Please Wait
8882
طريقة القرآن في عرضه للقصة القرآنية تتمثل بإكتفائه ببيان الملاحظات البارزة و المهمة منها و ما له أثر في إيفاء الغرض، و لا يدخل في جزئيات القصة و تفاصيلها، فلا يلتزم بحكاية القصة من أولها إلى آخرها، بل ينتقي منها ما فيه عبرة و فائدة على المستويين الفردي و الجماعي.
و لو تأمّلنا و التفتنا جيّداً إلى الآيات المذكورة و نظراً إلى مفاهيم العناوين و الكلمات المذكورة في الجواب التفصيلي عن العذاب سيظهر ببساطة عدم وجود التناقض بين هذه التعابير، بل و سيظهر بأن هذه التعابير كاللازم و الملزوم و يضم كلّ منها معاني الكلمات الأخرى، و هذا التعدّد هو مقتضى الفصاحة و البلاغة الأدبية في القرآن.
أما عن شهادة الشاهد فلا بد من القول: بأن الشهادة لا تفقد إعتبارها فيما لو كانت متعددة إلا إذا إنقضت إحداهما الأخرى في المراحل المتعددة، أما لو كانت الشهادة في كل مرّة تبين جزءاً من الحقيقة، فلا تفقد إعتبار ها و سيكون لها أثر كامل باجتماعها.
لا بد من عرض مقدمة قبل الخوض في الجواب.
ليس الهدف من نزول القرآن كتابة التاريخ و القصة و الرواية و ما شابه ذلك و إن كان يستغل كل ذلك ـ بنحو من الأنحاء ـ للوصول إلى هدفه. القرآن كتاب هداية، و قد أنزله الله تعالى لبناء الإنسان و تهذيبه و تزكيته، و قد أنزل فيه من المواعظ و النصائح و النذر و التبشير ما يلزم لهذا الأمر.
من هنا نرى القرآن الكريم في سرده للتاريخ أو للقصة لا يدخل في ذكر التواريخ أو جزئيات القصة، فإنه يتبع طريقة التقطيع عند نقله للقصص لغرض الإستفادة التربوية و الأخلاقية فيذكر مقطعاً منها في مكان و مقطعاً آخر في مكان آخر لمناسبة اقتضت ذلك، "و ذلك لأن طريقة القرآن في عرضه للقصة القرآنية تتمثل بإكتفائه ببيان الملاحظات البارزة و المهمة منها، و ما له أثر في إيفاء الغرض، و لا يدخل في جزئيات القصة و تفاصيلها، فلا يلتزم بحكاية القصة من أولها إلى آخرها، بل ينتقي منها ما فيه نفع و فائدة"[1].
و كمثال على ما قلنا لقد وردت قصة نبي الله يونس (ع) في سورة الأنبياء الآية 87 و كذلك في سورة الصافات الآية 139 ـ 148 و هذا التكرار لا يعدّ ضعفاً و نقصاً بل ـ و أكثر من ذلك ـ يدل على الدقة و الحكمة و يعتبر من الأمور التي تساعد في تحقيق الهدف من نزوله، كالعالم المثقف و الخطيب البارع الذي يستشهد بقصيدة شعرية واحدة في أماكن متعددة من كتابه، حيث يضع كل بيت في الموضوع الذي يناسبه. بعد هذه المقدمة ندخل في الإجابة عن السؤال المطروح.
