Please Wait
24281
تستخدم الأعداد و الحروف و الأشكال في العرفان كلغة رمزیة لإبراز بعض الحقائق الغيبية في العالم و المراد من "النقطة" الوحدة الحقيقية لله سبحانه التي تكمن صورتها في سويداء قلب الإنسان و بها عرّف "الإنسان الكامل" بأنه مركز العالم و قطبه إذ إنه خليفة الوحدة الحقيقية لله سبحانه و كلام أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: "أنا النقطة تحت الباء" يشير إلى هذا الموضوع.
1ـ علم الأعداد و الحروف في العرفان
لقد أثار علم الأعداد و الحروف منذ القدم إهتمام المدارس العرفانية و لا بد من التنبيه على أن مراد العرفاء هنا غير تصوّرنا المتعارف لهذه العلوم ففي الحقيقة أن الأعداد و الحروف و الأشكال و غير ذلك تستخدم كلغة رمزية لإبراز بعض الحقائق الغيبية في العالم.
لقد كثر الكلام عن ماهية علم الحروف و الأعداد العرفانية و قد تتحول الجوانب المحرفة من هذه العلوم بعد بعدها عن ماهيتها الأصلية إلى خرافة و سحر بأشكال قديمة و حديثة.
إلا أن ذات هذه العلوم مقدّسة جدّاً عند العرفاء، فمحيي الدين بن العربي يقول في كتاب "الدر المكنون" ما مضمونه:
"الحروف خزائن الله التي يكمن فيها سره و اسماؤه و صفاته و قدرته و مراده"[1]
و تجدر الإشارة إلى أن لعلم الأعداد في العرفان إرتباطاً مباشراً بعلم الحروف، إذ إن لكل حرف ـ في هذا العلم ـ إرتباطاً بعدد خاص فالأعداد تعدّ روح الحروف و الكلمات.
و من جهة أخرى ليست الأشكال و الرموز الهندسية إلا تصوير الأعداد و نسبها، في قالب الخطوط و الأشكال. و نحن نشاهد أمثلة لهذه الإصطلاحات في الأدب العرفاني إذ قد تستخدم لبيان المواضيع الماورائية الغيبية ليتسنى للسالك أن يرتبط بهذه الحقائق بطريقة ملموسة أكثر لكي ينتقل تدريجياً بعد حصوله على درجة من الفهم النظري و الفكري إلى الباطن الشهودي و الغيبي لهذه المواضيع.
يقول إبن العربي في مقدمه كتابه "إنشاء الدوائر" ما نصه: "فإنّ الله سبحانه لمّا عرّفني حقائق الأشياء على ما هي عليه في ذواتها و أطلعني كشفاً على حقائق نسبها و إضافاتها أردت أن أدخلها في قالب التشكيل الحسّيّ... ليتّضح لمن كلّ بصره عن إدراكها و لم تسبح دراريّ أفكاره في أفلاكها".[2]
2ـ معنى النقطة في العرفان
لقد أشار أكثر العرفاء في آثارهم المنثورة و في أشعارهم العرفانية إلى إستخدام كلمة "النقطة" التي هي من نماذج هذه اللغة الرمزية. فإصطلاح الخال من الشعر العرفاني يعدّ أيضاً تعبيراً آخرا لنفس "نقطة الوحدة". و المراد من الخال أو "نفس هذه النقطة"، الوحدة الحقيقية لله سبحانه. إذن فالوحدة الحقيقية، هي جزء لا ينفك عن ذات الحق التي هي أصل و مركز دائرة الوجود. و بتعبير آخر إن نقطة الخال، التي هي الوحدة على وجه المعشوق، و التي هي ذات الحق مرتبطة و غير قابلة للتجزئة، و من هنا صارت الوحدة الحقيقة كمركز و أصل دائرة الوجود. إن دائرة الوجود في عالم الملك و الملكوت تظهر من نقطة الخال التي هي الوحدة، و هذا يعني أن وجود كلا العالمين قائم بوجود الوحدة الحقيقية. كما يظهر من نقطة الوحدة التي هي مركز دائرة وجود كلا العالمين النفس الناطقة الإنسانية و قلب الإنسان. و من هنا قالوا: بأن سويداء[3] قلب الإنسان التي هي أكثر النقاط مركزية في وجوده تعدّ مرآة الوحدة الحقيقية لله سبحانه.
فالنقطة إذن سرّ من الوحدة الحقيقية الإلهية التي تكمن صورتها في قلب الإنسان، و من هنا عرّف "الإنسان الكامل" بأنه مركز العالم و قطبه لأنه خليفة الوحدة الحقيقية لله سبحانه.
3. المراد من رواية "أنا النقطة تحت الباء".
نلاحظ إستعمال كلمة "النقطة" أو الكلمات المشابهة في الحروف و الأعداد ـ لبيان المعاني الغيبية ـ في الروايات أيضاً و أوضحها كلام الإمام علي (ع) حيث يقول: " إن كل ما في العالم في القرآن، و كل ما في القرآن باجمعه في فاتحة الكتاب، و كل ما في الفاتحة في البسملة،و كل ما في البسملة في الباء، و انا النقطة تحت الباء".[4]
فقد أشار الإمام علي (ع) في هذه الرواية إلى هذه الحقيقة و هي: إن كل ما في العالم مجموع في حقيقة القرآن و بسم الله الرحمن الرحيم تضمّ كل القرآن.
