Please Wait
الزيارة
5553
5553
محدثة عن:
2012/11/12
خلاصة السؤال
لماذا لا يدافع الله تعالى عن المتوكّلين عليه في جميع شؤون حياتهم و يترك المستعينين به إلى مواجهة مخاطر الحياة و ابتلاءاتها؟
السؤال
لماذا يتعرّض المتوكّلون على الله تعالى و المستعينون به في جميع شؤون حياتهم، للظلم و الاجحاف و هضم الحقوق بل القتل أحياناً؟ ما هو التبرير لهذه القضية و لماذا لا يدافع الله عنهم و قد استعانوا به و توكلوا عليه؟
الجواب الإجمالي
أكدت الآيات القرآنية و الأحاديث المنقولة عن المعصومين عليهم السلام على أهمية التوكّل و مكانته الرفيعة في تكامل الانسان في حركته التصاعدية نحو الباري عزّ وجل معتبرة ذلك من الخصال الحميدة و الخلال الطيبة في الإنسان.
و من الواضح أنّ طبيعة الانسان تميل نحو الغرور و التكبّر فيما إذا لم تعترض مسيرته المشاكل و سارت حياته بانسيابية كاملة، و تم له جميع ما يريد، و قد ينجر به الأمر في نهاية المطاف إلى الاستكبار و التعالي غافلاّ عمّا تؤول إليه حركته هذه. و من هنا إقتضت الحكمة الإلهية – صيانة للعبد من الوقوع في تلك المعضلة- بأن تتعرض مسيرته الحياتية لمجموعة من المشاكل و المعوقات و الاحساس بالضعف و العجز في مقابل الكثير من القضايا و الكوارث التي تواجهه كالامراض و فقدان بعض أعضاء البدن و الموت و الفقر و التعرّض للحوادث الطبيعية كالسيول و الاعاصير و الزلازل و... و من جهة أخرى ركّب وجوده بطريقة يتصارع فيها العقل و الشهوة من جهة و بين وساوس الشيطان و سبل الهداية و الرشاد التي أنارت له الطريق، كل ذلك لأجل السير بموضوعية و عقلانية في هذه الطريق الشائكة و ليحصل على تكامله الروحي و النفساني و الجسدي بطريقة طبيعية و ليحصل بنفسه على مرامه الأسمى و غايته التي خلق من أجلها إنطلاقاً من المشيئة الإلهية التي أرادت للانسان التحرّك بإرادة و إختيار منه.
من هنا يمكن القول: إن عالم الوجود بكل أبعاده و نعمه هو ساحة للاختبار و الإبتلاء، و عامل فاعل من عوامل تكامل الانسان و رقيه المعنوي على المستويين الدنيوي و الآخروي، و إلا استحال تطوّره و رقيه.
فإذا تعرّض المؤمني للاختبار في حياته فلابد أن يتلقى ذلك برحابة صدر معتبراً ذلك رحمة ربانية تداركته ليصحح ما فات أو ليرتقي بنفسه إلى درجة الكمال التي يسعد بها في عالم الآخرة فضلا عن السمعة الحسنة التي يحظى بها في أوساط المؤمنين و الصالحين من عباد الله، و من أبرز نماذج الابتلاء التي تعرضها لها المؤمنون المسلمون البلاء العظيم الذي تعرض له الإمام الحسين عليه السلام و الذي كان يزداد نوراً و إشراقاً حتى قال بعضهم: وقفتُ عليه و إنّه لَيَجود بنفسه، فوالله ما رأيتُ قَتيلاً مُضمّخاً بدمِهِ أحْسَنَ منه ولا أَنْوَر وجهاً، و لقد شلغني نور وجهه و جمال هيئته عن الفِكْرة في قتله.
و من الواضح أنّ طبيعة الانسان تميل نحو الغرور و التكبّر فيما إذا لم تعترض مسيرته المشاكل و سارت حياته بانسيابية كاملة، و تم له جميع ما يريد، و قد ينجر به الأمر في نهاية المطاف إلى الاستكبار و التعالي غافلاّ عمّا تؤول إليه حركته هذه. و من هنا إقتضت الحكمة الإلهية – صيانة للعبد من الوقوع في تلك المعضلة- بأن تتعرض مسيرته الحياتية لمجموعة من المشاكل و المعوقات و الاحساس بالضعف و العجز في مقابل الكثير من القضايا و الكوارث التي تواجهه كالامراض و فقدان بعض أعضاء البدن و الموت و الفقر و التعرّض للحوادث الطبيعية كالسيول و الاعاصير و الزلازل و... و من جهة أخرى ركّب وجوده بطريقة يتصارع فيها العقل و الشهوة من جهة و بين وساوس الشيطان و سبل الهداية و الرشاد التي أنارت له الطريق، كل ذلك لأجل السير بموضوعية و عقلانية في هذه الطريق الشائكة و ليحصل على تكامله الروحي و النفساني و الجسدي بطريقة طبيعية و ليحصل بنفسه على مرامه الأسمى و غايته التي خلق من أجلها إنطلاقاً من المشيئة الإلهية التي أرادت للانسان التحرّك بإرادة و إختيار منه.
