بحث متقدم
الزيارة
7270
محدثة عن: 2007/06/23
خلاصة السؤال
لماذا لم ینزل الدین الکامل بشکل دفعی و فی مکان واحد، و ما هی الضرورة إلى التدرج فی وجود الدین؟
السؤال
لماذا لم ینزل الدین الکامل بشکل دفعی و فی مکان واحد، و ما هی الضرورة إلى التدرج فی وجود الدین؟
الجواب الإجمالي

یرجع التدرج فی أمر الدین إلى قدرات الإنسان الفکریة و الروحیة من جانب، و إلى احتیاجاته و ابتلاءاته الدنیویة و الاجتماعیة من جانب آخر. و بما أن الإنسان القدیم لا یمتلک القدرات الفکریة اللازمة، فهو غیر مؤهل فکریاً لتلقی معارف و علوم العصور اللاحقة، و کذلک الحال بالنسبة للإنسان السابق لبعثة النبی (ص)، فإنه لا یمتلک المؤهلات الفکریة و المعنویة اللازمة لهضم تعالیم الإسلام. کما کان الإنسان القدیم یعیش فی نظام العائلة دون الحاجة إلى النظام الاجتماعی و علاقاته و قوانینه، فإنه ما کان یمتلک المؤهلات الفکریة التی یتصور معها حاجته إلى أحکام الاجتماع و أسالیب الحیاة فیه، و هکذا فإن الحیاة الاجتماعیة الضیقة و المحدودة قبل الإسلام لا تؤهل الإنسان للإحساس بالحاجة إلى قوانین الإسلام الشاملة، و لذلک فتعلیم هذه القوانین التی تتعدى الإمکانات الفکریة و محاولة فهمها أمر لغوی و عبثی، بل إنه من قبیل التکلیف بما لا یطاق. و لکن بعد أن تقدمت المجتمعات و بلغت فی تدرجها مراحل فکریة و روحیة متقدمة وضعت فی متناول أیدیها قوانین و معارف أساسیة تؤمن لها أسباب رقیها و تقدمها فی الدنیا و الآخرة و إلى الأبد.

الجواب التفصيلي

الهدف من تشریع الدین و جعل التکالیف هو هدایة الإنسان إلى الترقی و التعالی و تحریره من قیود الدنیا التی تکبله لینطلق فی مسیره باتجاه قمة إنسانیته الواقعیة، و من جهة أخرى فإن قدرات الإنسان العقلیة و الروحیة و حاجاته من جانب آخر هی أیضاً فی حالة ترقٍ و تقدم و تکامل. فلیس له فی بدایة أمره المؤهلات الکافیة لتلقی التعالیم التی تتناسب مع مراحله الأخیرة.

فالإنسان بالنسبة إلى تلقی نظم و قوانین الوحی الإلهی أشبه بالطفل فی مراحله الأولى الذی لا یتحمل فی بدایاته إلاّ الیسیر من المفاهیم و تعلم بعض الحروف و الإعداد، لیعد تدریجیاً و یؤهل لتلقی التعلیم و التربیة فی المراحل الأخرى، و بذلک یتمکن من تخطی مراحل تعلمه بکل لوازمها و تفاصیلها و تقدمه بموفقیة و نجاح، حتى یصل إلى المرحلة الأخیرة التی یمکن أن یطلق علیه عند إتمامها أنه أتم تحصیله و أنهى دراسته، و حینها یستفید الآخرون مما حصل علیه من خلال سعیه و جهده، کما هو الحال بالنسبة للطفل فی مرحلته الابتدائیة الأولى لا یمکن أن یعطی ما یناسب المراحل المتقدمة، و کذلک لا یمکن أن یکلف طالب السنة الأخیرة فی المدارس الإعدادیة بالمنهج الجامعی. و هکذا فالإنسان فی مراحله الأولى لا یمکن أن یتلقى تعالیم أنبیاء العصور المستقبلیة، بل لا حاجة له فیها، و کذلک العصور المتقدمة و الامم السالفة على الإسلام لا إمکان لدیهم لتلقی تعالیم النبوة الخاتمة التی بشر بها محمد (ص).

إضافة إلى ذلک فإن المحدودیة فی عمر الأنبیاء (ع)، و قدراتهم الفکریة و الروحیة تشکل عاملاً آخر و علة فی مسألة تدرج الدین وتکمیله على مراحل. مع أن الأمر المسلم هو أن کل نبی هو الأفضل و الأکمل بالنسبة إلى معاصریه و من جمیع الجهات و الحیثیات، و من هنا قال النبی الأکرم (ص): «... و لا بعث الله نبیاً (و لا رسولاً) حتى یستکمل العقل، و یکون عقله أفضل من جمیع عقول أمته»[1].

و کذلک قال الإمام العسکری (ع): «فلما استکمل أربعین سنة و نظر الله عز و جل إلى قلبه فوجده أفضل القلوب و أجلها و أطوعها و أخشعها و أخضعها أذن لأبواب السماء ففتحت و محمد ینظر إلیها».[2]

إذن فالمعرفة الدقیقة بسعة العقل و شرح الصدر و سائر القدرات الباطنة و المعنویة بالنسبة للإنسان لا یمکن أن تتأتى إلاّ لله سبحانه، فهو أعلم حیث یجعل رسالته.[3] و إن إمکانیة اختیار النبی و الإمام مفقودة لدى البشر، و لهذا فإن حجم التعالیم و کیفیتها و زمان تجدید الشرائع و نسخ الشرائع المتقدمة کل هذا منوط بالله سبحانه و موکل إلى علمه و حکمته و إذنه. و کل هذه المسائل خارجة عن قدرات الإنسان و إمکانیاته.

کما أن محدودیة دائرة التبلیغ و الانتشار و وسائل الإعلام بالنسبة للأمم السالفة هی عوامل إضافیة و موانع تحول بین بقاء الدین إلى زمن بعید لیصل إلى جمیع أفراد الإنسان.

و إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تقدم من محدودیة الحفظ و التوثیق و ضعف وسائل نقل المعلومات من جانب، و بعد الفاصل الزمنی عن عهد النبی من جانب آخر حیث یتسبب ذلک البعد الزمنی بالنسیان و السهو و التحریف المؤثر من قبل کبار القوم للتعالیم و الأحکام الإلهیة، مما یسبب تلاشی و ضیاع الغرض من تعالیم الدین الذی یتمثل بهدایة الناس. أما بالنسبة إلى الإسلام فإن تأکید هذا الدین على الضبط و (التدوین) و حفظ مواریث الماضین و اتساع ظاهرة التبادل الثقافی و تراکمها و سیطرة النقد و محاکمة الأجواء الثقافیة فإن المشکلة و الموانع السابقة أزیلت بالکامل.

کل الذی تقدم فی جانب، و خصوصیة بعض التشریعات و الأحکام و اختصاصها بمقطع زمنی معین من جانب آخر، فمثلاً جاءت بعض التحریمات بمثابة العقوبات و الحدود التعزیریة التی تحمل جنبة المجازاة بالنسبة إلى الیهود، و عندما جاء المسیح (ع) رفعت تلک التحریمات.[4]

و الإسلام لم یکن مستثنى من هذا الأمر، و لذلک فقد وصل إلى تکامله بالتدریج و على مدى 23 عاماً، و قد جاءت بعض أحکامه بشکل تدریجی، کأحکام تحریم الخمر و القمار و حد الزنا و غیرها، و إن مناسک حج التمتع کملت فی آخر حجة لرسول الله (ص) أی فی العام العاشر للهجرة النبویة (23 للبعثة).

و بعض الأحکام تعرضت للنسخ کالصدقة فی حالة النجوى[5]، وإن هذا الأمر غیر خاف على أی حکیم أو سیاسی، و هو أن تغییر أوضاع المجتمع و إحداث التحولات فی بنیته الأساسیة و هز قواعده الفکریة و العقائدیة و استبدالها لیس بالأمر الهین الذی یتم بین عشیة أو ضحاها، خصوصاً إذا کانت تلک العادات و الأحکام و العقائد مما توارثته الأجیال وتقادمت علیه العصور، فکیف إذا ما کان مشفوعاً بالعصبیات الجاهلیة المستحکمة و الحاکمة.

