بحث متقدم
الزيارة
10001
محدثة عن: 2010/05/16
خلاصة السؤال
هل المجردات المثالية تشغل حيزاً من الفراغ و لها حجم و مكان؟
السؤال
من المعروف أن الادراكات الخيالية من سنخ المجردات المثالية التي تتوفر على البعد و الشكل الا انها غير قابلة للتقسيم. فهل يستفاد من كون الادراكات الخيالية ذات ثلاثة ابعاد أنها ذات حجم أيضا؟ و اذا كانت كذلك فهل تحتاج الى المكان؟ و اذا كان المكان ينتزع من الحجم فما الفرق من هذه الحيثية بين الادراكات الخيالية و الموجودات المادية و الجسمانية؟
الجواب الإجمالي

لا يمكن القول بوجود مكان مادي لكل من الصور المثالية و الصور الخيالية و إن كانت ذات ابعاد و اشكال؛ و ذلك لان احكام الاشياء تابعة لظرف تحققها، فان كان ظرف تحققها الخارج، تكون أحكامها خارجية أيضاً، و إن كان ظرف تحققها الذهن، تكون أحكامها ذهنية أيضا؛ من هنا كل حكم يحمل على الموجود الذهني لابد ان يكون ذهنيا، و كذلك اذا كان الموجود مثاليا لابد أن تكون أحكامه – و من ضمنها المكان- مثالية أيضاً.

الجواب التفصيلي

إن المكان تابع للجسم؛ و الجسم المادي يكون مكانه مادياً أيضا، و أما إذا لم يكن الجسم ماديا فسيكون مكانه كذلك؛  فعالم المثال[1] - على سبيل المثال- يمكن أن يتوفر على صورة مثالية للمكان احيانا و يمكن القول أنه لا يتوفر على الصورة المثالية للمكان أيضاً؛ فان كان المراد من المكان، المكان المادي فمما لاريب فيه أن صور عالم المثال لا مكان لها و لا يمكن نسبة هذا النوع من المكان الى الصور المثالية لانها مجردة عن المادة، و إن كان المراد من المكان، المكان غير المادي، فان الصور المثالية تتوفر على المكان و مكانها يكون من سنخها مثالياً أيضا.

و قد ذهب افلاطون و كبار الفلاسفة الاوائل و كذلك المتألهون من اصحاب الذوق و الشهود الى القول بان موجودات عالم المثال  قائمة في وجود ليس في مكان و لا جهة مادية، و صور عالم المثال ذات نوع من التجرد لتنزهها عن الجهات و المكان، لكنها تشتمل على نوع من التجسم من ناحية الشكل و المقدار.[2]

أما بالنسبة الى حقيقة المكان و ماهيته فقد طرحت مجموعة من النظريات المختلفة، تتصدرها النظريات الثلاث التالية:

1. ذهب بعض المتكلمين الى إنكار الوجود الخارجي للمكان و اعتباره بعداً موهوماً، عبّروا عنه بالفراغ المتوهم الذي يملأه الجسم.

2. هناك من آمن بالوجود الخارجي للمكان و واقعيته و أنه يقبل الاشارة الحسية كما يقال إجلس هنا و لا تجلس هناك، فان هنا و هناك ادوات اشاره، و الشيء الذي يقبل الاشارة ليس بعدم. و قد انقسم اصحاب هذه النظرية بدورهم الى طائفتين:

الف: ما ذهب اليه المدرسة المشائية من أن المكان هو السطح الباطن من الجوهر الحاوي، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي؛ كالسّطح الباطن من الكوز المماس للسطح الظّاهر من الماء الموضوع فيه، فان للكوز – مثلا- سطحا ظاهريا الذي هو ظاهر الكوز و له سطحا باطنيا هو المماس لظاهر الماء الموضوع فيه. و يعبر عن السطح الباطن للكوز بالحاوي و عن السطح الظاهر للماء بالمحوي، و الاول شامل و الثاني مشمول، فمكان الماء طبقا لنظرية المشائين نفس السطح الباطن. إلا ان هذه النظرية واجهت هذه مجموعة من الاشكالات و الاعتراضات.

ب. رأي الحكماء من المدرسة الاشراقية - و الذي مال اليه صدر المتألهين- المتمثل بان ماهية المكان بعد مجرد موجود نظير تجرّد الموجودات المثالية التي هي العالم بين العالمين، أعني المفارقات النورية و المقارنات المظلمة. و تجرده من قبيل تجرد الموجودات المثالية و هو ليس من عالم المثال؛ لانه يختلف عن عالم المثال لانها غير قابلة للحلول في المادة و لا المادة تحل فيها، خلافا لهذا البعد المجرد (المكان) فانه يحل في المادة كما ان المادة تحل فيه، و هو في الحقيقة يتداخل مع البعد المادي؛ من هنا قال حكماء الاشراق: بانّ المتمكن يحل بتمامه في المكان لان الفطرة حاكمة بان جميع هذا الشيء في المكان لا ان الموجود فيه طرف منه فقط كالسطح الظاهري للماء كما هو عند المشائين. علما أنه من الممكن تداخل الموجود المجرد مع المادي، نعم، الممتنع تداخل الموجودين الماديين في بعضها البعض.[3]