من هنا يمكن القول: إن عالم الوجود بكل أبعاده و نعمه هو ساحة للاختبار و الإبتلاء، و عامل فاعل من عوامل تكامل الانسان و رقيه المعنوي على المستويين الدنيوي و الآخروي، و إلا استحال تطوّره و رقيه.
فإذا تعرّض المؤمني للاختبار في حياته فلابد أن يتلقى ذلك برحابة صدر معتبراً ذلك رحمة ربانية تداركته ليصحح ما فات أو ليرتقي بنفسه إلى درجة الكمال التي يسعد بها في عالم الآخرة فضلا عن السمعة الحسنة التي يحظى بها في أوساط المؤمنين و الصالحين من عباد الله، و من أبرز نماذج الابتلاء التي تعرضها لها المؤمنون المسلمون البلاء العظيم الذي تعرض له الإمام الحسين عليه السلام و الذي كان يزداد نوراً و إشراقاً حتى قال بعضهم: وقفتُ عليه و إنّه لَيَجود بنفسه، فوالله ما رأيتُ قَتيلاً مُضمّخاً بدمِهِ أحْسَنَ منه ولا أَنْوَر وجهاً، و لقد شلغني نور وجهه و جمال هيئته عن الفِكْرة في قتله.
الجواب التفصيلي
1. مفهوم التوكّل ومكانته
التوكّل يعني: اعتماد العبد و إطمئنانه القلبي على الله تعالى في جميع شؤون حياته و إيكال جميع شؤونه إليه و الاستعانة بحول الله و قوته.[1]
و قد روي عن النبي الأكرم (ص) أنّه قال: سألت جبرئيل ما التوكّل على الله عزّوجلّ؟ فقال: العلم بانّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، و لا يعطي و لا يمنع، و استعمال اليأس من الخلق، فاذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله، و لم يرج و لم يخف سوى الله، و لم يطمع في أحد سوى الله، فهذا هو التوكّل.[2]
و لا تتم هذه الخصلة الحميدة في الإنسان إلا إذا أذعن بأنّ جميع ما يقوم به من أعمال و حركات و....هي من الله تعالى وحده، و لا مؤثر سواه سبحانه في تحقيق ذلك، و أنّه لا حول و لاقوّة إلا من الله تعالى، فاذا آمن بذلك و ترسخت تلك العقيدة في أعماق كيانه حينئذ يهيمن التوكّل على كافة وجوده و يملأ شآبيب قلبه و أحاسيسه.[3] و هذه هي أرفع درجات التوكّل التي تليها مراتب متدنية أخرى حسب مراتب الإيمان و عمق الشخصية.
و قد أكدت الآيات القرآنية و الأحاديث المنقولة عن المعصومين عليهم السلام على أهمية التوكّل و مكانته الرفيعة في تكامل الانسان في حركته التصاعدية نحو الباري عزّ وجل، من قبيل:
- قول تعالى: " وَ عَلىَ اللَّهِ فَتَوَكلَُّواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".[4]
- وقوله عزّ شأنه: " إِنَّ اللَّهَ يحُِبُّ المتوكّلين".[5]
- وجاء في سور الطلاق: " وَ مَن يَتَوَكلَْ عَلىَ اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ"[6]
- روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: " َ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ".[7] و عن أمير المؤمنين عليه السلام: " التوكّل على الله نجاة من كلّ سوء، و حرز من كلّ عدو".[8] إلى غير ذلك من القبسات النورانية التي تبين مدى قيمة التوكّل و مكانته في الحياة الإيمانية.[9] إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحول التكاسل و إيكال الأمور إلى الله تعالى بلا سعي من العبد و استعمال لقوانين الحياة و سننها. و لا يعني أيضاً أن العبد المتوكّل سيكون في حرز أمين بحيث لا يواجه أيّ مشكلة من مشاكل الحياة.
2. طبيعة الانسان الغرور و التعالي
من الواضح أنّ طبيعة الانسان تميل نحو الغرور و التكبّر فيما إذا لم تعترض مسيرته المشاكل و سارت حياته بانسيابية كاملة، و تم له جميع ما يريد، و قد ينجر به الأمر في نهاية المطاف إلى الاستكبار و التعالي غافلاّ عمّا تؤول إليه حركته هذه. و من هنا إقتضت الحكمة الإلهية – صيانة للعبد من الوقوع في تلك المعضلة- بأن تتعرض مسيرته الحياتية لمجموعة من المشاكل و المعوقات و الاحساس بالضعف و العجز في مقابل الكثير من القضايا و الكوارث التي تواجهه كالامراض و فقدان بعض أعضاء البدن و الموت و الفقر و التعرّض للحوادث الطبيعية كالسيول و الاعاصير و الزلازل و... و من جهة أخرى ركّب وجوده بطريقة يتصارع فيها العقل و الشهوة من جهة و بين وساوس الشيطان و سبل الهداية و الرشاد التي أنارت له الطريق، كل ذلك لأجل السير بموضوعية و عقلانية في هذه الطريق الشائكة و ليحصل على تكامله الروحي و النفساني و الجسدي بطريقة طبيعية و ليحصل بنفسه على مرامه الأسمى و غايته التي خلق من أجلها إنطلاقاً من المشيئة الإلهية التي أرادت للانسان التحرّك بإرادة و إختيار منه.
