Please Wait
8954
بعض التفاسير و التراجم غير الصحيحة هي التي دفعت الى اثارة مثل هذا التساؤل. فلو إتضح المعنى الصحيح للآية فحينئذ يرتفع هذا الإشكال. و هنا لا بد من القول بأننا لو دققنا في معاني الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتضح أن كلمة التوفي يمكن أن يكون لها معنىً غير الموت و إن إستعملت فيه في القرآن الكريم، لذلك لا يمكن أن تكون هذه الآية دليلاً قاطعاً على موت النبي عيسى (ع) بحيث يمكن تخطئه الروايات المخالفة لهذا المعنى. و عليه فالمعنى الصحيح لهذه الآية هو: "تذكر "يا محمد" عندما قال الله لعيسى (ع) "إِذْ قالَ اللَّهُ يا عيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُك...".
و هذا المعنى للتوفي موجود في روايات أهل البيت (ع)، و لا منافاة بينه و بين حياة عيسى (ع).
الآراء التفسيرية التي ذكرها بعض مفسّري القرآن الكريم و هم قلّة دفعت الى اثارة هذا التساؤل حيث فسّروا كلمة "متوفيك" بـ "مميتك" و إن كانت أكثر تفاسيرهم لهذه الآية لا تنافي حياة عيسى (ع)، منها: "(تذكر) عندما قال الله لعيسى (ع): إني آخذك (من فوق الأرض و من بين الناس) و رافعك إليّ و مطهرك من الذين كفروا...".[1]
و من هنا يجب على الباحث العلم بأن "التوفي" من مادة "وفى" و قد تستعمل في معانٍ متعددة منها "الإماتة" و "الأخذ" و "الإكمال"[2] و في هذا المضمار يقال للعمل بالعهد و الميثاق وفاء أي بمعنى أداء العمل و إكماله و من هنا يقال لمن أخذ حقه من الآخرين بالكامل "توفى دينه". جاء في مجمع البحرين ـ و هو أحد الكتب اللغوية ـ في تفسير هذه الآية: "أي مستوفيك ..."[3].
إذن فكلمة "التوفي" لا تعطي معنى الموت لزوماً و إن إستعملت فيه كما جاء في بعض الآيات،[4] بل هناك آيات إستعملت فيها هذه الكلمة في معنىً آخر، منها قوله تعالى: "وَ هُوَ الَّذِى يَتَوَفَّئكُم بِالَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنهَّارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضىَ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون"[5] و مما لا شك فيه، إن كلمة "يتوفّاكم" في هذه الآية ليست بمعنى يميتكم، بل بمعنى النوم ليلاً الذي يتكرّر كل ليلة! و يمكن مشاهدة قبض الروح في المنام بصورة أخرى و على هذا، لا يمكن الاستناد الى الآية المثارة في السؤال كدليل قاطع على موت عيسى (ع).
أما عن نهاية النبي عيسى (ع) و كيف كانت، فهناك ملاحظات جديرة بالمطالعة و هي:
1ـ يعتقد المسيحيّون بأن عيسى قد صلب و قتل على أيدي أعدائه، أما القرآن فقد نفى بصريح القول قتله و صلبه بهذا الشكل: "وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المْسِيحَ عِيسىَ ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صَلَبُوهُ وَ لَكِن شُبِّهَ لهَمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لهَم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِينَا"[6].
2ـ لم نجد حتى آية واحده في القرآن الكريم تعلن و بشكل صريح كون النبي عيسى (ع) حياً لحد الآن و أنه لم يمت بأي نحو آخر غير القتل و إن أنكر قتله و صلبه.
3ـ هناك آيات في القرآن الكريم مثل الآية 55 آل عمران ـ المذكورة في السؤال ـ و الآية 117 المائدة تدل على إن صلة النبي و إرتباطه الحالي بالعالم المادي يختلف عن إرتباطه في زمن حضوره المباشر بين أتباعه و أنصاره، و إن لم يمكن إستنباط موته (ع) منها بصورة قاطعة.
4ـ هناك روايات كثيرة في الكتب الشيعية و السنية المعتبرة تعلن بصراحة حياة النبي عيسى (ع)، و نحن و إن لم نعثر على آية صريحة في القرآن تدل على ذلك لكن يمكن القول بحياته (ع) استناداً الى هذه الروايات.
نشير إلى موردين منها:
1ـ 4 قال رسول الله (ص) للیهود: "إن عیسی لم یمت و أنه راجع إلیکم قبل یوم القیامة"[7].
2ـ 4 قال رسول الله (ص): "... و من ذریتي المهدي إذا خرج نزل عیسی ابن مریم لنصرته فقدّمه و صلّی خلفه".[8]
5ـ و على فرض عدم الايمان بهذه الروايات الموجودة و أهملنا المعاني الأخرى "للتوفي" و أعتقدنا بموت النبي عيسى (ع) المحتم على أساس الآية المشار إليها في السؤال، فهذا الموضوع أيضاً لا ينافي كونه (ع) حياً في زماننا الحاضر، لوجود قصة في القرآن الكريم تدل على وجود شخص أحياه الله من موته بعد مئة سنة[9]، فمن الممكن أن يتكرر هذا الأمر لعيسى (ع).
[1] انظر نص الآية في آل عمران، 54.
[2] ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 398 و 399، الطبعة الأولى، نشر الأدب، الحوزة، قم، 1405.
[3] مجمع البحرين، ج 1، ص 444 مادة "وفى"، مكتبة المرتضوي، طهران، 1375 ش.
[4] النساء، 97، محمد، 27، يونس، 46، السجدة 11.
[5] الأنعام، 60.
[6] النساء، 157.
[7] إبن أبي حاتم، تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 110، ح 6232، مكتبة نزار للمصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، 1419 ه ق.
[8] الشيخ صدوق، الأمالي، ج 1، ص 218، نشر المكتبة الإسلامية، طهران، 1362 ه ش.
[9] البقرة 259، "فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ".