Please Wait
9362
لا تناقض و تضادّ بين آيات القرآن بشكل عام و بين هذه الآيات بشكل خاص، إذ أن الآيات التي تنفي السؤال الاستعانة يوم القيامة، تشير إلى المراحل الأولى من يوم القيامة و هذا بسبب شدة التحير و الوحشة يوم القيامة. و بسبب هذا التحير و الوحشة سوف يفر الناس من بعض و لا يتعارفون. إن خوف الناس و رعبهم آنذاك بدرجة لا يسأل أحد أحدا من شدة رعبهم من حساب الله و عقابه. و لكن عندما يتحدث القرآن عن تساؤل الناس فيما بينهم: "و اقبل بعضهم علی بعض یتسائلون..." فهذا بعد الاستقرار في الجنة أو النار. إذن بعد لحاظ هذه الآيات معا و بعد التدبير و التأمل فيها يتضح أن لا تعارض بينهم.
جوابا على السؤال نقول: إن هذا التضادّ الظاهري الذي يبدو في هذه الآيات من القرآن الكريم ينحلّ بأدنى دقة و إمعان. و كما قيل في مجال إعجاز القرآن، لا تنفي أية آية منه آية أخرى و هذا أحد معاجز هذا الكتاب الخالد. لقد انتبه المفسرون إلى هذا التضادّ الظاهري في هذه الآيات و قد ذكروها في كتب التفسير. و هي أنه يستفاد من بعض آيات القرآن أن بعد قيام يوم القيامة يتساءل الناس فيما بينهم. و ذلك من قبيل ما جاء في الآية 27 من سورة الصافات التي تتحدث عن المجرمين على أعتاب دخولهم في النار "وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ".
و في نفس السورة الآية 50 تتحدث عن أهل الجنة حيث بعد استقرارهم في الجنة يجلسون على سرر متقابلين و يستاءلون عن أصحابهم و أقرانهم في الدنيا الذين دخلوا النار بسبب انحرافهم عن طريق الحق… "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ".
و قد جاء نظير هذا المعنى في الآية 25 من سورة الطور. السؤال هو أنه كيف تنسجم هذه الآيات مع الآية 101 من سورة المؤمنون التي تنفي السؤال في يوم القيامة؟
في البداية نقول: إن الكتب اللغوية قد فسرت كلمة "يتساءلون" بمعنى الاستفسار و بمعنى الاستعانة و الاستمداد المتقابل.[1]
من خلال مراجعة آيات القرآن نجد أن قضية السؤال و عدم السؤال قد ذكر في القرآن في ست آيات، و قد جاءت في آيتين منها عبارة "لا يتساءلون"[2] نافية السؤال و الاستعانة، و في أربع آيات جاء لفظ "يتساءلون"[3] مثبة ذلك.
يجب أن نعلم أنه ليس هناك أي تعارض و تضادّ بين هذه الآيات، لأن الآيات التي تنفي السؤال و الاستعانة يومئذ، تشير إلى المراحل الأولى من يوم القيامة و هذا بسبب شدة التحيّر و الرعب في ذاك اليوم. و بسبب هذا التحير و الوحشة سوف يفر الناس من بعض و لا يتعارفون. إن خوف الناس و رعبهم آنذاك بدرجة لا يسأل أحد أحدا من شدة رعبهم من حساب الله و عقابه. إن القرآن يصور أجواء ذاك اليوم المهول قائلا: (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ و تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها و تَرَى النَّاسَ سُكارى و ما هُمْ بِسُكارى و لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَديد) [4] يمكن تصوير هذا المشهد بمثال بسيط. عندما تهجم الذئاب على قطيع غنم، يعتري القطيع من الرعب و الخوف ما ينشرهم يمينا و يسارا و تراهم يفرون بحيث كل يفكر بنفسه… بعد نفخ الصور ينشغل كل إنسان بأعماله و يهتم بنجاة نفسه. بعبارة أخرى، إن الهول و الوحشة و الرعب يزعزعهم بشدة حيث ينسون غيرهم تماما. و لهذا تمحى الأنساب الأسرية و أمثالها عن الأذهان.
