بحث متقدم
الزيارة
6302
محدثة عن: 2007/09/02
خلاصة السؤال
هل میول الإنسان إلى الشر هی من إشاءة الله رب العالمین؟
السؤال
إذا نظرنا إلى الآیة الکریمة فی قوله تعالى: «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ»، فهل میول الإنسان إلى الشر هی من إشاءة الله رب العالمین؟ ألم یکن هذا ألأمر حائلاً دون بلوغ الأهداف الإلهیة؟
الجواب الإجمالي

الآیة الشریفة التی وقعت مورد السؤال، هی الآیة 29 من سورة التکویر و هی شبیهة بالآیة 30 من سورة الدهر (الإنسان)، و فی کلا السورتین جاءت الآیات المحیطة بالآیتین المذکورتین تتحدث عن القرآن و الآیات الإلهیة و تدرجها تحت عنوان (التذکرة) أو (الذکر) و أن الآیة 29 من سورة الدهر تکررت بعینها فی الآیة 19 من سورة المزمل، فبعد الآیة 29 من سورة الدهر جاء الکلام عن الآیات الإلهیة وأنها تذکرة، و أشارت إلى أی شخص یرید أن یتخذ إلى ربه سبیلاً، و کذلک عقیب الآیات 27 و 28 فی سورة التکویر التی جاء الکلام فیها عن کون القرآن (ذکراً) للعالمین، و أنه لأجل المؤمنین الراغبین فی السیر على الطریق المستقیم ثم یقول: «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ».

و إنه من الممکن أن یقع البعض فی التوهم بعد قراءة قوله تعالى: «لِمَنْ شَاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ» فی سورة التکویر و قوله: «إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً» فی سورة الدهر (و الآیة 19 من سورة المزمل) من الممکن أن یتوهم البعض أن (إرادة الاستقامة) و التلبس بثیاب الطاعة و العبودیة هی باختیار الإنسان على نحو الاستقلال، و على هذا فإن الله سبحانه طلب الاستقامة و اتخاذ السبیل إلى الله من العباد و هو محتاج لذلک. و لکن القرآن دفع هذا التوهم بهذه الآیات، و ذلک لأن مشیئة الأفراد و إرادتهم متفرعة و متوقفة على الإرادة الإلهیة و المشیئة الربانیة، حتى و إن کانت هذه المشیئة فی طریق العبودیة و السلوک إلى الله.

و مجیء الاستثناء بعد النفی إضافة إلى أنه یبین تأثیر الإرادة و المشیئة الإلهیة من خلال تعلقها بمشیئة العبد و أنها تتحقق بواسطتها فإنه یفهم أن الإنسان (العبد) لیس مستقلاً فی أداء أی شیء یرید إنجازه، و إن إرادته هی إرادة الله، مع کون أعماله اختیاریة متوقفة على إرادته و اختیاره.

و النتیجة هی: أوّلاً إن إرادة الأعمال السیئة لا تتعلق بإرادة الله بشکل مباشر، و ثانیاً: إن إرادة الإنسان و مشیئته لیس لها من تأثیر بدون مشیئة الله (التکوینیة) و إذنه، لأن أصل وجود الإنسان منه تعالى، و شاء أم أبى فإن إرادته هی الأخرى تکون من الله رب العالمین. و عدم استقلال الإنسان لا ینحصر فی إرادته فی السیر على الصراط المستقیم و الاستقامة علیه، و إنما فی کل شؤون وجوده هو محتاج إلى ربه و (کل من عند الله) و (لا عطاء إلاّ عطاءه).

و بعبارة أخرى: إن الإرادة و المشیئة الإلهیة إما أن تکون ذاتیة أو فعلیة، و الإرادة الفعلیة تارة تکون تکوینیة و أخرى تشریعیة.

و فی مرتبة الإرادة الذاتیة التی هی عین الصفات الذاتیة للحق تعالى، فلا سبیل لشیء أو أحد فی هذا المجال، و لیس لهذه المخلوقات أی ارتباط بهذه الإرادة، و أما فی مرحلة الإرادة التکوینیة الفعلیة، المتمثلة بخلق العالم الخارجی و تحققه خارجاً و عیناً فإنها إرادة الله و علمه و لم یکن یتحقق وجود لأی موجود فی هذه المرحلة حتى یقال أن له إرادة أو أن مشیئته و إرادته مستقلة. و لکن فی مرتبة الإرادة الفعلیة التشریعیة (إرسال الرسل و إنزال الکتب الإلهیة) یکون الإنسان مختاراً و مریداً، و إنه یعطى هذا الإذن على أساس الإرادة الفعلیة التکوینیة و الإذن التکوینی، و إنه حر فی اختیار طریق الحق و الرشد و السعادة، أو طریق الباطل و الغی و الشقاء. و مصیره فی الفرض الأوّل إلى الجنة، و فی الفرض الثانی إلى النار.