نعم کان النبی یمتلک المؤهلات اللازمة لتلقی الدین دفعة واحدة فی لیلة القدر أو لیلة المعراج. و أما سائر الناس، فلم یکن لهم الاستعداد الکافی و القدرات العقلیة و الروحیة لتحمل التحول الفجائی الدفعی فی زمان واحد، لیتعلموه و یطبقوه. و کذلک فإن الإمام علیا (ع) واجه المشکلة ذاتها عندما حاول تطهیر المجتمع من البدع، و لم یعط الوقت الکافی لإصلاح المجتمع، و بقیت هذه المعضلة مستمرة إلى آخر عهد النبی (ص)، و مع أن القرآن قد اکتمل و تم، و لکن تفسیره و تأویله لم یکن فی مستوى فهم الناس أو مما یقع مورد ابتلائهم فی ذلک الوقت.

و لذلک فإن تعالیم الإسلام أودعت فی صدر علی (ع) الواسع المنشرح لها، لیکون هو المرشد و الهادی و مبین الأحکام للأمة، و قد انتقل هذا الأمر منه إلى سائر الأئمة (ع) و کان همّ الأئمة و شغلهم الشاغل تربیة عدد من طلاب العلم و المعرفة و کذلک تأهیل الأمة لیتمکن الجمیع من خلال الرجوع إلى الکتاب و السنة، النهج النظری و العملی و تعالیم النبی (ص) و الأئمة (ع) ان یشقوا طریقهم حتى عصر الظهور على صعید رفع الاحتیاجات العلمیة و الفکریة و الأخلاقیة و الشرعیة للأمة فی ذلک المقطع الزمنی من تاریخها، خصوصاً و إن منبع الوحی الأصیل (القرآن الکریم) بقی مصوناً من أی تحریف و تغییر لیکون المرجع و الملاک الذی تعرض علیه الأحادیث لمعرفة الموضوع فیها من الصحیح.

و قد أثبت منهج علماء الشیعة و مسیرتهم العلمیة أن هذا الدین دین کامل، و أنه قادر على تلبیة الحاجات البشریة الدنیویة و المعنویة و یعطی الأجوبة الشافیة لکل التساؤلات. و لو لم یسد الأعداء الطرق و یضعوا الموانع؛ فإن هذا الدین یتمکن من تأمین العدل و القسط و ینشر الصلح و السلام و الصفاء فی ربوع الأرض مع أن الوعد الإلهی یؤکد أن الظالمین لا یرفعون أیدیهم عن عنادهم و إصرارهم على الوقوف بوجه العدالة و تطبیق أحکام الدین و إجراء تشریعاته، حتى تکون نهایتهم على الید المقتدرة للمصلح الموعود(عج) ذلک عندما ترفع کل الموانع وتمهد السبل لتتحقق العدالة بأجلى صورها و سعتها و شمولها.

المصادر:

1- السبحانی، جعفر، الإلهیات، ج3، ص22-64، 485 - 528، 225.

2- الشیروانی، علی، درسنامه ی عقاید، "دروس عقائدیة" ، ج1 و 2، الدروس 29، 31، 35.

4- مصباح الیزدی، محمد تقی، راه و راهنماشناسى" الطریق إلى المعرفة"، ج4، ص1-55؛ ج5، ص13_56، 177 - 189.

5- المطهری، مرتضى، خاتمیت" الخاتمیة"، ص37-63 ، 99 ، 143-163.



[1] الشیروانی، علی، درسنامه ی عقاید" دروس عقائدیة" ص 128، نقلاً عن أصول الکافی.

[2] نفس المصدر، نقلاً عن بحار الأنوار، ج 18، ص205، ح36.

[3] الشورى، 7.

[4] آل عمران، 50؛ النساء، 160-161.

[5] المجادلة، 12و13؛ النور، 3؛ البقرة، 143-150.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279310 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256747 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128014 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112647 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88885 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59523 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59313 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56785 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49246 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47087 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...