Please Wait
5068
اختلفت كلمة العلماء و الفرق الاسلامية في هذه القضية التي عرفت باسم "قبح الافعال و حسنها الذاتي". فذهبت الاشاعرة الى القول بان قبح الافعال و حسنها لا يدرك الا من خلال أمر الشارع بها و نهيه عنها، فاذا أمر الله تعالى باداء الامانة اكتشفنا حسن هذا الفعل، و عندما ينهى عن الكذب مثلا نكتشف قبحه لا ان تلك الافعال بنفسها تحتوي على ملاك القبح و الحسن بنفسها.
في المقابل ذهب كل من الشيعة و المعتزلة الى تبني نظرية مخالفة لنظرية الاشاعرة حيث آمنوا بان الله تعالى قد أودع الانسان جوهرة العقل يستطيع من خلالها و بصورة مستقلة إدراك حسن الافعال و قبحها الكامن في ذاتها، و من هنا يدرك جميع الناس الطاهرين و النفوس غير الملوثة حسنَ بعض الافعال و قبحها بغض النظر عن الشريعة التي هم عليها، كادراك الجميع لحسن البر بالوالدين و مساعدة الفقراء و.... وقبح القتل ظلما و السرقة و....
انطلاقا من هذه النظرية تكون جميع الافعال التي أمر الشارع بها أو نهى عنها، ذات ملاكات بنفسها من الحسن و القبح قبل أن يأمر بها أو ينهى عنها، و ان العقل قادر على ادراك تلك الملاكات، لكن من الممكن أن تحجب تلك الافعالُ العقلَ بحجاب من الشهوة و المعاصي تسلبه القدرة على التشخيص و معرفة حقائق الامور و ملاكاتها؛ من هنا نرى أمير المؤمنين (ع) يحدد مهمة الانبياء الاساسية باحياء دور العقل و إزالة الركام عن مدفوناته و ان الله تعالى انما بعث الانبياء للبشر "ليثيروا لهم دفائن العقول".[1]
من هنا، يمكن القول بانه من الممكن ان يختبر الله عباده ليعرف مدى طاعتهم و انقيادهم له، عن طريق وضع بعض المحرمات و الممنوعات الشرعية التي لا يدرك العقل حقيقتها، بل هي مباحة في ذاتها، كما حصل في قصة طالوت و المنع من الاغتراف من النهر اكثر من غرفة واحدة "فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَليكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَليلاً مِنْهُمْ".[2] و لكن هذه الاختبارات مقطعية و متغيرة، فشرب الماء من ذلك النهر غير ممنوع بعد تلك الواقعة قطعاً. أما بالنسبة الى الكذب و الغيبة و.... أو ما يسمّى بالاحكام الثابتة فعللها لا تنحصر في الاختبار، بل العلة الاساسية فيها تكمن فيما تنطوي عليه من ملاكات فالمحرمات إنما حرمت لوجود المفسدة فيها و الواجبات إنما وجبت لوجود المصلحة فيها. و هذه قضية قد بحثت بتفصيل في علم اصول الفقه تحت عنوان ملاكات الاحكام الشرعية.[3]
[1] نهج البلاغة، خ1.
[2] البقرة، 249.
[3] انظر: الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دورس في علم الاصول، الحلقة الثانية.