و بالاخذ بنظر الاعتبار ما قدمنا عن كلمة النقطة في العرفان، و على ضوء هذه المقدمة و هي، إن الإنسان الكامل قرآن تكويني،[5] و من جهة أخرى إن عالم الوجود تفصيل للإنسان الكامل (لأن الإنسان، عالم صغير و العالم إنسان كبير)،[6] يمكن بيان معنى كلام الإمام علي (ع) هكذا: أنا ذلك الإنسان الكامل الذي قلبة مرآة الوحدة الحقيقية لله تعالى و مركز القرآن التكويني إذ إنه (ع) نقطة الباء في بسم الله الرحمن الرحيم، و بسم الله الرحمن الرحيم تضم كل القرآن.
أما ما يخص كون النقطة تحت الباء يلزم القول بأن تحت الباء فيه إشارة إلى تنزل النقطة (الذي يعبّر عنها في إصطلاح آخر بالحقيقة المحمّدية) في قوس النزول.[7]
يقول السيد حيدر الآملي عن "النقطة": "و (تسمّى هذه الحقيقة الكلّية أيضاً) بالنقطة، لأنّها أوّل نقطة تعيّن بها الوجود المطلق، و سمّى بالوجود المضاف. (و ذلك) كنقطة "الباء" مثلاً، فإنّها أوّل نقطة تعيّن بها "الألف" في مظاهرة "10" الحروفيّة و صار باء، و لهذا قال أمير المؤمنين (ع) أيضاً: "أنا النقطة تحت الباء "2". و قال: "لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من باء بسم الله الرحمن الرحيم. و قال: "العلم نقطة كثّرها جهل الجهلاء". و قال بعض العارفين: "بالباء ظهر الوجود، و بالنقطة تميّز العابد عن المعبود". و قال الآخر: "ظهر الوجود من باء بسم الله الرحمن الرحيم". و أمثال ذلك كثيرة في هذا الباب. و قد بسطنا الكلام في تفسيرها و تحقيقها في رسالتنا المسمّاه بـ "منتخب التأويل في بيان كتاب الله و حروفه و كلماته وآياته".[8]
نشير هنا إلى بعض ما كتبه الملا صدرا فيما يخص حقيقة نقطة الباء: "من المقامات الحاصلة "للسائر إلى الله" إلى قدم العبودية مقام يرى به بالمشاهدة العينية أن جميع القرآن بل جميع الصحف المنزلة بل جميع الموجودات في نقطة باء بسم الله الرحمن الرحيم. و عندها يشاهد نفسه أيضاً في النقطة تحت باء بسم الله. نحن لا نشاهد من الحروف إلا السواد و الظلمة لأننا في عالم الظلمة و السواد، و لا نرى من الحبر إلا مادته. لأن المدرِك و المدرَك دائماً من جنس واحد، فكما أن البصر لا يرى إلا الألوان و الحس لا يدرك إلا بالمحسوسات و الخيال لا يتصور إلا بالمتخيلات و العقل لا يعرف إلا بالمعقولات كذلك النور لا يدرك إلا بالنور، [و من هنا] لا ترى الموجودات الماورائية التي هي أنوار محضة إلا بنور عين البصيرة و من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. إذن، نحن لا نرى بسواد أعين رؤوسنا إلا سواد القرآن، و حيثما نخرج من هذا الوجود المجازي و من هذه القرية الظالم أهلها و نهاجر إلى الله و رسوله. و حيث إنتقلنا من هذه النشأة الصورية الحسّية و الخيالية و الوهميّة و العقلية و فني وجودنا في وجود كلام الله، عندها نتحوّل من المحو إلى الإثبات و من الموت إلى الحياة الثانية الأبدية، عندها لا نرى من القرآن سواداً، بل ما نراه منه هو البياض الصرف و النّور المحض"[9]
[1] نقل من: حسن زادة آملي، تفسير سدره المنتهى، في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم.
[2] محي الدين إبن العربي، إنشاء الدوائر، ص 4، طبعة ليدن.
[3] سويدا: النقطة السوداء التي على القلب، دهخدا
[4] البروجردي سيدحسين، تفسير الصراط المستقيم، ج 3، ص 118، مؤسسة أنصاريان، قم، 1416 ق. في شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي، ص 32، ما في معناه بتفاوت يسير.
[5] يمكن الرجوع إلى آثار العلامة الشيخ حسن زادة آملي، فيما يخص القرآن التكويني، و "القرآن التدويني".
[6] مهدي رضواني پور، أصول و مباني تأويل القرآن عند الإمام الخميني.
[7] المستنبط، سيد أحمد، القطرة، ج 1، ص 177.
[8] الآملي، سيد حيدر، نقد النقود، ص 695، وزارة العلوم و التعليم العالي، الطبعة الأولى، 1368 ه ش.
[9] صدر المتألهين، مفاتيح الغيب، ص 21، مؤسسة الثقافية للتحقيقات.