من هنا يمكن القول: إن عالم الوجود بكل أبعاده و نعمه هو ساحة للاختبار و الإبتلاء، و عامل فاعل من عوامل تكامل الانسان و رقيه المعنوي على المستويين الدنيوي و الآخروي، و إلا استحال تطوّره و رقيه.و من الطبيعية هنا أن يكون نصيب أولياء الله هو الأوفر من هذه البلايا و الاختبارات؛ و ذلك لطبيعة الهدف الذي يرومون الوصول إليه و طبيعة الاستعداد الروحي العالية التي يتحلون بها في التعامل مع الشرور و البلايا بصورة موضوعية. و من هنا كان الأنبياء و الصالحون في قمّة الهرم من هذه الزاوية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الامتحان الإلهي في الآية 140 و 141 من سورة آل عمران و أوجز الهدف منه بقوله تعالى: (وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
و بهذا يكون الابتلاء تلو الابتلاء مظهراً للإيمان و للفضائل و ماحقاً للكفر و النفاق.[10]
و هناك محق آخر بالنسبة للكفار أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وَ العَاقِبَةُ لِلتَّقْوى)[11] ، و في قوله: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[12].
و في النهاية يمكننا أن نلخص معطيات الابتلاء الإلهي و ثماره بما يلي:
أولا- ظهور المواهب و الاستعدادات الكامنة في النفس البشرية، وكذلك إيجاد روح المقاومة و التحدّي: يقول الإمام علي (ع): "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال"[13] ، و روي عن الإمام الرضا (ع) قوله: "إنّ الناس يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب"[14].
فالفتنة هي استخلاص الذهب و تصفيته[15] و ذلك من خلال عرضه على النار، و كذلك جوهر الإنسان إنما هو كالذهب يريد أن يستخلصه الله سبحانه من خلال عرضه على نار الشهوة و الغضب و ... ، و عليه فلا بد من القول أن الامتحان هو وسيلة هدفها تكامل الإنسان و تنمية قدراته و تربية ملكاته.
يقول الشاعر الفارسي ما مضمونه:
متى يكون الرجل تاماً دون أن يواجه الصعاب
و متى يفوح الزهر بعطره من دون أنْ تمسه الريح و المطر
وقول الآخر:
يُخَاطِبني السَّفيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ فأكرهُ أن أكونَ له مجيبا
يزيدُ سفاهة ً فأزيدُ حلماً كعودٍ زادهُ الإحراقُ طيبا
فالجنود يتلقون في هذه الأيام التدريبات الشاقة و ذلك لرفع كفاءتهم العسكرية و الجسدية، و أما الابتلاء الإلهي فهو نوع تمرين و تدريب من أجل رفع مستوى التقوى الروحية و المعنوية في داخل النفس البشرية، يقول الإمام علي(ع): "و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب".[16]
و هذه الطريقة هي أفضل وسيلة لمعرفة الإنسان من خلال استعداداته و قابلياته و سعيه في سبيل انضاج هذه الكوامن المودعة في نفسه. و بذلك تكون الحجّة تامّة على الإنسان، و ليس بمقدوره أن يدعي يوم القيامة بأنّه يستحق أكثر مما أعطي من الثواب.
ثانيا- إزالة الغفلة: لم يقتصر الابتلاء الإلهي للإنسان على المصائب و النوائب والمنغصات و إنما في بعض الأحيان تكون النعمة و تمامها و القدرة و أسبابها و السلامة و دوامها و .... هي أنواع الابتلاء و الامتحان.[17] و إن هذه النعم تشكل عامل غرور للإنسان في بعض الأحيان حتى تكون من أسباب هلاكه و عوامل نهايته و نهاية غيره، و من أجل نجاة هذا الإنسان قد يبتليه ربّه بأحداث و مصائب و نوائب ليوقظه حتى يعرف طريق نجاته و يتجنب طريق هلاكه، و بذلك يوقن أن جميع ما في الوجود من نعم هي من الله سبحانه فلا يغفل عن ربه و لا يقع في وحل الذنوب فيغرق فيه.
فبعض المصائب أشبه بما يوضع في الطرقات من منبهات و تعرجات تقطع رتابة الطريق لتعيد السائق إلى وعيه و تجنبه الانحراف عن الطريق و السقوط في الأودية.
و قد اشارت بعض الآيات القرآنية[18] إلى الهدف التربوي للامتحان و الابتلاء الإلهي بعبارات متعددة، فتارة يكون الهدف هو (التذكر) و تارة (التضرع) و في بعض الموارد عبرت الآيات (بالرجوع) و ذلك أن الرجوع إلى الله سبحانه له عدّة مراتب و أوّل هذه المراتب هو (التذكر) و من ثم التضرّع إلى الله تعالى، و في ذلك يكون الإنسان قد أصلح طريقه عملياً و عاد إلى الله سبحانه و تعالى.[19]
يقول الإمام علي(ع) في هذا المضمار و في معرض بيان هذه اللطيفة القرآنية: "إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات، ليتوبَ تائبٌ، و يُقلعَ مُقلِعٌ، و يَتذكَّر مُتذكِّرٌ، و يزدَجِر مُزدَجِر".[20]
و بهذا الإيضاح يكون الغرض و الهدف من الابتلاء الإلهي قد تجلّى و ظهر، و قد تبين أن الابتلاء لا علاقة له بعلم الله و معرفته بأحوال البشر، و إنما من أجل أن يتمكن الإنسان من إظهار استعداداته و قابلياته من عالم القوّة إلى عالم الفعل.
