Please Wait
8374
بالرجوع إلى النصوص الدینیة و التدقیق فی مضمون الآیات و الروایات نجد فیها ما یؤید فکرة کون الإنسان مختاراً، و لکن لا بمعنى أن الإنسان مختار محض، و من دون أن تحدد اختیاره أی قدرة أو قوة أو حاکمیة. و إنما المراد هو: على الرغم من کل العوامل المؤثرة و الظروف المحیطة، مع الاحتفاظ بقدرة الله و إرادته، فإن الإنسان قادر على أن یأتی بأعمال معینة و هو قادر فی نفس الوقت على أن لا یأتی بها، و أن یتصرف بکیفیة أخرى، فالإنسان اذاً یتحمل مسؤولیة ما یأتی به من أعمال إرادیة و لا وجود لمن یملی علیه و یجبره على أعماله.
و من البدیهی أیضاً أنه على الرغم من کون الإنسان مختاراً و حراً إلاّ أن حریته و اختیاره أمور نسبیة و محدودة بالنسبة لقدرته على تحدید طبیعته الداخلیة النفسیة أو استبدال محیطه الطبیعی، أو صناعة مستقبله کما یرید هو نفسه، و إذا کان الإنسان غیر قادر على قطع علاقته بشکل کلی، بالعامل الوراثی، و المحیط الطبیعی و الاجتماعی، و المقطع الزمانی التاریخی، فإنه یتمکن و فی هامش واسع أن یتمرد على هذه القیود و المؤثرات لیخرج عن سلطان هذه العوامل، و یحرر نفسه من آصارها، و بحکم قوة العقل و العلم من جانب، و قوة الإیمان و الإرادة من جانب آخر یتمکن الانسان من إیجاد تغییرات فی هذه العوامل لیجعلها ملائمة لما یریده وما یطمح إلیه، فیملک زمام أموره بیده.
بالرجوع إلى النصوص الدینیة و التدقیق فی مضمون الآیات و الروایات نجد ما یؤید فکرة کون الإنسان مختاراً، و لیس معنى هذا القول أن الإنسان مختار محض، ولا وجود لأی عامل مؤثر فی حیاته، أو أی قدرة أو سلطة تحکم أفعاله و نشاطه، بل إن المعنى هو مع الاعتراف بجمیع العوامل و المؤثرات، و مع الاحتفاظ بقدرة الله و هیمنته، فإن الإنسان قادر على إنجاز أعمال لو أراد أن لا ینجزها لما أنجزها و لما فعلها، و إنه بإمکانه أن یسلک سلوکاً آخر و ینحو نحواً مختلفاً. إذن فالإنسان هو المسؤول عن أعماله الإرادیة، و لیس الجبر أمر حاکم على تحرکه و نشاطه.[1]
و قد وردت عدة تفسیرات و تحلیلات للمتکلمین و الحکماء المسلمین بالنسبة لهذه القضیة، و لکن من أعمق و أجمل ما قیل فی ذلک ما قرره صدر المتألهین، حیث قال: إن الظواهر الوجودیة تختلف فیما بینها بلحاظ الذات و الصفات و الأفعال، و لکنها مع کل الاختلافات الموجودة فیما بینها بلحاظ القرب و البعد من مبدأ الخلق، فإنها تشترک بشیء واحد یستوعبها جمیعاً على حد سواء و هذه الحقیقة الإلهیة المشترکة بین الجمیع هی (الوجود المطلق) ففی عین بساطة هذه الحقیقة و وحدتها إلاّ أنها تشمل جمیع أبعاد عالم الوجود و لا توجد ذرة واحد فی هذا العالم الواسع خارجة عن سیطرة وهیمنة الحقیقة الإلهیة و نور الأنوار.
و على هذا الأساس، فکما أن وجود کل ظاهرة و شأنها منسوب الى وجود الله سبحانه وشأنه فی نظام الخلق، کذلک فإن فعل کل ظاهرة وجودیة هو فعل الله تعالى، و لیس المقصود من هذا الکلام أن فعل زید مثلاً لم یکن صادراً عنه، و إنما المراد هو أن فعل زید فی عین نسبته الحقیقیة إلى زید منسوب نسبة حقیقیة إلى الله أیضاً.
و النتیجة هی: کما أن وجود زید و حواسه و خصوصیاته الأخرى منسوبة إلیه، فإن فعله و أعماله منسوبة الیه أیضاً، و إن کلا النسبتین حقیقیتان (إذن ففکرة الجبر نادرة) و کما أن وجوده ینسب إلیه نسبة حقیقیة فهو منسوب إلى الله أیضاً، لأن فیض وجوده من الله سبحانه، و کذلک فإن علمه و إرادته و حرکاته و سکناته و کل ما یصدر عنه فإنه فی عین صدوره عن زید و نسبته إلیه نسبة حقیقیة، فإنه منسوب إلى الله بنسبة حقیقیة أیضاً، فالإنسان إذا هو فاعل و موجد لأعماله.
و من البدیهی أن الإنسان و مع کونه مختاراً إلاّ أنه فی إطار محدود بلحاظ تشکل صورته النفسیة المعنویة الداخلیة، أو تبدیل محیطه الطبیعی، کما هو المطلوب أو صناعة مستقبله کما یشاء و یرغب، و لذلک فحریته و اختیاره أمور نسبیة محدودة، فهو حر فی دائرة محدودة، و محدودیة الإنسان ترجع إلى عدة لحاظات.
1- الوراثة:
یأتی الإنسان إلى الدنیا بطبیعته الإنسانیة، و حیث أن أمه و أباه ینتمون إلى نوع الإنسان فإنه یأتی إنساناً قهراً و جبراً، و لابد أن یرث من والدیه سلسلة من الصفات کلون البشرة، و لون العینین، و بعض الخصوصیات الجسمانیة التی تصل إلیه فی بعض الأحیان عبر عدة أجیال فی سلسلته الوراثیة، و لیس للإنسان أی اختیار فی مثل هذه الخصائص الموروثة، و إنما ورثها على نحو الجبر، و تلقاها مرغماً.
2- المحیط الطبیعی و الجغرافی:
للمحیط الجغرافی و الطبیعی الذی ینشأ فیه الإنسان آثار و انعکاسات کبیرة فی رسم معالم شخصیته الداخلیة و الخارجیة شاء أو لم یشأ، فأثر الطقس البارد غیر أثر الطقس الحار، و المنطقة الجبلیة غیر السهلیة، و غیر ذلک من تنوعات طبیعیة و جغرافیة لها بالغ الأثر فی نفسیة الإنسان من دون أن یکون له أی اختیار فی رفض هذه المؤثرات أو اجتنابها.
3- المحیط الاجتماعی:
المحیط الاجتماعی للإنسان عامل مهم فی تکوین خصوصیات الإنسان الروحیة و الأخلاقیة، لغة الإنسان، الأعراف و الآداب الاجتماعیة، دینه، مذهبه، فغالباً ما یتلون الإنسان بما یفرضه علیه محیطه الاجتماعی[2] و على الرغم من اعتراف القرآن بالمؤثرات العدیدة على الإنسان کالمجتمع، و الطبیعة، و ...، و لکنه یعلن بصراحة أن الإنسان قادر بلحاظ الإمکان أن لا یخضع لإملاءات المحیط الاجتماعی.
یقول تعالى فی الآیة 97 من سورة النساء بخصوص (المستضعفین) من أفراد المجتمع: «إِنَّ الَّذِینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظَالِمِی أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِیمَ کُنْتُمْ قَالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِیهَا فَأُولَئِکَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِیرًا».
و یقول فی موضع آخر: «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعًا فَیُنَبِّئُکُمْ بِمَا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»[3]
فلا یکون ضلال الآخرین سبباً (یجبرکم) على الضلال.[4]
4- العوامل التاریخیة الزمانیة:
الوقائع و الحوادث الماضیة هی الأخرى لها تأثیر کبیر فی صناعة الإنسان و بشکل إجمالی، فإن العلاقة بین ماضی کل موجود و مستقبله أمر مسلم و قطعی، فالماضی بمنزلة النطفة و النواة بالنسبة إلى المستقبل. وإذا لم یستطع الإنسان أن یقطع علاقته بشکل کلی بعامل الوراثة و المحیط الطبیعی، و المحیط الاجتماعی و التاریخ و الزمان، فإنه من الممکن أن یتمرد على هذه العوامل الضاغطة و الآصار المحیطة به و یحرر نفسه من آثارها. و بحکم قوة العقل و العلم من جانب و قوة الإرادة و الإیمان من جانب آخر یمکن للإنسان أن یحدث تغییرات فی هذه العوامل من أجل تکییفها و ما یتلائم و إرادته و أغراضه، و بذلک یکون مالکاً لزمام أموره، و قادراً على تحدید مصیره بنفسه.[5]
و نحن لا ننکر تأثیر العوامل الجینیة و الطبیعیة و البیئیة و الاجتماعیة فی تشکیل شخصیة الإنسان و طبیعة سلوکه.و لکننا نرى أن حصر المؤثرات التی تحیط بالإنسان بهذه العوامل فقط أمر غیر صحیح، و أنه إغفال للجوانب الروحیة و النفسیة للإنسان، و بالتوجه إلى إثبات وجود النفس المجردة، فإن إرادة الإنسان الحرة تابعة لقدراته الروحیة المجردة، و حین نأخذ بنظر الاعتبار إرادة الإنسان الحرة، فإنه مهما کان تأثیر العوامل الفیزیائیة و الکیمیائیة و الطبیعیة، فلا یمکنها أن تصل إلى حدود سلب الإنسان اختیاره، ألسنا نشاهد و نجد أننا نقاوم فعل المؤثرات الخارجیة و الإغراءات التی تثیر بعض الغرائز و المیول التی تتبعها انفعالات فیزیائیة و کیمیائیة؟ إننا و الآخرین نواجه کل یوم مثل هذه الأمور و جربناها و عرفناها.
و قانون الوراثة لا یقتضی أن یکون الولد نسخة مطابقة لوالدیه و أجداده الذین ورث عنهم بعض الخصوصیات دون إرادته. فالإنسان قادر على أن یختار أعمالاً تخالف مقتضى کل هذه العوامل، لیختار سلوکاً آخر مغایراً لإملاءاتها.[6]
المصادر للاطلاع:
محمد تقی جعفری، الجبر و الاختیار.
جعفر السبحانی، سرنوشت از دیدگاه علم و فلسفه"مصیر الإنسان بنظر الفسلفة و العلم".
السید محمد باقر الصدر، الإنسان المسؤول و صناعة التاریخ.
مرتضى المطهری، انسان و سرنوشت "الإنسان و المصیر".
محمد تقی مصباح، " معارف قرآن" معارف القرآن (معرفة الله، معرفة العالم، معرفة الإنسان).
[1] أحمد واعظی، انسان از دیدگاه اسلام" الإنسان بنظر الإسلام"، ص12، قم، مکتب تعاون الحوزة و الجامعة ، 1375.
[2] مرتضى المطهری، مقدمهاى بر جهان بینى اسلامى، " مقدمة فی النظریة الإسلامیة فی المعرفة"، ص270 – 271، منشورات صدرا، قم.
[3] سورة المائدة، الآیة 105.
[4] مرتضى المطهری، مقدمهاى بر جهان بینى اسلامى، " مقدمة فی النظریة الإسلامیة فی المعرفة"، ص330.
[5] المصدر السابق، ص270.
[6] محمود رجبی، انسان شناسى، " معرفة الإنسان"، ص151، مؤسسة الإمام الخمینی للتحقیق و التعلیم، الطبعة الأولى، 1379.