و لكن عندما يتحدث القرآن عن التساؤل بين الناس "و اقبل بعضهم علی بعض یتسائلون..." يتحدث عن مرحلة استقرار الناس في الجنة أو النار. يصف القرآن حال المؤمنين بأنهم منعمون (في جنات النعيم، على سرر متقابلين، يطاف عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، لا فيها غول و لا هم عنها ينزفون، و عندهم قاصرات الطرف عين، كأنهن بيض مكنون) ثم يتذكر بعضهم أيام حياته في الدنيا و بعض أصدقائه الذين انحرفوا عن الطريق و الآن مكانهم خال بين أصحاب الجنة، فيودّ أن يطلع على مصيره، فيلتفت إلى أصدقائه و يتساءل؛ "فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ".[5]
و كذا الحال بالنسبة إلى أهل النار، فإنهم يتحاورون. و قد جاء ذكرهم في الآية 27 من سورة الصافات حيث تتحدث عن المجرمين على شرف دخولهم في النار فتقول: (وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يتلاومون و كل يلقي ذنبه على صاحبه. الأتباع يتهمون رؤساءهم و الرؤساء يتهمون أتباعهم؛ (وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) كذلك الآيات 62 إلى 64 تدل على نفس هذه الحقيقة. (وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ * أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ * إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
و في نفس المجال هناك آيات تدل على وجود حوار بين أهل الجنة و النار، حيث تقول: (فی جناتٍ یتساءلون* عن المجرمین* ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ....)؛[6] إذن و من خلال ملاحظة هذه الآيات معا يتضح أنه ليس هناك تعارض بين هذه الآيات. و هناك هناك نظرية أخرى طرحت في الجمع بين هذه الآيات، مثلا أن الآية 101 من سورة المؤمنون قد أشارت إلى ظاهرتين في يوم القيامة: الأولى انتفاء الأنساب، إذ أن العلاقة النسبية و القبلية التي تسود نظام حياة الناس في هذا العالم، قد أدت إلى فرار المجرمين من عقوبات كثيرة، أو استعانتهم على حل مشاكلهم بأقربائهم، و لكن في يوم القيامة يترك الإنسان و عمله و لا يمكن لأي إنسان أن يدافع عنه حتى أخوه و ابنه و أبوه أو يتقبل أن يتحمل العقاب بدلا عنه. فعلى هذا الأساس، عبارة "وَ لا يَتَساءَلُونَ" تعني أن هؤلاء لا يطالبون بعون و مساعدة، إذ يعلمون أن هذا الطلب لا يجدي نفعا أبدا[7]، و لكن باقي الحوارات فممكنة.
خلاصة الكلام: من خلال التدقيق و الإمعان في هذه الآيات يتضح جواب هذا السؤال. فهذه الآيات ترتبط بإثبات السؤال عن البعض بعد الاستقرار في الجنة أو النار أو على أعتاب الدخول فيهما، بينما تنفي التساؤل في المراحل الأولى من يوم القيامة حيث يزعزعهم الهول و الوحشة بقدر ينسيهم أنفسهم تماما. و يعتقد البعض أن عدم التساؤل في يوم القيامة بمعنى نفي الاستعانة لا نفي مطلق الحوار و الكلام.
[1] ابن منظور، لسان العرب، لفظ سئل؛ ....
[2] المؤمنون، 101؛ القصص، 66.
[3] الصافات، 27، 50؛ الطور، 25؛ المدثر،40.
[4] حج، 2.
[5] مکارم الشیرازي، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 14، ص 322، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، قم، 1421ق.
[6] المدثر، 40- 43.
[7] تفسير نمونه، ج10، ص 516.