نعم، هناك طائفة من البلايا و المصائب منشأها عناد الانسان و تمرّده على القوانين الإلهية الغرض منها اعادته إلى جادة الصواب و طريق الحق، و لاريب أن هذه النوع لا يمكن تصوّره في الأنبياء و الصالحين لمكانته الايمانية و التزامهم بشريعة السماء.
أنواع الابتلاء الدنيوي
ثم هناك طائفة من أنواع الإبتلاءات الدنيوية، من قبيل:
الف: عذاب مؤقت للتضرع، و يراد منه رجوع الانسان إلى طريق الصواب، و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى " وَ ما أَرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون".[21]
ب. عذاب الاستدراج: و هذا النوع من العذاب يخصّ مَنْ تمادى في غيّه و عناده وركبه الغرور و الاستكبار " وَ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون"[22] و قد أكدت هذه الحقيقة الآيات المباركة " فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حينٍ * أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ".[23]
ج. عذاب الاستئصال: حينما يصل الانسان الذروة في الغرور و التعالي و التمرّد على القيم الإلهية تأتي النوبة لعذاب الاستئصال " فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ ريحاً صَرْصَراً في أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُون".[24]
و لاريب أنّ النوع الأوّل من الابتلاء و العذاب لا يخرج عن كونه نعمة ربانيّة تعيد للانسان رشده و تحذره من الانزلاق في مهاوي الرذيلة و الانحراف و توفر له إمكانية الإنابة و العودة إلى الله و غفران الذنوب و تبديل السيئات بالحسنات و في نهاية المطاف نجاته من الغضب الإلهي؛ فيما يكون الأمر على خلاف ذلك تماما في العذابين الثاني و الثالث لانتهائهما إلى هلاك الانسان و إن ظهر الثاني منهما بمظهر النعمة و الثروة الوفيرة.
و قد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة مهمة مؤداها أنّ الانسان يعرف حقيقة ذاته و يدرك ما هو عليه "بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقى مَعاذيرَه".[25] و هو الاعرف بنياته و مقاصده فيما إذا تجرّد عن العناد و أنصف في الحكم و ابتعد عن التذرّع بالباطل و القاء اللوم على الآخرين. فاذا تعرّض للبلاء و الاختبار فشكر ذلك و نظر إليه من باب الرحمة الالهية يكون حينئذ مصدقا لقوله تعالى " وَ الَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنينَ"[26] فاذا ما تمادى و لم يلتفت إلى تلك التحذيرات و المنبهات الإلهية فحينئذ يبتلى بالاستدراج و يترك إلى ذاته القاصرة و كيانه الضعيف ليسبح في غمار بحر متلاطم من النعم و الثروة التي تجرّه في نهاية المطاف إلى ما لا تحمد عقباه.
فالمتحصل أن الدنيا و زبرجها و جميع الحوادث الواقعة فيها هي بوتقة اختبار للانسان لتتكامل شخصيته و لترتقي روحياته و يدرك هويته الواقعية في هذا المعترك الكبير فيما إذا أحسن الاختيار و سار بموضوعية في تلك الطريق المتعرجة، و العكس صحيح.[27]
3. الابتلاء سنة إلهية
و قد أشارت الآية المباركة إلى هذه الحقيقة "أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ".[28] و هي صريحة في أن الإبتلاء و الاختبار سنّة الحياة و أنّ مجرّد إدعاء الإيمان لا يكفي ما لم تختبر مصداقية هذا الإدعاء بصورة عملية و تبرز كوامن الانسان الواقعية.
بل الملاحظ من آيات الذكر الحكيم أنّها تشير إلى نماذج من الإبتلاءات التي يتعرّض لها البشر في مسيرتهم الحياتية على المستويين الفردي و الجماعي و هي التي تشكل الهيكل العام للقصص القرآني كقصص الابتلاءات التي تعرّض لها الانبياء. نشير إلى نماذج منها:
3-1. المشاكل و الصعاب
إن الله يختبر عباده بالمشاكل و الصعاب، كما ورد ذلك في الآية المباركة "وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرينَ"[29] فالابتلاء كالبوتقة و الفرن الذي يذاب به الحديد للتخلص من الشوائب و لتظهر مدى صلابته و قدرته على تحمّل الظروف الطبيعية، و هكذا الانسان لا يظهر معدنه و مدى تحمله ما لم يختبر في أكثر من موضع و يعرّض لحرارة الاختبارات و الصهر الامتحاني ليخرج منها نقيا من الشوائب التي تعيق حركته التكاملية.[30]
3-2. الخير و الشر
صريح القرآن الكريم بأنّ الاختبار لا يكون في المحن و المصاعب و الشرور فقط بل قد يكون الاختبار من خلال تعرض الانسان للنعم الالهية "وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُون"[31]
فالامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن اللّه عبده بالخير و بوفور النعمة، كما يقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان: "هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ"[32] و[33]
3-3. الاختبار بالاولاد و الذرية
و هذا ما تقرّه الآية المباركة "وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيم".[34]
3-4. الايمان و الكفر
قال تعالى في معرض الاشارة إلى خزنة جهنم و الفلسفة من وراء ذلك "وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ".[35]
3- 5. زينة الدنيا
قال تعالى: " إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا".[36]
و هنا قد يرد السؤال الآتي: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يتعرّض الأنبياء و الأئمة و الأولياء إلى الابتلاء؟.
قد تقدم أن هذه السنة الإلهية هي سنة عامة و شاملة لا تستثني أحداً هذا أولاً. و ثانياً إن البلاء له غايات متعددة، أشار إليها الحديث المروي عن الإمام علي(ع) حيث قال: "إن البلاء للظالم أدب، و للمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، و للأولياء كرامة".[37] فالأنبياء يبتلون لتزداد درجاتهم.[38]
فالمتحصل أن المؤمن إذا تعرّض للاختبار في حياته فلابد أن يتلقى ذلك برحابة صدر معتبراً ذلك رحمة ربانية تداركته ليصحح ما فات أو ليرتقي بنفسه إلى درجة الكمال التي يسعد بها في عالم الآخرة فضلا عن السمعة الحسنة التي يحظى بها في أوساط المؤمنين و الصالحين من عباد الله، و من أبرز نماذج الابتلاء التي تعرضها لها المؤمنون المسلمون البلاء العظيم الذي تعرض له الإمام الحسين عليه السلام و الذي كان يزداد نوراً و إشراقاً حتى قال بعضهم: وقفتُ عليه و إنّه لَيَجود بنفسه، فوالله ما رأيتُ قَتيلاً مُضمّخاً بدمِهِ أحْسَنَ منه ولا أَنْوَر وجهاً، و لقد شلغني نور وجهه و جمال هيئته عن الفِكْرة في قتله.
التوكّل يعني: اعتماد العبد و إطمئنانه القلبي على الله تعالى في جميع شؤون حياته و إيكال جميع شؤونه إليه و الاستعانة بحول الله و قوته.[1]
و قد روي عن النبي الأكرم (ص) أنّه قال: سألت جبرئيل ما التوكّل على الله عزّوجلّ؟ فقال: العلم بانّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، و لا يعطي و لا يمنع، و استعمال اليأس من الخلق، فاذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله، و لم يرج و لم يخف سوى الله، و لم يطمع في أحد سوى الله، فهذا هو التوكّل.[2]
و لا تتم هذه الخصلة الحميدة في الإنسان إلا إذا أذعن بأنّ جميع ما يقوم به من أعمال و حركات و....هي من الله تعالى وحده، و لا مؤثر سواه سبحانه في تحقيق ذلك، و أنّه لا حول و لاقوّة إلا من الله تعالى، فاذا آمن بذلك و ترسخت تلك العقيدة في أعماق كيانه حينئذ يهيمن التوكّل على كافة وجوده و يملأ شآبيب قلبه و أحاسيسه.[3] و هذه هي أرفع درجات التوكّل التي تليها مراتب متدنية أخرى حسب مراتب الإيمان و عمق الشخصية.
و قد أكدت الآيات القرآنية و الأحاديث المنقولة عن المعصومين عليهم السلام على أهمية التوكّل و مكانته الرفيعة في تكامل الانسان في حركته التصاعدية نحو الباري عزّ وجل، من قبيل:
- قول تعالى: " وَ عَلىَ اللَّهِ فَتَوَكلَُّواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ".[4]
- وقوله عزّ شأنه: " إِنَّ اللَّهَ يحُِبُّ المتوكّلين".[5]
- وجاء في سور الطلاق: " وَ مَن يَتَوَكلَْ عَلىَ اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ"[6]
- روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: " َ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ".[7] و عن أمير المؤمنين عليه السلام: " التوكّل على الله نجاة من كلّ سوء، و حرز من كلّ عدو".[8] إلى غير ذلك من القبسات النورانية التي تبين مدى قيمة التوكّل و مكانته في الحياة الإيمانية.[9] إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحول التكاسل و إيكال الأمور إلى الله تعالى بلا سعي من العبد و استعمال لقوانين الحياة و سننها. و لا يعني أيضاً أن العبد المتوكّل سيكون في حرز أمين بحيث لا يواجه أيّ مشكلة من مشاكل الحياة.
2. طبيعة الانسان الغرور و التعالي
من الواضح أنّ طبيعة الانسان تميل نحو الغرور و التكبّر فيما إذا لم تعترض مسيرته المشاكل و سارت حياته بانسيابية كاملة، و تم له جميع ما يريد، و قد ينجر به الأمر في نهاية المطاف إلى الاستكبار و التعالي غافلاّ عمّا تؤول إليه حركته هذه. و من هنا إقتضت الحكمة الإلهية – صيانة للعبد من الوقوع في تلك المعضلة- بأن تتعرض مسيرته الحياتية لمجموعة من المشاكل و المعوقات و الاحساس بالضعف و العجز في مقابل الكثير من القضايا و الكوارث التي تواجهه كالامراض و فقدان بعض أعضاء البدن و الموت و الفقر و التعرّض للحوادث الطبيعية كالسيول و الاعاصير و الزلازل و... و من جهة أخرى ركّب وجوده بطريقة يتصارع فيها العقل و الشهوة من جهة و بين وساوس الشيطان و سبل الهداية و الرشاد التي أنارت له الطريق، كل ذلك لأجل السير بموضوعية و عقلانية في هذه الطريق الشائكة و ليحصل على تكامله الروحي و النفساني و الجسدي بطريقة طبيعية و ليحصل بنفسه على مرامه الأسمى و غايته التي خلق من أجلها إنطلاقاً من المشيئة الإلهية التي أرادت للانسان التحرّك بإرادة و إختيار منه.
