Please Wait
8429
لا تعارض بين هاتين الآيتين، إذ يعتقد بعض المفسرين أن الآيات التي ذكرت تبديل العصا إلى جان، فهي مرتبطة بأوائل نبوة موسى (ع) و التي لم يكمل فيها استعداد موسى لهذه المعجزة. و لهذا يصرح القرآن بأنه خاف من الجانّ و (وَلَّى مُدْبِراً و لَمْ يُعَقِّب) و عندما يذكر تبديلها إلى ثعبان، فذلك يرتبط بزمن إبلاغ الرسالة و لقائه بفرعون. فهذه الآيات لم تشر إلى حدث واحد ليعبّر عن الحية بتعبيرين مختلفين. و لا يخفى أن حتى لو كان هذين التعبيرين إشارة لحدث واحد، كذلك لم يكن تناقض. إذ يقول في آية بأنها أصبحت ثعبانا (فإذا هي ثعبان) و في الآية الأخرى يقول كأنها كانت حية صغيرة (كأنها جان) و العارفون باللغة العربية يدركون جيدا الاختلاف بين هذه التعبيرين و عدم التناقض بينهما.
"الجان" في اللغة بمعنى الحيات النحيفة و السريعة. و في مواطن أخرى يستخدم هذا اللفظ تعبيرا عن الكائن الخفي. و لهذا يطلق على الحيات الصغار جان. و سبب تسميتهم بهذا الاسم هو أنهم يتحركون بين الأعشاب و أخاديد الأرض من دون أن يراهم أحد. أما الثعبان فبمعنى الحيات الضخمة العملاقة. و قد جاء كلا التعبيرين في القرآن في مسار قصّ معجزة النبي موسى (ع).
و لعل في النظرة الأولى يبدو وجود تعارض بين وصف الحية بالثعبان و بين وصفها بالجان، و لهذا أعطى المفسرون بعض الحلول لدفع توهم التعارض. مثلا جاء في أحد التفاسير أن الآية 10 من سورة النمل و 31 من سورة القصص اللتان وصفتا العصا بالجان، تشير إلى أوائل بعثة موسى (ع) و الآيات التي جاءت بتعبير "ثعبان" فترتبط بزمن لقائه بفرعون. كأن الله كان يدرّب موسى تدريجا على هذه المعجزة العظيمة، فأظهرها في المشاهد الأولى بشكل أصغر و بعد ذلك أظهرها بشكل أعظم.[1] فبناء على هذا التوجيه، اقتضت معجزة موسى (ع) في مقامين و مكانين تعبيرين مختلفين.
ولكن يبدو أنه لا حاجة لهذا التوجيه و حتى لو كانت جميع الآيات مشيرة إلى حدث واحد، أيضا لما حصل تعارض بين الآيات. توضيح ذلك:
إن آيات سورة الأعراف و الشعراء التي أشارت إلى الثعبان، قالت (فإذا هي…)، يعني أن العصا تبدلت إلى ثعبان فجأة، بينما آيات سورة النمل و القصص التي جاء فيها "الجان" لم تقل "فإذا هي…" و لم تقل بأنها تبدلت إلى جان فجأة، بل قالت (كأنها…). يعني بعد أن تبدلت العصا إلى ثعبان مبين و بدأت تتحرك و تهتز (فلما رآها تهتز) كانت حركتها تشبه الجان. مع أن مقتضى جسمها الضخم و الثقيل هو أن تتحرك ببطء. و الحية التي تتصف بالضخامة و سرعة المناورة تمثل إعجازا اكبر.[2]
[1]. مكارم الشيرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 5، ص 142، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب.
[2]. الطبرسي، فضل بن الحسن، مجمع البيان، ج 3 و 4، ص 705 و 706 ، دار المعرفة، ج 8 .