أما بالنسبة الى الصور العلمية فيجب القول بان: الصور العلمية مجردة عن المادة و خالية من القوة و الاستعداد؛ لان الصورة العلمية من جهة كونها معلومة لنا هي فعلية لا استعداد فيها لتكون شيئاً آخر، و انها غير قابلة للتغير، و ان مجرد التغير فيها يعني تحولها الى صورة أخرى مغايرة للصورة الاولى فالصورة العلمية للتفاحة الموجودة في الذهن اذا تحولت الى صورتين لنصفي التفاحة لا يعني ذلك بقاء الصورة الاولى، بل الحاصل الجديد هو حدوث صورتين جديدتين لا ان الصورة الاولى انقسمت الى قسمين؛ إذن لم يحصل التغير في الصور العلمية، فان كانت الصورة العلمية مادية  فانها لا تأبى التغيّر و من الممكن نسبة خواص المادة كالانقسام و الزمان و المكان اليها. و العلم بما هو علم غير قابل للتثليث و التقسيم و.. و كذلك ليس مقيدا بالزمان؛ لانه لو كان ماديا فان الصورة العلمية سوف تتغير بتغير الزمان، و كذلك الصورة العلمية لا تقبل الاشارة المكانية.[4]

من هنا يتضح بان الصور العلمية مجردة عن المادة، و لهذا عرّف الفلاسفة الادراك بانه حضور مجرد لمجرد؛ و عليه لا يمكن القول بان لها مكانا مادياً، و أما الذهن فهو مكان للصور المتخيلة.

ثم ان احكام الاشياء تابعة لظرف تحققها، فان كان ظرف تحققها الخارج، تكون احكامها خارجية أيضاً، و ان كان ظرف تحققها الذهن، تكون احكامها ذهنية أيضا؛ من هنا كل حكم يحمل على الموجود الذهني لابد ان يكون ذهنيا.

و اما كون الادراكات الخيالية ذات ابعاد ثلاثة (الطول و العرض و العمق) فلابد من الالتفات الى أن هذه الابعاد الثلاثة هي الاخرى خيالية نظير ما لو تصورنا جسما بطول و عرض و عمق خاص و حجم معين، كما لو تصورنا قمة جبل أحد، فلا يمكن ان ندعي وجود مكان مادي له و لا يمكن القول ايضا بان مكانه الذهن، و اذا ما فرض وجود مكان له فهو مكان خيالي غير مادي، و هذا بنفسه دليل على تجرد الصور الخيالية.

إذن لا يمكن تصور المكان المادي للصور المتخيلة و الصور المثالية سواء عرفنا المكان بما ذهبت اليه المدرسة المشائية او بما ذهب اليه الاشراقيون؛ نعم، يمكن القول بان لها مكانا مثاليا.

و الجدير بالذكر ان جميع ما مر (من تجرد عالم المثال عن المادة) تابع للتعريف المشهور للمادة. و الا قد تعرف المادة تعريفا آخر يشمل الامور المثالية أيضاً.

لمزيد الاطلاع انظر: 16521 (الموقع: 16252)  عالم المثال.

 


[1] الجوهر المثالي يعتبر لوناً آخر من الموجودات، فهو ليس من مثل الجوهر العقلاني الفاقد للصفات و الحدود الجسمانية تماماً، و ليس مثل الجوهر الجسماني القابل للقسمة و ذي المكان، و انما هو من قبيل الصور الخيالية المرتسمة في ذهن الانسان. ( مصباح اليزدي، المنهج الجديد لتعليم الفلسفة، ج2، ص186، الدرس الخامس و الاربعون، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعية المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الاولى، 1409هـ)

[2] جوادي آملي، رحيق مختوم،  القسم الرابع من المجلد الاول، ص 209، الطبعة الاولى،  نشر اسراء، 1375،  هـ .ش.

 

[3] الشيرازي، سيد رضي، درسهاي شرح منظومه حكيم سبزواري= دروس في شرح منظومة السبزواري، ج 2، ص 1563-1567، الطبعة الاولى، مؤسسه اتشارات حكمة، طهران، شتاء عام 1383،  ه. ش.

 

[4] الطباطبائي، سيد محمد حسين، نهایه الحکمة،  ص 294، مؤسسة النشر الاسلامي ، قم ، 1422، ه. ق.

 

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280465 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    259118 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129816 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    116202 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89697 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61314 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60564 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57472 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    52091 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • هل أن أكل سرطان البحر هو حرام؟
    48156 الحقوق والاحکام 2019/06/10
    لقد ورد معيار في أقوال و عبارات الفقهاء بخصوص حلية لحوم الحيوانات المائية حيث قالوا: بالاستناد إلى الروايات فان لحوم الحيوانات البحرية لا تؤكل و هذا يعني إن أكلها حرام[1]. إلا إذا كانت من نوع الأسماك التي لها فلس[2]، و ...