من هنا يمكن القول: إن عالم الوجود بكل أبعاده و نعمه هو ساحة للاختبار و الإبتلاء، و عامل فاعل من عوامل تكامل الانسان و رقيه المعنوي على المستويين الدنيوي و الآخروي، و إلا استحال تطوّره و رقيه.و من الطبيعية هنا أن يكون نصيب أولياء الله هو الأوفر من هذه البلايا و الاختبارات؛ و ذلك لطبيعة الهدف الذي يرومون الوصول إليه و طبيعة الاستعداد الروحي العالية التي يتحلون بها في التعامل مع الشرور و البلايا بصورة موضوعية. و من هنا كان الأنبياء و الصالحون في قمّة الهرم من هذه الزاوية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الامتحان الإلهي في الآية 140 و 141 من سورة آل عمران و أوجز الهدف منه بقوله تعالى: (وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
و بهذا يكون الابتلاء تلو الابتلاء مظهراً للإيمان و للفضائل و ماحقاً للكفر و النفاق.[10]
و هناك محق آخر بالنسبة للكفار أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وَ العَاقِبَةُ لِلتَّقْوى)[11] ، و في قوله: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[12].
و في النهاية يمكننا أن نلخص معطيات الابتلاء الإلهي و ثماره بما يلي:
أولا- ظهور المواهب و الاستعدادات الكامنة في النفس البشرية، وكذلك إيجاد روح المقاومة و التحدّي: يقول الإمام علي (ع): "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال"[13] ، و روي عن الإمام الرضا (ع) قوله: "إنّ الناس يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال: يخلصون كما يخلص الذهب"[14].
فالفتنة هي استخلاص الذهب و تصفيته[15] و ذلك من خلال عرضه على النار، و كذلك جوهر الإنسان إنما هو كالذهب يريد أن يستخلصه الله سبحانه من خلال عرضه على نار الشهوة و الغضب و ... ، و عليه فلا بد من القول أن الامتحان هو وسيلة هدفها تكامل الإنسان و تنمية قدراته و تربية ملكاته.
يقول الشاعر الفارسي ما مضمونه:
متى يكون الرجل تاماً دون أن يواجه الصعاب
و متى يفوح الزهر بعطره من دون أنْ تمسه الريح و المطر
وقول الآخر:
يُخَاطِبني السَّفيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ فأكرهُ أن أكونَ له مجيبا
يزيدُ سفاهة ً فأزيدُ حلماً كعودٍ زادهُ الإحراقُ طيبا
فالجنود يتلقون في هذه الأيام التدريبات الشاقة و ذلك لرفع كفاءتهم العسكرية و الجسدية، و أما الابتلاء الإلهي فهو نوع تمرين و تدريب من أجل رفع مستوى التقوى الروحية و المعنوية في داخل النفس البشرية، يقول الإمام علي(ع): "و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب".[16]
و هذه الطريقة هي أفضل وسيلة لمعرفة الإنسان من خلال استعداداته و قابلياته و سعيه في سبيل انضاج هذه الكوامن المودعة في نفسه. و بذلك تكون الحجّة تامّة على الإنسان، و ليس بمقدوره أن يدعي يوم القيامة بأنّه يستحق أكثر مما أعطي من الثواب.
ثانيا- إزالة الغفلة: لم يقتصر الابتلاء الإلهي للإنسان على المصائب و النوائب والمنغصات و إنما في بعض الأحيان تكون النعمة و تمامها و القدرة و أسبابها و السلامة و دوامها و .... هي أنواع الابتلاء و الامتحان.[17] و إن هذه النعم تشكل عامل غرور للإنسان في بعض الأحيان حتى تكون من أسباب هلاكه و عوامل نهايته و نهاية غيره، و من أجل نجاة هذا الإنسان قد يبتليه ربّه بأحداث و مصائب و نوائب ليوقظه حتى يعرف طريق نجاته و يتجنب طريق هلاكه، و بذلك يوقن أن جميع ما في الوجود من نعم هي من الله سبحانه فلا يغفل عن ربه و لا يقع في وحل الذنوب فيغرق فيه.
فبعض المصائب أشبه بما يوضع في الطرقات من منبهات و تعرجات تقطع رتابة الطريق لتعيد السائق إلى وعيه و تجنبه الانحراف عن الطريق و السقوط في الأودية.