و لهذا فإن المیل إلى فعل السوء و القیام بأعمال الشر لا یوجد فیه انسجام ما بین الإرادة التکوینیة الفعلیة و الإرادة الفعلیة التشریعیة و إن الله لا یرضى بهذا الفعل على مستوى التشریع، مع أن الإذن الإلهی التکوینی یسمح بذلک، و لولا هذا الإذن لما تمکن أحد من القیام بأی فعل، بما فی ذلک المیل و الإرادة.

و من الجدیر بالذکر أن البعض یفهم معنى تفرع مشیئة الإنسان (العبد المؤمن) على مشیئة الله هو توقف رضا العبد على رضا ربه ثم شرع بتفاصیل أقسام الرضا و أنواعه و مراتبه و ... و لکن المناسب لسیاق الآیات المتقدمة، و المفهوم الأولی للآیة مورد السؤال هو ما بینا من المسائل بخصوصها.

الجواب التفصيلي

الجواب عن هذا السؤال بشکل واضح و مستوعب یتطلب دراسة و دقة فی الآیات المتقدمة على الآیة و کذلک الآیات المشابهة لها فی السور الأخرى، مثل الآیات 29 و 30 من سورة الدهر (الإنسان) و الآیة 19 من سورة المزمل. و لنشرع بدراسة هذه المجموعات الثلاث من الآیات:

1- الآیة التی وردت فی السؤال هی الآیة 29 من سورة التکویر و هی سورة مکیة، و الآیتان السابقتان لها هما: «إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ لِلْعَالَمِینَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ»، و فی الآیة 29 یقول تعالى:«وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ».

و خلاصة هذه الآیات أن القرآن الکریم هو کلام الله الحق، و لیس هو کلام الشیطان الرجیم: «وَ مَا هُوَ بِقَوْلِ شَیْطَانٍ رَجِیمٍ»[1] ، تؤکد إن هو إلاّ ذکر للعالمین، و ذلک لمن أراد أن یکون على الطریق المستقیم فیکون القرآن ذکرا له.

و هنا من الممکن أن یتوهم المخاطبون بالآیة فی قوله تعالى: «لِمَنْ شَاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَسْتَقِیمَ»، أن الاستقامة و السیر على الطریق المستقیم و التلبس بثیاب الطاعة و العبادة أمر متروک للإنسان وحده و هو من اختیاره على وجه الاستقلال، فإذا أراد أن یسلک هذا الطریق سلک و إذا أراد أن لا یسلک له ذلک. و على هذا الأساس فإن الله محتاج إلى الاستقامة التی طلبها من العباد، و لذلک جاء کلام الله دفعاً لهذا التوهم من العبد حیث کان خطابه على النحو التالی: «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ».[2]

و بعبارة أخرى، فإن أعمال الإنسان الاختیاریة (و حتى إرادة الإنسان) فإنها إرادة الله و مشیئته بواسطة الإنسان و إرادته، و إن الذات الإلهیة المقدسة أرادت للإنسان أن تکون أعماله الاختیاریة تابعة لإرادته و اختیاره. و إذا کان الخطاب القرآنی موجهاً إلى المؤمنین القاصدین السیر فی طریق الله و الوصول إلى النجاة و السعادة، فهذا لا یعنی أن رسالة القرآن الکریم لا تختص بهذه الفئة فقط و إنما تشمل جمیع أفراد الإنسان.

2- الآیة الأخرى التی تشابه الآیة مورد البحث من عدة جهات هی الآیة 29 من سورة التکویر، و قسم من الآیة 30 من سورة الدهر و (الآیات التی قبلها) و فی الآیات 29 و 30 من هذه السورة یقول تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً * وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ». هذه الآیات الواردة فی ختام سورة الدهر (الإنسان) لها سیاق شبیه بالسیاق المکی، و إذا قبلنا هذا القول تکون أوائل السور مدنیة و ختامها - بمقدار تسع آیات - یکون مکیاً.[3]

توضیح الآیة (إن هذه تذکرة..) سوف یأتی فی القسم الثالث من البحث و لکن مفهوم و مراد الآیة (و ما تشاءون) شبیه بالآیة 19 من سورة التکویر.

و إن ابتداء الکلام بالنفی فی قوله: «و ما تشاءون» و بعد ذلک جاء بالاستثناء (إلاّ أن یشاء...) و أکمل به الکلام، فهذا یوضح و یبین أن وجود و تحقق مشیئة الإنسان (العبد) متوقف على مشیئة الله سبحانه. و من هنا فمشیئة الذات المقدسة تؤثر فی عمل الإنسان من خلال تعلقها بإرادته، و لکنها لا تتعلق بها بشکل مباشر و من دون واسطة حتى تأتی (الشبهة) التی تقول: إن إرادة الإنسان لا تأثیر لها على أعماله، و إن کل ما یفعله لیس من اختیاره، و لهذا فإذا ما فعل الإنسان القبیح أو مال إلیه فلیس ذلک بإرادته و إنما بإرادة إلهیة مباشرة، و علیه فمن الجائر أن تنسب إرادة الأعمال القبیحة إلى الله!

و من جهة أخرى، فإن هذا السیاق فی الآیة یفهم أن الإنسان غیر مستقل فی إرادته عندما یرید إنجاز أعماله و أن إرادته من إرادة الله سبحانه، و إن أعمال الإنسان اختیاریةٌ و بکونها تتصف بالاختیاریة فهی متوقفة على إرادته هو نفسه دون الاستناد إلى إرادة أخرى.

و النتیجة: هی أن مشیئة العبد و إرادته مرتبطة بمشیئة الله و إرادته، و إن هذه الإرادة لیس لها من تأثیر دون الإذن (التکوینی) ذلک أن أصل وجود الإنسان منه تعالى، و شاء الانسان أم أبى فإن إرادته سوف تکون من هذا المنبع الفیاض بالوجود.

3- و فی الآیة 19 من سورة المزمل، یقول تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْکِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِیلاً» و هذا مطابق لما جاء فی الآیة 29 من سورة الدهر. و الضمیر (هذه) یعود على الآیات المتقدمة التی جاءت بلغة الموعظة و الزجر، و إنها تتناسب مع کون السورة مکیة، خصوصاً تلک الآیات التی نزلت فی أوائل بعثة النبی (ص) أو الآیات التی جاءت فی سورة المزمل، و هی الآیات التی تشیر إلى الاستیقاظ لیلاً و التهجد تحت جنح اللیل، حتى اعتبرت سورة المزمل صلاة اللیل طریقاً خاصاً لهدایة العبد إلى ربه.

و على أی حال، فما جاء فی سورة المزمل و الدهر و الکلام عن (التذکرة) فی بعض الآیات أو (التهجد فی اللیل) بالنسبة للأشخاص الذین یبحثون عن طریق للتقرب إلى الله سبحانه (و اتخاذ السبیل)، أو ما جاء فی سورة التکویر، و هو أن کلام الله و خطابه موجه إلى العالمین، و لمن شاء أن یستقیم من المؤمنین و یسیر بخطى ثابتة على طریق الحق و إن کل هذا الکلام هو (ذکر)، فإن هذا الکلام الإلهی واضح و صریح و حاکٍ عن أن طریق الوصول إلى القرب الإلهی و جوار الله و السیر فی طریق الحق لا یمکن أن یتحقق إلاّ بما رسمه القرآن و الاهتداء بالهدایة الإلهیة و مشیئة الخالق سبحانه. و من جانب آخر فإنه یبین المسألة التالیة: حتى تلک النوایا الصالحة و المقاصد الرحمانیة و الإرادات الخیرة، فإنها لا تکون إلاّ بعنایة الله و فضله و إرادته و لولا فضل الله و إحسانه و کرمه و امتنانه، فلیس لشیء ولا لأحد من وجود و لا نور، و ذلک أن «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ»[4] و أن (القابل) أو (القابلیة) کلیهما من عنده، و من هنا قال الحکماء: (القابل من فیضه الأقدس).[5]

لا تحد عطاؤه قابلیة و استعداد.

و إنما عطاؤه شرط القابلیة و الاستعداد.

و بضم هذه المجموعات الثلاث من الآیات إلى بعضها، و الآیات الکثیرة الأخرى الموجودة فی القرآن الکریم، نستفید من ذلک القول (بالتوحید الأفعالی) فعندما تکون إرادة الإنسان فی جمیع الطاعات تابعة و متوقفة على إرادة الحق تعالى، و إن علم الله محیط بعلم العبد، تکون آثار و أفعال الإنسان أفعالاً و آثاراً إلهیة، و لا ینحصر الأمر فی القول: «وَ مَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَ لَکِنَّ اللَّهَ رَمَى»[6] و إنما أبعد من ذلک حیث أنه لا یرى أعماله من عند نفسه «کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ»[7] و (لا عطاء إلاّ عطاؤه)[8] ینسى وجوده، و یطرد (أنانیته) فیکون مظهراً لأسماء الله و صفاته.

و لیس معنى هذا الکلام الجبر أو أنه مرکب من الجبر و التفویض و ..[9]، و إنما هو مفهوم بسیط و حقیقة متعالیة، و إن مشیئة العبد فی عین کونها مشیئته و إرادته، فهی مشیئة الحق و إرادته فی نفس الوقت.

من صفاء الشراب و لطافة الزجاج

امتزج لون الزجاج بالشراب

الکل زجاج و الکل شراب

أو الکل شراب و لا یوجد زجاج[10]

و یمکن أن نبین المطالب المتقدمة بکیفیة أخرى: إن إرادة الله و مشیئته إما (ذاتیة) أو (فعلیة) "الإرادة الذاتیة" هی، الإرادة التی تتحقق فی مرتبة الذات الإلهیة، و لها عینیة مع صفات الحق الأخرى، و هذه الإرادة الإلهیة هی العلم الإلهی، وإن معنى و مفهوم الإرادة المنسوبة إلى الإنسان لا یصح أن تنسب إلى الله. ففی الإرادة الذاتیة لا یوجد أی لون من ألوان الروابط و اللحاظ بالنسبة إلى الموجودات الخارجیة والنظام الحاکم على الحقائق العینیة.[11]

"الإرادة الفعلیة"، إرادة الله فی فعله و لها علاقة بموجودات عالم الخارج و هی تبلور و تجلی إرادة الذات المقدسة فی الخارج.

و تتحقق الإرادة الفعلیة تارة بصور التشریع و إرسال الرسل و إنزال الکتب لهدایة الناس بشکل عام، وإلى المؤمنین بصورة خاصة.

"الإرادة التشریعیة" و تتمثل بالقوانین و التشریعات و الأوامر والنواهی و (الطریق) و (الصراط) و (السبیل) لتشریعات الحق تعالى.[12]

و تارة على نحو "الإرادة التکوینیة" و المتمثلة بخلق عالم الوجود، و نظام القضاء و القدر الإلهی العینی، و التحقق العینی الخارجی للعلم الإلهی، و على أساس النظام الأحسن و العنایة و الحکمة الإلهیة وضعت الموجودات قدم وجودها بالإذن التکوینی حیث خرجت من ظلمة عالم العدم إلى نور الوجود و التحقق (سواء على مستوى أصل وجودها و جوهرها العینی الخاص، أو عوارض و لوازم وجودها) من أمثال إرادتها أو ...

و لهذا یمکن القول: لا وجود لإرادة أخرى فی إرادة الحق الذاتیة لیکون لها تأثیر و إرادة خلاف إرادته، و لا فی مرحلة إرادته الفعلیة التکوینیة یوجد موجود من نفسه لیکون له إرادة فی قبال الإرادة الإلهیة، أو أنه یتحقق مستقلاً دون إرادة المولى و إذنه التکوینی، و ان الإنسان مختار و مخیر على أساس إذن الباری و إرادته التکوینیة و الله هو الذی کون الإنسان و أراد له أن یکون حراً فی اختیار طریق الخیر و السعادة و الفلاح أو طریق الشقاء و الضلال و الخسران «إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِراً وَ إِمَّا کَفُوراً»،[13] «وَ هَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ»،[14] و «قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ».[15]

و على أساس هذه الإرادة التکوینیة و الإذن التکوینی الإلهی و الاختیار فإن المخلوق، إما أن یسیر وفق التشریعات الإلهیة و یطیعها إطاعة محضة، و یصل عن طریق الإرادة التشریعیة إلى سعادته و إلى الخلود فی الجنة و هذا؛ یعنی الانسجام بین الإرادة التکوینیة و التشریعیة، أو أنه یعرض عن تلک التعالیم فینتهی إلى الشقاء و النار و الحریق و ذلک هو عدم الانسجام بین الإرادة التکوینیة و التشریعیة.