الصاعقة و الرجفة و الطاغية و الصيحة و يوم الظلّة كلمات متعددة و مختلفة في المعنى بحسب الظاهر، و عند التأمل قليلاً في مفاهيم العناوين و الكلمات المذكورة في الآيات و التفاسير التي تعرضت لبيان المراد من تلك المفردات التي يراد بها عذاب قوم من الأقوام، نحرز عدم التعارض و التناقض بينها، فبالنسبة لعذاب ثمود فقد ذكر القرآن كلمة: الرجفة[2] (الزلزلة) في سورة الأعراف الآية 78، و كلمة الصاعقة (العذاب المهلك، في سورة فصلت الآية 13 و 17 و كذلك في الآية 44 من سورة الذاريات، و الصاعقة قطعة من نار تتطاير على أثر الإصطدام بالسحاب و تحرق كل ما تسقط عليه و تحدث هزّة شديدة.[3]
و من جهة أخرى عبّر القرآن عن عذابهم في سورة الحاقّة الآية 5 بالطاغية (و هي الصاعقة،[4] أو ما خرج عن حدّه الطبيعي) و في سورة هود الآية 67 بالصيحة (و هي العذاب).[5]
أما عن قوم مدين فقد عبّر القرآن عن عذابهم في سورة هود الآية 94 بالصيحة و في سورة الأعراف الآية 91 بالرجفة و في سورة الشعراء الآية 189 بعذاب يوم الظلة (الظلال الناشئ من السحاب الذي يولد الصواعق).
يقول أغلب المفسّرين في ذيل الآية 189 من سورة الشعراء: "إن حرّا شديداً محرقاً حلّ في أرضهم سبعة أيّام، و لم يهب نسيم بارد مطلقاً، فإذا قطعة من السحاب تظهر في السماء ـ بعد سبعة أيّام ـ و تحرّك نسيم عليل فخرجوا من بيوتهم، و إستظلّوا تحت السحاب من شدّة الحرّ و فجأة سطعت من بين السحابة صاعقة مميتة بصوتها المذهل، و أحرقتهم بنارها و زلزلت الأرض و هلكوا جميعاً".[6]
أما الطاغية ـ فكما ذكرنا ـ تطلق على الصاعقة من جهة و على كل شيء تجاوز حدّه. عندئذ ينسجم المعنى مع الزلزلة أيضاً، و الصيحة هي بمعنى العذاب ـ كما قلنا سابقاً ـ و العذاب جاء في معنى الصاعقة أيضاً. إضافة إلى أن كل من الزلزلة و الطاغية مصداق للعذاب الطبيعي الشديد.[7] إنطلاقا مما مرّ و بالتدقيق في المفاهيم المذكورة سابقاً للإصطلاحات المستخدمة في وصف عذاب قوم ثمود و مدين، و نظراً إلى الترابط بينها في المعنى يظهر عدم التناقض و التضاد بينها، بل يظهر أنها كاللازم و الملزوم و تضم كلّ منها معاني الكلمات الأخرى.
أما التعدّد و الإختلاف في التعابير فهو مقتضى الفصاحة القرآنية و قمة البلاغة في إيصال المعنى و لأجل التأثير الفاعل و القوي في نفوس الناس. أما بالنسبة الى الشهادة فلا بد من القول: بأن الشاهد لو قال في مرحلة من شهادته شيئاً و في مرحلة ثانية نقض ما قاله سابقاً، أو شهد آخر بخلاف ما قاله، يسقط الكلّ عن الإعتبار، أما لو كانت الشهادة تبين في كل مرحلة جزءاً من الحادثة و الحقيقة، فلارين أنها ستكون مفيدة بإجتماعها بشرط عدم التناقض فيما بينها.
إضافة إلى أن القياس بين هذين الأمرين قياس مع الفارق، فالشروط اللازمة في المحكمة لقبول البينة و الإقرار و... لا دخل لها بالكتاب التربوي الذي أنزله الله تعالى لبناء الإنسان و تهذيبه و تزكيته ألا و هو القرآن الكريم.
[1] الطباطبائي، محمد حسين، تفسير الميزان، الموسوي الهمداني، سيد محمد باقر، ج 13، ص 403، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي التابع لجماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم، قم، الطبعة الخامسة، 1374 ش.
[2] إبن منظور، لسان العرب، ج 5، ص 153، الطبعة الأولى، إحياء التراث العربي، بيروت، 1408 ه ق.
[3] إبن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، ج 7، ص 348، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414 ق.
[4] لسان العرب، ج 8، ص 170.
[5] لسان العرب، ج 7، ص 440.
[6] مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل 11، 454، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، قم، 1421 ق.
[7] تفسير الأمثل، ج 15، ص 375.