الکتاب، 31.
[15]انظر:الموضوع، الهدایة و الإضلال الإلهی.
[16] انظر: المیزان، ج1، ص43 – 45؛تفسیر التسنیم، جوادی الآملی، عبد الله، ج1، ص 457-478-493-516-527 ؛ کذلک، ج2 ص515-521؛ الهدایة فی القرآن، جوادی الآملی، عبد الله.