و بعبارة أخرى: مع أن الإنسان حر على أساس الإرادة التکوینیة فی أن یفعل الحسن و القبیح، و لکن على مستوى الإرادة التشریعیة الإلهیة جاءت على أساس إرادة الحسن و الخیر من الإنسان، و أما القبیح من الأعمال فذلک ما لم یرضه الله لعباده.

قال الإمام الرضا (ع) فی معرض الإجابة عن سؤال حول ما روی من قول الإمام الصادق (ع): «لا جبر و لا تفویض، و لکن أمر بین أمرین»، قال الإمام (ع): «... وجود السبیل إلى إتیان ما أمروا به و ترک ما نهوا عنه» یقول الراوی: فقلت له: فهل لله عز و جل مشیئة و إرادة فی ذلک؟ فقال: « فأما الطاعات فإرادة الله و مشیئته فیها الأمر بها و الرضا لها و المعاونة علیها، و إرادته و مشیئته فی المعاصی النهی عنها و السخط لها و الخذلان».[16]

النتیجة: إن میل الإنسان إلى طریق الخسران و فعل القبیح غیر ممکن من دون إذن تکوینی إلهی، و لا یتحقق أی أمر فی الخارج (بما فی ذلک التفکیر و الإرادة و ...) دون الإرادة الإلهیة التکوینیة، و إن إرادة الله التکوینیة هی فی إعطاء العبد الحریة فی فعل (الحسن و القبیح) و الاختیار الکامل للسیر فی الاتجاه الذی یرید، و هذا لیس غیر مخالف للأهداف الإلهیة و حسب، و إنما هو طریق السعادة و الکمال الوحید فی التقرب إلى الله و لقائه، و کذلک طریق النقص و الشقاء و البعد عن الحق تعالى، و إن الجنة و النار تشخص على أساس التکلیف، و أساس تکلیف الإنسان على أساس حریته و اختیاره، و إن الله سبحانه و من خلال الباطن (العقل و الفطرة) و الخارج (إرسال الرسل و إنزال الکتب و هدایة الأئمة المعصومین علیهم السلام) هیأ طریق بلوغ النعمة و النعیم و الخلود فی الجنة، و طریق الشقاء و الخلود فی النار، طریق السعادة و الشقاء، الملک و الشیطان، الجنة و النار، و ... و هما طریقان منفصلان و سیبقیان کذلک.

ذکرت روایات و أحادیث عن أهل بیت العصمة و الطهارة بخصوص تفسیر الآیات مورد البحث، نعرض عن ذکرها طلباً للاختصار و بإمکان الراغبین فی الاستزادة حول هذا الموضوع الرجوع إلیها فی کتب التفاسیر و أسفار الحدیث.[17]

من الجدیر بالذکر أن البحث فی مسألة إرادة الله و إرادته الإنسان و العلاقة بینهما، و الجبر و الاختیار و الأمر بین الأمرین، خلق أفعال العباد، و ... و المشیئة الإلهیة و أقسامها، الفرق بین المشیئة و الإرادة، بحث واسع و متشعب و یتطلب مجالاً واسعاً، کما أنه موضوع غنی بلحاظ الآیات و الروایات و التفاسیر و کتب الکلام و الفلسفة والعرفان و کلمات العلماء و عظماء المسلمین و المعارف الإلهیة.

و فی النهایة، فإن ذکر هذه المسألة مفید و هو أن البعض فسر المشیئة و الإرادة (بالرضا) ثم استفاض فی موضوع الرضا و أنواعه و أقسامه و مراتبه، بمعنى أن إحدى الثمرات المترتبة على محبة ذات الحق (الرضا) و الرضا من المقامات العالیة للمقربین.[18] و الراضی لا یطلب شیئاً إلاّ رضا الحق تعالى، و إن إرادته و مشیئته فانیة فی إرادة المولى و مشیئته.[19]

إن رضاه هو رضا رب العالمین، و کل شخص یصل إلى مقام الرضا فإنه قد وصل إلى جمیع مراتب العبودیة... و الرضا اسم یجتمع فیه معانی العبودیة.[20]

ما أجمل أن یکون الرضا ثمرة لعشقه

فلا وجود لشرق و لا لغرب[21].