و قد اشارت بعض الآيات القرآنية[18] إلى الهدف التربوي للامتحان و الابتلاء الإلهي بعبارات متعددة، فتارة يكون الهدف هو (التذكر) و تارة (التضرع) و في بعض الموارد عبرت الآيات (بالرجوع) و ذلك أن الرجوع إلى الله سبحانه له عدّة مراتب و أوّل هذه المراتب هو (التذكر) و من ثم التضرّع إلى الله تعالى، و في ذلك يكون الإنسان قد أصلح طريقه عملياً و عاد إلى الله سبحانه و تعالى.[19]
يقول الإمام علي(ع) في هذا المضمار و في معرض بيان هذه اللطيفة القرآنية: "إن الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات و حبس البركات، و إغلاق خزائن الخيرات، ليتوبَ تائبٌ، و يُقلعَ مُقلِعٌ، و يَتذكَّر مُتذكِّرٌ، و يزدَجِر مُزدَجِر".[20]
و بهذا الإيضاح يكون الغرض و الهدف من الابتلاء الإلهي قد تجلّى و ظهر، و قد تبين أن الابتلاء لا علاقة له بعلم الله و معرفته بأحوال البشر، و إنما من أجل أن يتمكن الإنسان من إظهار استعداداته و قابلياته من عالم القوّة إلى عالم الفعل.
نعم، هناك طائفة من البلايا و المصائب منشأها عناد الانسان و تمرّده على القوانين الإلهية الغرض منها اعادته إلى جادة الصواب و طريق الحق، و لاريب أن هذه النوع لا يمكن تصوّره في الأنبياء و الصالحين لمكانته الايمانية و التزامهم بشريعة السماء.
أنواع الابتلاء الدنيوي
ثم هناك طائفة من أنواع الإبتلاءات الدنيوية، من قبيل:
الف: عذاب مؤقت للتضرع، و يراد منه رجوع الانسان إلى طريق الصواب، و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى " وَ ما أَرْسَلْنا في قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُون".[21]
ب. عذاب الاستدراج: و هذا النوع من العذاب يخصّ مَنْ تمادى في غيّه و عناده وركبه الغرور و الاستكبار " وَ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون"[22] و قد أكدت هذه الحقيقة الآيات المباركة " فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حينٍ * أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ".[23]
ج. عذاب الاستئصال: حينما يصل الانسان الذروة في الغرور و التعالي و التمرّد على القيم الإلهية تأتي النوبة لعذاب الاستئصال " فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ ريحاً صَرْصَراً في أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُون".[24]
و لاريب أنّ النوع الأوّل من الابتلاء و العذاب لا يخرج عن كونه نعمة ربانيّة تعيد للانسان رشده و تحذره من الانزلاق في مهاوي الرذيلة و الانحراف و توفر له إمكانية الإنابة و العودة إلى الله و غفران الذنوب و تبديل السيئات بالحسنات و في نهاية المطاف نجاته من الغضب الإلهي؛ فيما يكون الأمر على خلاف ذلك تماما في العذابين الثاني و الثالث لانتهائهما إلى هلاك الانسان و إن ظهر الثاني منهما بمظهر النعمة و الثروة الوفيرة.
و قد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة مهمة مؤداها أنّ الانسان يعرف حقيقة ذاته و يدرك ما هو عليه "بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ * وَ لَوْ أَلْقى مَعاذيرَه".[25] و هو الاعرف بنياته و مقاصده فيما إذا تجرّد عن العناد و أنصف في الحكم و ابتعد عن التذرّع بالباطل و القاء اللوم على الآخرين. فاذا تعرّض للبلاء و الاختبار فشكر ذلك و نظر إليه من باب الرحمة الالهية يكون حينئذ مصدقا لقوله تعالى " وَ الَّذينَ جاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنينَ"[26] فاذا ما تمادى و لم يلتفت إلى تلك التحذيرات و المنبهات الإلهية فحينئذ يبتلى بالاستدراج و يترك إلى ذاته القاصرة و كيانه الضعيف ليسبح في غمار بحر متلاطم من النعم و الثروة التي تجرّه في نهاية المطاف إلى ما لا تحمد عقباه.
فالمتحصل أن الدنيا و زبرجها و جميع الحوادث الواقعة فيها هي بوتقة اختبار للانسان لتتكامل شخصيته و لترتقي روحياته و يدرك هويته الواقعية في هذا المعترك الكبير فيما إذا أحسن الاختيار و سار بموضوعية في تلك الطريق المتعرجة، و العكس صحيح.[27]
3. الابتلاء سنة إلهية
و قد أشارت الآية المباركة إلى هذه الحقيقة "أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ".[28] و هي صريحة في أن الإبتلاء و الاختبار سنّة الحياة و أنّ مجرّد إدعاء الإيمان لا يكفي ما لم تختبر مصداقية هذا الإدعاء بصورة عملية و تبرز كوامن الانسان الواقعية.
