Please Wait
8055
مفهوم المرجعیة فی الفکر الشیعی مرکب ومزیج من شأنی« الإفتاء» و «الولایة»، ولقد کان مراجع الدین العظام یتصدّون لمنصب الإفتاء والإرشاد من خلال بیان الإحکام الکلیة الإلهیة، کما کانوا یتصدّون لتحمّل مسؤولیة قیادة أمور الناس فی القضایا الأجتماعیة الجزئیة، بل فی بعض الأحیان کانوا یتصدّون لإدارة شؤون القضاء بین الناس.
أما إذا فککنا وفصلنا بین شأنی «الإفتاء» و«[الولایة» وحصرنا مفهوم المرجعیة بالشأن الأوّل «الإفتاء» فقط، حینئذٍ تثار بعض التساؤلات منها:
1- هل یجوز الفصل بین المرجعیة والقیادة؟
2- على فرض إمکان ذلک، هل یجوز تعدد القیادة والمرجعیة؟
3- على فرض الفصل بین المرجعیة والقیادة، هل یمکن للأمّة الرجوع لغیر القائد فی کافة الأحکام الاجتماعیة والفردیة؟
الإجابة عن التساؤلات المذکورة تکون على النحو التالی:
أ- إن الرکیزة التی تبتنی علیها مرجعیة الفقیه هی تخصصه فی الفقه وقدرته على استنباط الأحکام الشرعیة من مصادرها الأصلیة، والحال أن الرکیزة التی تبتنی علیها القیادة -بالإضافة إلى الفقاهة والقدرة على استنباط الحکم الشرعی- هی مؤهلاته القیادیة فی إدارة شؤون المجتمع وفقاً للمعاییر والقیم الإسلامیة.
من هنا یمکن أن یوجد شخص ما تتوفر فیه القدرات العالیة فی الفقاهة والاستنباط فیکون مقدماً على غیره فی أمر المرجعیة، إلاّ إنه من ناحیة المؤهلات القیادیة قد یکون أقل کفاءة من الآخر فحینئذ یکون الآخر أرجح منه للتصدی لأمر القیادة.
على هذا الأساس تکون قضیة الفصل بین المرجعیة والقیادة أمراً معقولاً، بل تکون ضروریة ولازمة فی أحیان أخرى.
ب-القاعدة الأولیّة فی القیادة هی الوحدة، وفی المرجعیة التعدد، وإن کان العکس جائزاً فی الأمرین أیضاً، کما إن اتحاد المرجعیة والقیادة فی شخص واحد هی الأخرى أمر ممکن کذلک.
ج-بما إن إطاعة القائد وامتثال أوامره أمر واجب على الجمیع ولا یجوز نقض حکم القائد من قبل جمیع الفقهاء، من هنا یجب على الأمّة امتثال رأی القائد فی القضایا الاجتماعیة ولا یجوز لها تقلید غیره فی هذه القضایا، وما ورد فی جواب السؤال الأوّل إنما یختص فی المسائل الفردیة ولا یتعدى إلى المسائل الاجتماعیة، لأن فی دائرة القضایا الفردیة یجوز للمکلفین الرجوع إلى غیر القائد من المراجع.
کان الرسول الأکرم صلى الله علیه وآله وسلم یتمتع بثلاثة مناصب أساسیة هی:
1- منصب التبلیغ: أی منصب تبلیغ آیات الذکر الحکیم وإیصال الأحکام الشرعیة إلى الناس وإرشادهم.
2- منصب القضاء: المنصب الثانی له (ص) هو منصب القضاء ورفع الخصومات بین الناس.
3- منصب القیادة: المنصب الثالث له (ص) یتمثل فی منصب القیادة وإدارة شؤون المجتمع الإسلامی وتدبیر أمورهم.
هذه المناصب الثلاثة انتقلت فی عصر الغیبة إلى الفقهاء فأصبح الفقهاء یتمتعون بمنصب:
1- الإفتاء وبیان الأحکام الشرعیة الکلیة للناس وإرشادهم وهدایتهم من هذه الناحیة.
2- منصب القضاء وفک الخصومات.
3- منصب القیادة وإدارة شؤون المجتمع.[1]
إن مفهوم المرجعیة فی الفکر الشیعی مزیج من شأنی «الإفتاء» و «الولایة» ولقد کان مراجع الدین العظام یتصدّون لمنصب الإفتاء والإرشاد من خلال بیان الأحکام الإلهیة الکلیة، کما کانوا یتصدون لتحمل مسؤولیة قیادة الأمّة فی القضایا الاجتماعیة الجزئیة، بل کانوا یتصدون أحیاناً أخرى لمنصب القضاء وفک الخصومات بین الناس.
أما إذا فصلنا بین منصب الإفتاء والولایة، وحصرنا مفهوم المرجعیة بالشأن الأوّل [الإفتاء] فقط حینئذٍ تثار أمامنا مجموعة من التساؤلات من قبیل:
1- هل یجوز الفصل بین المرجعیة والقیادة؟ بمعنى هل من الممکن أن یتصدى شخص لمنصب الإفتاء والمرجعیة فی الأحکام الإلهیة الکلیة ویکون مرجعاً للأمّة، والآخر یتصدّى لإدارة الشؤون الاجتماعیة للمجتمع الإسلامی؟.
2- على فرض إمکانیة التفکیک، هل یجوز تعدد القیادة والمرجعیة؟ أو یجب التوحید بین المنصبین فی شخص واحد؟ أو یوجد بینهما تفاوت من هذه الجهة؟
3- على فرض التفکیک بین المرجعیة والقیادة، هل یمکن للأمة الرجوع لغیر القائد فی کافة الأحکام الاجتماعیة والفردیة؟
وقبل الإجابة عن التساؤلات المذکورة لابدّ من بیان مقدمة مختصرة فی توضیح مفهومی «الفتوى» التی هی من عمل المفتی، و«الحکم» الصادر من القائد.
حینما یرجع المجتهد إلى المصادر الأساسیة لاکتشاف الحکم الشرعی الکلی و یعتمد الطرق الخاصة المعتمدة فی الاستنباط، یقوم باستخراج ذلک الحکم ووضعه تحت متناول مقلدیه، حینذ یطلق على ذلک مصطلح «الفتوى».
من هنا یمکن القول، "الفتوى" هی: استنباط الحکم الدینی الکلی فی مجال من المجالات من خلال مراجعة المصادر الأساسیة للتشریع واعتماد الطرق والأسالیب المعروفة فی الاستنباط.[2]
وحینما یقوم القائد بتحدید الوظیفة تجاه مسألة خاصة على المستوى الفردی أو الاجتماعی آخذاً بنظر الاعتبار الأحکام الکلیة الإلهیة والنظم الإسلامیة والإلتفات إلى الشروط الموضوعیة الموجودة، حینئذٍ یطلق على هذا العمل مصطلح «الحکم».
من هنا نقول" الحکم": یأخذ فیه الحاکم بعین الاعتبار الأحکام الإلهیة الکلیة والقیم والأهداف الإسلامیة الشاملة والدائمة، والإلتفات إلى الظروف الموضوعیة والشروط الحاکمة فی المجتمع، وما دامت تلک الشروط و الظروف باقیة یکون الحکم نافذاً من قبل القائد أو نائبه.
والجدیر بالذکر أن الشارع المقدس فرض وجوب امتثال فتوى الفقیه الجامع للشرائط ومشروعیتها حالها حال حکم الحاکم وولی الأمر[3]. مع فارق واضح وهو أن فتوى الفقیه لازمة له ولمقلدیه، والحال أن حکم الحاکم ملزم للجمیع.
بعد هذه المقدمة نتعرض لجواب السؤال الأول؛ أی مسألة التفکیک بین المرجعیة والقیادة.
بناءً على ملاکات ومؤهلات القیادة وأدلتها، یتصدّى الفقیه المؤهل لقیادة الأمة الإسلامیة على أساس المعاییر والقیم الدینیة، وأما المرجعیة بمعنى إصدار الفتوى فتعنی أمراً آخر، ففی مقابل مفهوم المرجعیة یأتی مفهوم التقلید، بمعنى أنه کلما وجد شخص بعنوان مرجع التقلید توجد مقابله طائفة من الناس بعنوان المقلدین له.
هنا ومن أجل توضیح مفهوم المرجعیة لابدّ من تسلیط الأضواء على مفهوم التقلید.
إن مفهوم التقلید فی اللغة الفارسیة یعطی معنى خاصاً ویحمل مفهوماً سلبیاً بنحوٍ ما، هذا المعنى یحکی عن التبعیة والانقیاد لشخص ما بلا دلیل أو حجة، وهذا ما أشار إلیه اقبال اللاهوری فی بعض أشعاره صابّاً جام غضبه على هذا النوع من التقلید معتبراً ذلک نوعاً من أنواع التبعیة العمیاء للغیر. ولذلک نجده فی شعره یلعن هذا النوع من التقلید ویذمه.[4]
ولکننا إذا نظرنا إلى التقلید من الزاویة الفقهیة، أو بعبارة أخرى نظرنا إلى مراد الفقهاء من هذا المفهوم [التقلید] نجد انهم یعنون به معنىً مخالفاً بمقدار مائة وثمانین درجة عن المعنى المتعارف الذی ذکرناه آنفاً، وذلک لأنهم لا یعنون إلاّ رجوع غیر المتخصص إلى الإنسان المتخصص فی القضایا والعلوم التخصصیة، من هنا یکون مفهوم [التقلید] -وبهذا المعنى- أمراً معقولاً فی نظر العرف ینظر إلیه العقلاء بکل إجلال واحترام معتبرین هذا الأسلوب أسلوباً موضوعیاً وعقلائیّاً لا ضیر فیه ولا یستحق أی لون من ألوان الذم فضلاً عن اللعن.
ثم إن أهم دلیل یمکن إقامته لإثبات جواز التقلید فی الأمور الدینیة هو نفس هذه النکتة العقلائیة التی ترى ضرورة رجوع غیر المتخصص إلى المتخصص فی المسائل التخصصیة، کما إن جمیع الأدلة اللفظیة التی أقیمت لإثبات حجیة التقلید کقوله تعالى: (فاسئلوا أهل الذکر إن کنتم لا تعلمون)[5] والروایات الواردة فی هذا المجال کلها تشیر إلى هذه النکتة العقلائیة.
من هنا تکون النکتة أو المرتکز الذی تقوم علیه مرجعیة الفقیه هی تخصصه فی الفقه وقدرته على استنباط الحکم الشرعی من مصادره الأصلیة. والحال أن الرکیزة التی تبتنی علیها القیادة -بالإضافة إلى الفقاهة واستنباط الحکم- هی مؤهلات الفقیه القیادیة فی إدارة شؤون الأمّة وفقاً للمعاییر والقیم الإسلامیة.
وعلى هذا الاساس یمکن أن یوجد شخص ما تتوفر فیه القدرات العالیة فی الفقاهة واستنباط الأحکام الشرعیة فیکون مقدماً على غیره فی أمر المرجعیة[6].إلاّ إنه من ناحیة المؤهلات القیادیة یکون أقل کفاءة من غیره فیکون الفقیه الآخر أرجح منه فی التصدی لأمر القیادة وإدارة شؤون المجتمع.
من هذا المنطلق، تکون مسألة الفصل بین المرجعیة والقیادة أمراً معقولاً، بل تکون ضروریة ولازمة فی بعض الأحیان الاخرى.
وأما بالنسبة إلى السؤال الثانی؛ تعدد القیادة أو المرجعیة ووحدتها، بعد القول بإمکان الفصل والتفکیک بینهما، لابدّ من الإلتفات إلى نکتة مهمة وهی: بما إن الرجوع إلى المرجع من قبیل رجوع الجاهل إلى العالم ورجوع غیر المتخصص إلى المتخصص، یکون وجود متخصصین کثیرین ومراجع متعددین فی المجتمع الإسلامی أمراً ممکناً، بل یکون مطلوباً لیتسنى للجمیع الرجوع إلیهم وأخذ الأحکام منهم بطریقة سهلة بعیداً عن التعقید.
وأما مسألة القیادة والولایة وإدارة المجتمع الإسلامی فبما أنها ترتبط بالنظام الاجتماعی، وان تعدد مراکز اتخاذ القرار فیه یؤدی إلى الاضطراب واختلال النظام، وان إطاعة القائد أو الولی واجبة على الجمیع بما فیهم سائر الفقهاء، من هنا تقتضی القاعدة وحدة القیادة وان یکون القائد واحداً، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار النظریة الإسلامیة الرافضة لتعدد الدول وإن الأرض الإسلامیة واحدة لا اعتبار فیها للحدود والموانع الجغرافیة المصطنعة، وبالطبع یمکن ولظروف موضوعیة خاصة ومصالح إسلامیة یقبل الفکر الإسلامی بتعدد القیادة فی أکثر من بقعة إسلامیة، أو یرضى بأن تدار الأمور بأی شکل آخر من أشکال القیادة، ولکن شریطة حفظ مصالح المسلمین والتنسیق بین القیادات لکی لا تبتلی الأمّة الإسلامیة بالضیاع والتشتت والتفرقة والتمزق.
اما فی مقام الفتوى والافتاء فلا نرى ضرورة لتوحید فتاوى الفقهاء جمیعاً، بل کل فقیه ملزم بالإفتاء طبقاً لمتبنیاته الفکریة والقواعد الأصولیة وغیر الأصولیة التی یعتمدها.
اذاً، القاعدة الأولیة فی القیادة الوحدة، وفی المرجعیة التعدد، وإن کان من الممکن أن ینعکس الأمر، کما انه من الممکن إتحاد المرجعیة والقیادة فی ید ولی فقیه واحد.
وأما بالنسبة إلى السؤال الثالث، إمکانیة رجوع الأمة لغیر الولی الفقیه فی کافة الأحکام الاجتماعیة أو الفردیة، فالجواب عنه هو: لابدّ من الإلتفات إلى نکتة مهمة وهی إن القائد حینما یصدر حکمه فإنه یأخذ بنظر الاعتبار - بالإضافة إلى الظروف والشروط الموضوعیة الخارجیة- النظر إلى الأحکام الإلهیة الکلیة والنظم الإسلامیة، وفی هذا المقام یکون الملاک لدیه فتواه الخاصة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قلنا سابقاً إن حکم الحاکم والقائد نافذ وواجب الامتثال من قبل الجمیع.
وهنا یطرح الإشکال التالی نفسه وهو: إذا کان من الجائز للأمة الرجوع لغیر القائد فی جمیع المسائل الفردیة والاجتماعیة، ومن جهة أخرى هی ملزمة بالعمل طبقاً لرأی القائد فی الأحکام، فهنا قد تقع الأمة فی بعض الأحیان فی الحیرة والتخبط فیما إذا اختلفت فتوى غیر الحاکم مع حکم القائد، لأن القائد إنما حکم بحکمه لأنه علم إن هذا هو الحکم الشرعی المراد، ولو کان یعلم ان حکمه غیر ذلک لما أفتى به، وفی الوقت نفسه تکون فتوى غیر الحاکم هی عین ذلک الحکم الذی رفضه القائد ولم یحکم به، وحینئذٍ کیف تکون الأمة ملزمة بطاعة القائد؟!
انطلاقاً من هذا الإشکال نقول: الذی یظهر للنظرللوهلة الاولى انه بما ان التبعیة للقائد واجبة على الجمیع ولا یجوز لأی فقیه نقض حکمه، فلایجوز اذاً للأمة الرجوع إلى غیر القائد فی القضایا الاجتماعیة، وأما ما ورد فی جواب السؤال الأوّل فإنما یختص بالمسائل الفردیة ولا یتعداه إلى المسائل الاجتماعیة التی هی من شؤون القائد ومختصاته. نعم فی المسائل الفردیة یجوز للأمة الرجوع لغیر القائد وتقلیده.
لمزید الإطلاع انظر: هادوی الطهرانی، "ولایت ودیانت"، مؤسسه فرهنگی خانه خرد [مؤسسة دارالحکمة الثقافیة]، قم، الطبعة الثانیة، 1380هـ ش.
[1] العناوین المرتبطة:ادلة ولایة الفقیه.
[2] عبر الامام الخمینی (قدس سره) عن هذا المنهج فی الاستنباط " الفقه السنتی او الفقه الجواهری".
انظر هادوی الطهرانی، فقه حکومتی وحکومت فقهی، بمناسبة الذکرى الخامسة لرحیل الامام الخمینی (قدس سره) ص10-11، خرداد عام 1373 هـش.
[3] من هنا یقال تارة ان الاحکام الشرعیة تنقسم الى قسمین: 1- الأحکام الإلهیة، 2- الأحکام الولائیة، والاولى تطلق على الاحکام الکلیة الدینیة الثابتة والفتوى، والثانیة ناظرة إلى الاحکام الصادرة من الولی الفقیه [القائد].
[4] یقول اقبال فی شعره:
خلق را "تقلیدشان" بر باد داد ای دو صد لعنت بر این "تقلید" باد
[5] النحل: 43.
[6] یطلق على هذه المسألة عنوان "شرط الأعلمیة" وإنما یجب الرجوع إلى الأعلم فی حالة:
أ- إذا اختلفت فتوى الأعلم مع غیر الأعلم.
ب- إذا کانت الفاصلة بین الأعلم وغیر الأعلم من الناحیة العلمیة والتخصصیة کبیرة جداً، بنحو تکون فتوى غیر الأعلم بالنسبة الى فتوى الأعلم لا قیمة لها فی نظر العقلاء من الناحیة التخصصیة، وان کانت ذات قیمة تخصصیة بالنظر الى سائر الناس من غیر الفقهاء.