یقول اللاهیجی فی شرح کتاب "گلشن راز" بخصوص الرضا: إن حقیقة الرضا هی الخروج عن رضا النفس و الدخول فی رضا المحبوب، و أن یکون راضیاً بکل ما یرید الله له. و بکیفیة لا تکون له أی إرادة و داع غیر الإرادة الإلهیة «وَ مَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ اللَّهُ» و إن الراضی فی الحقیقة هو الشخص الذی یمکن أن یقال عنه أنه لیس له أی اعتراض على التقدیرات الإلهیة.[22]

و بقبول هذا التفسیر و النظر فإن العبد الحقیقی و السالک المجذوب و المحب الصادق، لیس له فی أی حال من الأحوال أی إرادة و أی میل إلى شیءٍ لیس فیه رضا المعبود و المحبوب، و إن إرادة الحق و رضاه خیر و جمال و طهر محض، و لا تتعلق بأی حال من الأحوال بالقبیح و السییء و غیر المحمود.

و لکن ما یفهم من الآیات القرآنیة مورد البحث بخصوص صیغة (المشیئة) یتفاوت مع مفهوم (الرضا) مع أنه من الممکن أن یترادف المفهومان من زاویة أخرى.

دراسة مسائل الجبر و الاختیار و مشیئة الله و الرضا و ... قابلة للتعمق و البحث على أساس رؤى مختلفة و نظریات متفاوتة، و فی حالة الرغبة فی ذلک یجرى إعلامنا و سوف نقوم بذلک.



[1] التکویر،25.

[2] انظر: العلامة الطباطبائی، محمد حسین، تفسیر المیزان، ج20، ص220-221.

[3] المیزان، ج20، ص120 و 131 و 140.

[4] نفس المصدر، ص69.

[5] الأشتیانی، المیرزا مهدی، تعلیقه بر شرح منظومه، (حکمت)" تعلیقة على شرح المنظومة، (الحکمة)"، ص27.

[6] الأنفال، 17.

[7] النساء، 78.

[8] دعاء الجوشن الکبیر، بند 55.

[9] انظر: مواضیع ذات صلة: الإنسان و الاختیار، المشیئة الإلهیة و إرادة الإنسان السؤال رقم 573، الأمر بین الأمرین.

[10] فخر الدین، الجامی، دیوان شعر، ص224.

[11] هناک کلام کثیر فی مورد الإرادة الذاتیة لله تعالى، و قد أنکر عدة من الحکماء الإرادة الذاتیة لله تعالى. انظر: نهایة الحکمة، ص296 - 307، الأسفار، ج6، ص307-368، ص379-413؛ ج2، ص135-136؛ ج6، ص384-385 و ...

[12] انظر: آموزش عقاید "تعلیم العقائد"، محمد تقی، مصباح، ص87-90، 164-166، 184؛ لنفس الکاتب، تعلیم الفلسفة، ص421-428؛ لنفس الکاتب أیضاً، معارف قرآن" معارف القرآن"، 1-3 ص133-146 و 195-202 و ...

[13] الإنسان، 3.

[14] البلد، 10.

[15] البقرة، 256.

[16] العطاردی، الشیخ عزیز الله، مسند الإمام الرضا (ع)، ج1، ص37.

[17] انظر: الصدوق، التوحید، الباب 55، باب المشیئة و الإرادة؛ بحار الأنوار، ج4، ص134-152، ج5 ص84-135، ج25 ص366 ، ج52 ص50؛ تفسیر الصافی، ج2، ص775 ، 793؛ المیزان، ج20، ص143 ، 144؛ الکافی، ج1، ص65-70.

[18] انظر: عبد الرزاق الکاشانی، شرح منازل السائرین، ص209.

[19] انظر: الإمام الخمینی، شرح الأربعون حدیثاً، ص217.

[20] مصباح الشریعة، باب 86، ص182.

[21] ثقافة دیوان، الإمام الخمینی، ص163؛ الإمام الخمینی، الدیوان، ص107 (سلطان العشق).

[22] اللاهیجی، عبد الرزاق، شرح گلشن راز، ص325.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279426 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257205 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128128 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113209 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88981 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59817 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59533 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56847 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49711 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47155 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...