بل الملاحظ من آيات الذكر الحكيم أنّها تشير إلى نماذج من الإبتلاءات التي يتعرّض لها البشر في مسيرتهم الحياتية على المستويين الفردي و الجماعي و هي التي تشكل الهيكل العام للقصص القرآني كقصص الابتلاءات التي تعرّض لها الانبياء. نشير إلى نماذج منها:
3-1. المشاكل و الصعاب
إن الله يختبر عباده بالمشاكل و الصعاب، كما ورد ذلك في الآية المباركة "وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرينَ"[29] فالابتلاء كالبوتقة و الفرن الذي يذاب به الحديد للتخلص من الشوائب و لتظهر مدى صلابته و قدرته على تحمّل الظروف الطبيعية، و هكذا الانسان لا يظهر معدنه و مدى تحمله ما لم يختبر في أكثر من موضع و يعرّض لحرارة الاختبارات و الصهر الامتحاني ليخرج منها نقيا من الشوائب التي تعيق حركته التكاملية.[30]
3-2. الخير و الشر
صريح القرآن الكريم بأنّ الاختبار لا يكون في المحن و المصاعب و الشرور فقط بل قد يكون الاختبار من خلال تعرض الانسان للنعم الالهية "وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُون"[31]
فالامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب، بل قد يمتحن اللّه عبده بالخير و بوفور النعمة، كما يقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان: "هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ"[32] و[33]
3-3. الاختبار بالاولاد و الذرية
و هذا ما تقرّه الآية المباركة "وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظيم".[34]
3-4. الايمان و الكفر
قال تعالى في معرض الاشارة إلى خزنة جهنم و الفلسفة من وراء ذلك "وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ".[35]
3- 5. زينة الدنيا
قال تعالى: " إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا".[36]
و هنا قد يرد السؤال الآتي: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يتعرّض الأنبياء و الأئمة و الأولياء إلى الابتلاء؟.
قد تقدم أن هذه السنة الإلهية هي سنة عامة و شاملة لا تستثني أحداً هذا أولاً. و ثانياً إن البلاء له غايات متعددة، أشار إليها الحديث المروي عن الإمام علي(ع) حيث قال: "إن البلاء للظالم أدب، و للمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، و للأولياء كرامة".[37] فالأنبياء يبتلون لتزداد درجاتهم.[38]
فالمتحصل أن المؤمن إذا تعرّض للاختبار في حياته فلابد أن يتلقى ذلك برحابة صدر معتبراً ذلك رحمة ربانية تداركته ليصحح ما فات أو ليرتقي بنفسه إلى درجة الكمال التي يسعد بها في عالم الآخرة فضلا عن السمعة الحسنة التي يحظى بها في أوساط المؤمنين و الصالحين من عباد الله، و من أبرز نماذج الابتلاء التي تعرضها لها المؤمنون المسلمون البلاء العظيم الذي تعرض له الإمام الحسين عليه السلام و الذي كان يزداد نوراً و إشراقاً حتى قال بعضهم: وقفتُ عليه و إنّه لَيَجود بنفسه، فوالله ما رأيتُ قَتيلاً مُضمّخاً بدمِهِ أحْسَنَ منه ولا أَنْوَر وجهاً، و لقد شلغني نور وجهه و جمال هيئته عن الفِكْرة في قتله.
[1]. المولى أحمد النراقي ، معراج السعاده ، ص 758 ، انتشارات هجرة، الطبعة الثامنة ، قم، 1381 شمسي .
[2]. معاني الأخبار، ص 261 ضمن حديث 1 ـ عنه البحار 71 : 138 ح 23 باب 63.
[3]. المولى أحمد النراقي ، معراج السعاده ، ص 758 ، انتشارات هجرة، الطبعة الثامنة ، قم، 1381 شمسي ، بتصرف .
[4]. المائدة، 23.
[5] أل عمران، 159.
[6] الطلاق،3.
[7] مستدرك وسائل الشيعة، ج11، ص217، 12785- 7.
[8]. منتخب میزان الحکمه ، إعداد: السید حمید الحسیني، باب التوکّل، مؤسسة دار الحدیث، 1385ش.
[10] انظر: الميزان، ج16 ص 100، ج9 ص 124، ج4 ص 30-36؛ ترجمة الميزان: ج4 ص44 – 55؛ و تفسير موضوعي قرآن "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لآية الله جوادي آملي: ج4 ص 267 – 284.
[11] طه: 132.
[12] الأنبياء: 105.
[13] نهج البلاغة، قصار الحكم 217.
[14] أصول الكافي، ترجمة، السيد جواد المصطفوي، ج2 ص 196.
[15] أقرب الموارد: ج2 ص 901 – 902؛ مفردات الراغب: 371.
[16] نهج البلاغة، قصار الحكم، 93.
[17] انظر: جوادي آملي: عبد الله، تفسير موضوعي قرآن "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم"، ج4 ص 267-286.
[18] الأعراف: 94 ، الروم: 41؛ السجدة: 21.
[19] انظر: پيام قرآن" رسالة القرآن"، ج4 ص 470 – 475.
[20] نهج البلاغة، خطبة: 143 .
[21] الاعراف،94.
[22] الاعراف، 182.
[23] المؤمنون، 54-56.
[24] فصلت، 16.
[25] القيامة، 14-15.
[26] العنكبوت، 69.
[28]. العنكبوت، 2-3.
[29]. البقرة، 155
[31]. الأنبياء، 35.
[32]. النمل، 40.
[33]. مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص: 447، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، قم، الطبعة الأولى، 1421ق.
[34]. الانفال، 28.
[35]. المدثر، 31.
[36]. الكهف، 7.
[37] بحار الأنوار: ج4 ص 235، ح 54.
س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات