Please Wait
6001
نقل کلام الإمام علی (ع) فی بعض المصادر الشیعیة فی مورد استقبال دهاقین مدینة الأنبار للإمام، و قد استفاد البعض من الروایة لوضع مسألة استقبال المسؤولین تحت طائلة التساؤل، و لکن ما ذکر فی الروایة لا ینفی أصل الاستقبال الذی کان سنّة عند المسلمین. و إنما کان نهی الإمام متوجهاً للطریقة و للعلة و الهدف الذی من أجله استقبله هؤلاء الدهاقین.
نقل کلام الإمام علی (ع) فی مصادر الشیعة الروائیة یعترض على سلوک دهاقین الأنبار الذین هرعوا لاستقباله و قد حفوا راکضین بجانبه و هو راکب. و لکن الإمام نهاهم عن هذا العمل، مؤکداً لهم عدم جدوائیة ذلک الفعل و أنه لاتعود منه فائدة للحکام[1].
و قد شبه البعض هذه الحادثة بما یحدث الیوم فی استقبال المسؤولین و الشخصیات، و لذلک انتقد مثل هذه المظاهر. و من أجل إیضاح المسألة فی هذه المقالة سوف نبحث جذور القضیة التاریخیة و الدینیة و بعد ذلک نعالج جانباً من کلام الإمام علی (ع) الذی قاله بخصوص قضیة استقبال دهاقین الأنبار له.
و فی بدایة الکلام لا بد أن نعرف هل یوجد رسم أو سنّة باسم الاستقبال بین المسلمین أم لا؟ و کذلک ما هو موقف النصوص الدینیة من هذه المسألة، و بعد الإجابة عن هذین السؤالین سوف نتعرض للشبهة التی تثار بخصوص استقبال بعض المسؤولین فی الحکومة.
بعد البحث فی بعض مصادر الحدیث و الروایة نجد فی بعض هذه الروایات و الأخبار کلاماً یتعلق بآداب الاستقبال و التودیع، و دلالة هذه الروایات لا تفتقر على عدم الممنوعیة و حسب، و لکن راجحیة هذا الأمر مشهود و واضح فیها[2]. و کذلک تتجلى سنة الاستقبال فی المجتمع بأقل مراجعة للتاریخ الإسلامی فی زمن الرسول (ص) و أئمة الشیعة (ع). و فی هذا الإطار یمکن الإشارة إلى استقبال المسلمین للنبی الأکرم (ص) و للأئمة (ع) و هذا العمل لم یقع مورداً للمنع و لا للتوبیخ من قبل النبی و الأئمة و الأکثر من ذلک أن النبی (ص) قام به فی بعض المناسبات.
و لتأیید هذا الکلام نشیر إلى بعض النماذج:
1ـ استقبال الرسول (ص) لجعفر بن أبی طالب.
روی عن الإمام الحسن العسکری (ع) أن النبی (ص) استقبل جعفر بن أبی طالب حین عودته من الحبشة و مشى فی استقباله اثنی عشر خطوة، ثم احتضنه و قبله و بکى فرحاً بلقائه[3].
2ـ استقبال أهل المدینة لرسول الله (ص):
استقبل أهل المدینة رسول الله (ص) عدّة مرات، و من جملة هذه الموارد یمکن الإشارة إلى مجریات استقبالهم له یوم وصوله إلى المدینة مهاجراً من مکة. و بحسب نقل الکثیر من المؤرخین أن أهل المدینة کانوا ینتظرون النبی (ص) فی الشوارع و على سطوح المنازل لساعات طویلة، و لم یقتصر الأمر على الرجال و حسب، و إنما خرج الأطفال و النساء إلى جانب الرجال، و عندما أطل شخص الرسول (ص) من ثنیات الوداع استقبله المسلمون بالأهازیج و الأشعار[4].
3ـ استقبال أهل الکوفة للإمام علی (ع):
عندنا عاد الإمام علی (ع) إلى الکوفة منتصراً من حرب الجمل فی 12 رجب عام 36 هـ خرج قراء الکوفة و أشرافها لاستقباله فدخل المدینة و قد هنأه أهلها بالنصر على الأعداء و رفعوا أیدیهم بالدعاء له[5].
4ـ استقبال أهل نیشابور للإمام الرضا (ع):
فی روایة عن أبی الصلت الهروی: عندما دخل الإمام الرضا (ع) مدینة نیشابور و علم أهلها بقدومه، حفوا استقباله و فی مقدمتهم علماء المدینة، و قد أمسکوا بزمام دابته و طلبوا منه أن یحدثهم بحدیث، فأخرج الإمام رأسه من المحمل و قرأ علیهم حدیثاً[6].
و فی طیات الحدیث لا بد من القول أن خطاب الإمام علی (ع) لدهاقین الکوفة من قبیل التوصیة الأخلاقیة و التأکید على القیم، کما أن دراسة الحادثة و ظروفها بدقة و من زوایا مختلفة سوف یساعدنا على فهم و تحلیل هذه الواقعة و الأسباب التی أدت إلى ردود فعل الإمام إزائها.
أول ما یطرح فی هذه الحادثة حضور الدهاقین لاستقبال الإمام (ع)، و الدهقان فی عرف ذلک الزمان له معنىً یختلف عن المعنى المتداول فی هذه الأیام فی تصنیف الطبقات الإجتماعیة، حیث کان یطلق على طبقة خاصة من الناس کالتجار[7]، أو ملاک الأرض و القرى[8].
الأمر الثانی الذی یلزم التدقیق فیه طریقة الاستقبال التی وقعت مورداً لتوبیخ الإمام و نهیه، و هی طریقة خاصة فی الاستقبال و هذه الطریقة تتضمن استقبال الماشی للراکب و الرکض إلى جانبه.
و الأمر الثالث القابل للتأمل هو ما ذکره الدهاقین أنفسهم حیث قالوا أن هذا الاستقبال على أساس الأعراف الإجتماعیة الموروثة عن الطبقات التی کانت موجودة فی المجتمع الإیرانی قبل الإسلام[9].
و بالتوجه إلى النقاط المتقدمة یتضح أن کلام الإمام ینطوی على رسائل عدة یمکن الإشارة إلى بعضها.
1ـ محاربة الأعراف و الرسوم المترسبة من الثقافات السابقة للإسلام، و هذه الرسوم کانت تعتمد على تصنیف الطبقات الإجتماعیة قبل مجیئ الإسلام. و من خصائص هذه الرسوم أنها تعطی شأناً کبیراً للحکام و تلزم الطبقات الدنیا من المجتمع على إظهار التعظیم و التبجیل للحاکم (سواء کان ظالماً أو عادلاً)[10]، فی حین جاء الإسلام لمحاربة الطبقیة فی المجتمع و جعل الناس سواسیة بغض النظر عن انتمائهم القومی أو ألوانهم و أماکن تواجدهم، و جعل الإیمان و التقوى الملاک الأساسی للتفاضل بین الناس[11].
و قد أخرج الإسلام و القرآن المجتمعَ الإسلامی من ظلمات الجهل و أوجد بیئةً منزهةً عن التشریفات التی کانت سائدة فی بلاد فارس و بلاد الروم. و الإمام علی (ع) نشأ فی هذه البیئة و ترعرع فی هذا المحیط، و عندما توجه إلى حرب صفین لمقابلة معاویة أراد أن یلقی درساً أخلاقیاً و قیمیاً من القرآن و السنّة على دهاقین الکوفة لیجنبهم ممارسة السلوکیات الخاطئة التی التزموا بها من خارج تعالیم الإسلام و التی لا تعود بالنفع لا على الحکام و لا علیهم أنفسهم[12].
2ـ تجنب احتمال سوء الاستفادة:
قال ابن أبی الحدید فی شرح کلام الامام (ع): اشتدوا بین یدیه أسرعوا شیئا فنهاهم عن ذلک و قال إنکم تشقون به على أنفسکم لما فیه من تعب الأبدان و تشقون به فی آخرتکم تخضعون للولاة کما زعمتم أنه خلق و عادة لکم خضوعا تطلبون به الدنیا و المنافع العاجلة فیها و کل خضوع و تذلل لغیر الله فهو معصیة. ثم ذکر أن الخسران المبین مشقة عاجلة یتبعها عقاب الآخرة و الربح البین دعة عاجلة یتبعها الأمان من النار[13].
و قد حمل البعض نهی الإمام علی وقوفه و علمه بأهداف و أغراض الدهاقین فی ظل هذا الاستقبال و منهم صاحب البحار حیث قال: لعله لکون غرضهم التسلط على الناس و الجور علیهم للتقرب عند الإمام و إظهاره عند الناس أو یکون غرضه ع تعلیمهم و نهیهم عن فعل ذلک مع غیره ع من أئمة الجور.[14]
و عندما ندرس سیرة الإمام (ع) عندما تسلم منصب الخلافة نواجه العدید من الحوادث و الوقائع التی تحکی مدى حذر الإمام و مراقبته لاحتمال استغلال البعض للقرب منه و إساءة الاستفادة من ذلک و من جملة ذلک ما ینقل من أن أحد دهاقین العراق أهدى ثوبین للإمامین الحسن و الحسین (ع)، و عندما سأل الإمام عن طبیعة هذین الثوبین: أجابه الحسن و الحسین (ع): إن دهقاناً من دهاقین العراق أهداهما لنا، فأخذ الإمام (ع) الثوبین و وضعهما فی بیت المال.[15].
و هذه المراقبة و الحذر کثیراً ما تشاهد فی سیرة الإمام (ع) خلال مدة خلافته.
3ـ التعلیم و التربیة: یرى لبعض أن کلام الإمام و خطابه للدهاقین یحمل بعداً تعلیمیاً و تربویاً یهدف إلى منع الدهاقین من ممارسة هذا السلوک مع حکام الجور کمعاویة و خلفائه[16].
و محصلة الأمر بعد أن تبین عدم ممنوعیة الاستقبال فی نظر الشرع، بل کونه أمراً مسنوناً فی صدر الإسلام، فلا بد من القول أن استقبال الناس لبعض الشخصیات الحکومیة قابل للإیضاح من عدة وجوه:
1ـ على أساس النظرة المعتمدة على المصادر الروائیة یجب القول: إن القیادة فی الإسلام تحظى بموقع معنوی إضافة إلى الموقع السیاسی. و إن الموقع و المکانة المعنویة للأشخاص تکون سبباً و باعثاً لتکریمهم و الاحتفاء بهم على طول التاریخ. و لدینا روایات شیعیة تؤکد على أن النظر فی وجه العالم و الحضور فی مجلسه یعد عبادةً. و بذلک فإن الذهاب للقاء علماء الدین و ملاقاتهم و استقبالهم، ما یشبه ذلک من الأعراف التی تعد تکریماً لهم ـ کالقیام لتعظیمهم فی المجالس ـ مع ما فی ذلک من مشقة إلا أنه یعد عبادة فی لسان الروایات الواردة فی مصادرنا[17].
2ـ ورد فی الروایات کلام فیما یخص تکریم النبی (ص) والأئمة (ع) و ما ینسب إلیهم، و هذا الانتساب یشمل المشاهد المشرفة و الذریة و لذلک الأشخاص الذین یحملون علومهم[18]. و من المتیقن أن الفقهاء الذی یحملون علوم النبی و الأئمة من جملة المنسوبین لهم، و إن تکریمهم و تعظیمهم واجب على الأمة، کما أن استقبالهم و تودیعهم نوع تکریم لهم.
3ـ أما بلحاظ النظرة السیاسیة، فیمکن القول أن الظروف السیاسیة لکل عصر لها مقتضیاتها، ففی عصر تکثر فیه التهدیدات الخارجیة و الحرب على الدین و النظام الإسلامی فإن الحضور الجماهیری فی الساحة یظهر للأعداء مدى قوة النظام و تلاحم الجماهیر مع قیادتها الإسلامیة، و ذلک ما یجعل الأعداء ییأسون من التطاول على الإسلام و حکومته. لذلک فإن استقبال الشخصیات الإسلامیة، و خروج المظاهرات المؤیدة یعد من المناورات السیاسیة التی تحمل مجموعة من الرسائل التی توحی للأعداء المترصدین بالإسلام مدى تأیید و احتضان الجماهیر الإسلامیة و موقفها الداعم لقیادتها، و لذلک فمثل هذا الحضور و التواجد لا یحظى بعدم الممنوعیة و حسب، و إنما یعد تکلیفاً وواجباً فی بعض الظروف السیاسیة و المواقف التی تؤدی إلى تقویة النظام الإسلامی ومؤازرة رموزه و قیاداته.
4ـ و آخر مسألة یمکن أن تطرح و تذکر فی هذا المقام رکض المستقبلین و هرولتهم إلى جانب سیارات بعض المسؤولین.
بعد التوضیحات التی تقدمت بخصوص سلوک الدهاقین یتضح أن مسألة استقبال المسؤولین فی النظام الإسلامی لیست من قبیل استقبال الدهاقین للإمام (ع) و لا یوجد قانون یلزم الناس بذلک. و إن استقبال الناس للمسؤولین فی النظام الإسلامی قائم على أساس العلاقة العاطفیة الموجودة بینهم و بین الناس الذین انتخبوهم من بین أوساطهم لیؤدوا الخدمة فی هذا النظام. و علیه فإن ترکاض البعض إلى جانب سیارات بعض المسؤولین و الحرص على رؤیتهم وجهاً لوجه لا یمکن أن یعد من قبیل ما فعله الدهاقین مع الإمام (ع) المعتمد على أساس التفاوت الطبقی. فلا یمکن النظر للأمرین بنظرة واحدة حتى نضع هذا الاستقبال تحت طائلة السؤال. لأن مثل هذا الاستقبال یجری فی جمیع أرجاء الدنیا و بأشکال و صور مختلفة بما فی ذلک الوجوه البارزة فی عالم الریاضة و الفن و غیرها و المهم فی الأمر أن کرامة الإنسان تبقى مصونة و محفوظة و لا یمسها شیء من الإذلال و الإهانة، و لذلک لا یوجد أی إشکال فیما یخص إظهار العلاقة و العاطفة و الاحترام طبقاً للأعراف المرسومة.
و فی نهایة الکلام لا بد من القول: إن کلام الأئمة المعصومین (ع) و هدیهم هو المصباح الذی ینیر طریق الشیعة. و لکن فهم کلامهم و تعالیمهم المقترن فی بعض الأحیان بظروف معینة یحتاج إلى شیء من الدقة و التأمل، حتى نحصل على أتم الفائدة من هذا الکلام. و کذلک فإن قیاس بعض الحالات فی عصرنا الحاضر مع وقائع التاریخ یحتاج إلى الدقة و التأمل لتفاوت البیئة و الظروف السیاسیة و الاجتماعیة. و لذلک فقیاس استقبال أشخاص حقیقیین و حقوقیین مع واقعة تاریخیة و خاصة مع وجود مثل هذه الرسوم فی صدر الإسلام بین المسلمین مع اختلاف الظروف، أمر غیر منطقی.
[1]نهج البلاغة، ص 475، منشورات دار الهجرة، قم نسخة صبحی صالح.
[2] الحر العاملی، محمد بن حسن، وسائل الشیعة، ج12، ص227، مؤسسة آل البیت لإحیاء التراث، قم، الطبعة الأولى، 1409 ق.
[3]المصدر نفسه، ج12ن ص227 ق.
[4]ابن کثیر، البدایة و النهایة، ج3، ص197، بیروت، دار الفکر، 1407 ق.
[5]الکوفی، أحمد بن أعثم، الفتوح، ج2، ص491، بیروت، دار الأضواء، الطبعة الأولى، 1411 ق.
[6]الطوسی، محمد بن حسن، آمالی، ص589، منشورات دار الثقافة، قم، الطبعة الأولى، 1414 ق.
[7]لسان العرب، ج13، ص163، دهق.
[8]مجمع البحرین، ج5، ص164. دهق.
[9]نهج البلاغة، ص475.
[10]المصدر نفسه.
[11]الحجرات، 13.
[12]الخوئی، میرزا حبیب الله، منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة، ج21، ص70، المکتبة الإسلامیة، طهران، الطبعة الرابعة.
[13]ابن أبی الحدید، شرح نهج البلاغة، ج18، ص156، مکتبة آیة الله المرعشی النجفی، قم، الطبعة الأولى، 1378 ق.
[14]المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج32، ص397، مؤسسة الوفاء، بیروت، 1404 ق.
[15]المرعشی، قاضی نور الله، إحقاق الحق و إزهاق، ج32، ص264، مکتبة آیة الله المرعشی النجفی، قم، الطبعة الأولى، 1409 ق.
[16]أنصاریان، علی، شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار، ج3، ص343، مؤسسة الطباعة و النشر فی وزارة المعارف و الإرشاد الإسلامی، طهران، الطبعة الأولى، 1408 ق.
[17]الصدوق، محمد بن علی، من لا یحضره الفقیه، ج2، ص205، مؤسسة المنشورات الإسلامیة، قم، الطبعة الثالثة، 1413 ق؛ وسائل الشیعة، ج12، ص227.
[18]بحار الأنوار، ج24، ص185.