Please Wait
5545
تتوزع الاحکام و التشریعات الاسلامیة على دائرتین، فبعضها یختص بالجانب الفردی و الآخر یدور حول القضایا الاجتماعیة. أما الصنف الاول – الاعمال الفردیة- فیمکن القیام بها مهما کانت شروط المجتمع و ظروفه؛ فلو أراد الانسان المؤمن القیام بتکالیفه الفردیة لا یصده الانحراف الاجتماعی عن ذلک بنحو تام. و اما الصنف الثانی القوانین و التشریعات الاجتماعیة، و لما کان الانسان کائنا اجتماعیا لابد ان یعیش ضمن المجموعة و البحث عن متطلبات حیاته فی هذه الدائرة الاجتماعیة. فاذا قدّر أن یعیش المؤمن فی مجتمع لا تحکمه الضوابط و التشریعات السماویةو... فهنا علیه أن یقدر الامور و یدرس القضیة دراسة دقیقة لیعرف ما هی الدائرة التی یستطیع التأثیر فیها و التحرک خلالها لیتمکن من دعم القیم و اعادتها الى المجتمع و التصدی للانحرافات و ازاحتها عن الساحة الاجتماعیة من باب الامر بالمعروف و النهی عن المنکر، و أما اذا رأى نفسه عاجزاً عن ذلک و أن ما یقوم به لا یؤدی الغرض المطلوب و لا ینتج تحولا ایجابیا فی الوسط الاجتماعی، فحینئذ یکون قد أرضى ضمیره و عمل بتکالیف الدینیة، و إن لم یحالفه النجاح فی مسعاه. و لکن علیه أن یجتنب و بالحد الممکن الاختلاط معهم و الخوض فی القضایا الاجتماعیة، و الاکتفاء بالحد الممکن مما یؤمن له معیشته الدنیویة.
تتوزع الاحکام و التشریعات الاسلامیة على دائرتین، فبعضها یختص بالجانب الفردی و الآخر یدور حول القضایا الاجتماعیة.
و لکی یتضح الموقف المناسب الذی یعتمده المؤمن - اذا عاش فی مجتمع متحلل لا تضبطه قوانین الشریعة و لا تحکمه تشریعات السماء، و تنعدم فیه القیم الاخلاقیة- و کیف یتمکن من أداء تکالیفه و مسؤلیاته الدینیة، و فی الوقت نفس یکون فی مأمن من الاصابة بالعوارض المرضیة الشائعة فی ذلک المجتمع، هذا الأمر یقتضی بحث المسالة فی الدائرتین المذکورتین.
الاولى: الاحکام الفردیة فی الاسلام
الاحکام الفردیة الاسلامیة هی سلسلة من القوانین المشرعة لتأمین هدایة الانسان و الأخذ بیده من عالم التراب و المادة الى قمة السعادة و التکامل البشری – الذی یمثل الهدف الاسمى للخلق-. و قد نظمت تلک المجموعة من القوانین تلک عناوین یجب و لا یجب؛ بمعنى أن هناک سلسلة من الاحکام و التکالیف یجب على الانسان الاتیان بها لکی یؤمن الهدف من الخلقة. و هناک طائفة أخرى من الاعمال یجب على المکلف اجتنابها و التنزه عنها، الافعال ذات البعد الرادع، و اذا ما اقترفها الانسان فانها تعیق مساره التکاملی. و هذا الصنف من الاعمال – الاعمال الفردیة- یمکن القیام بها مهما کانت شروط المجتمع و ظروفه؛ فلو أراد الانسان المؤمن القیام بتکالیفه الفردیة لا یصده الانحراف الاجتماعی عن ذلک بنحو تام و لا تکون الانحرافات الاجتماعیة خطرا على التکالیف الفردیة. نعم، قد یؤدی انحراف المجتمع الى مواجهة المصاعب و العسر فی القیام بها و لکن لا یسلب منه اختیاره و ارادته التامة للفعل، و لقد اشار القرآن الکریم الى هذا المعنى فی قوله تعالى: " یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". [1]
و الآیة المبارکة صریحة فی أنه یجب على کل انسان ان ینظر الى موقفه الخاص و تکالیفه الفردیة و لا یربط إیمانه و هدایته الفردیة بهدایة الآخرین او ضلالهم، و علیه مواصلة الطریق حتى مع ضلال المجتمع و انحراف سائر الافراد. و من هنا ینبغی للسائل الکریم أن یتخذ من هذه الآیة المبارکة منطلقا فی حیاته و منهاجا یسیر علیه فی حرکته الایمانیة و لا یتبع سبیل المفسدین و المسرفین.
نعم، لا یوجد أحد یدعی بان فساد الاجواء الاجتماعیة و شیوع المنکر فی اوساط الناس لا یعد خطرا على ایمان الانسان و استقامته، و من هنا علیه ان یتمسک بحبل الله المتین المتمثل فی القرآن و العترة الطاهرة (ع)، و الالتزام بما شرعا و ما أرادا منه لیتمکن من العبور الى ساحل الأمان فی هذا البحر المتلاطم.
و لقد ارشدتنا التعالیم الدینیة فی هذه الاجواء و شیوع الفتن و تفرق الکلمة الى هذا الطریق المهیع الواضح المعالم الذی یأخذ بایدینا الى الکمال و السعادة، فقد روع عن رسول اللَّه (ص) أنه قال: أَیُّها الناس إِنکم فی دار هُدْنَةٍ و أَنتم على ظهرِ سفر و السَّیرُ بکم سریعٌ و قد رأَیتم اللَّیل و النَّهار و الشَّمس و القمر یُبْلِیَانِ کلَّ جدید و یُقَرِّبَانِ کلَّ بعید و یأتِیَانِ بکلِّ موعود فأَعدُّوا الجهاز لبعد المجاز. فقَام المِقْدَادُ بن الأَسود فقال: یا رسول اللَّه و ما دار الهدنة؟ قال: دار بلاغٍ و انقطاع فإِذا التبستْ علیکم الفتن کقطع اللَّیل المظلم فعلیکم بالقرآن فإِنَّهُ شافعٌ مُشَفَّعٌ و مَاحِلٌ مُصَدَّقٌ و من جعلهُ أَمامهُ قادهُ إِلى الجنَّةِ و من جعلهُ خلفَهُ ساقَهُ إِلى النَّار و هو الدَّلِیلُ یدُلُّ على خیر سبیل و هو کتاب فیه تفصیلٌ و بیانٌ و تحصیلٌ و هو الفصْلُ لیس بِالهزل و لهُ ظهرٌ و بطنٌ فظاهرهُ حکمٌ و باطنُهُ علمٌ ظاهرهُ أَنیقٌ و باطنه عمیقٌ لهُ نجومٌ و على نجومه نجومٌ لا تحصى عجائبهُ و لا تبلى غرائِبُهُ فیه مصابِیحُ الهدى و منارالحکمة و دلیل على المعرفة لمنْ عرف الصِّفَةَ فَلْیَجْلُ جَالٍ بَصَرَهُ و لْیُبْلِغِ الصِّفَةَ نَظَرَهُ یَنْجُ مِنْ عَطَبٍ وَ یَتَخَلَّصْ مِنْ نَشَبٍ فَإِنَّ التَّفَکُّرَ حیاةُ قَلْبِ الْبَصِیرِ کما یمشی المُسْتَنِیرُ فی الظلُمَاتِ بالنُّورِ فعلیکمْ بحسن التخَلُّصِ و قِلَّةِ التَّرَبُّصِ. [2]
و اما الحبل الآخر الذی أمرنا بالتمسک به فهو سبیل العترة الطاهرة الى جانب القرآن الکریم. [3]
و کثیرا ما حدثنا التاریخ قبل بعثة النبی الاکرم (ص) وصولا الى عصرنا الراهن، بان الخناق قد ضاق على المؤمنین فی الکثیر من المواقع و الحالات و لا یوجد مجتمع مثالی بمعنى الکلمة یوفر للانسان المؤمن سبل الراحة و الحریة فی أداء العبادات و الطقوس على المستویین الفردی و الاجتماعی، و لطالما عاش المؤمنون هاجس الخوف و القلق على دینهم و مستقبلهم. فالقضیة لیست جدیدة وعلى المؤمن أی یظهر قدرا کبیرا من اللیاقة و الجدارة الکبیرة للخروج من هذه المحنة و العبور الى ساحل الأمان و الخروج من هذا المنعطف الخطیر.
الثانیة: احکام الاسلام الاجتماعیة
قلنا ان الطائفة الثانیة من القوانین و التشریعات الاسلامیة تحمل بعدا اجتماعیا، و لما کان الانسان کائنا اجتماعیا لابد ان یعیش ضمن المجموعة و البحث عن متطلبات حیاته فی هذه الدائرة الاجتماعیة. فاذا قدّر أن یعیش المؤمن فی مجتمع لا تحکمه الضوابط و التشریعات السماویة و یعیش حالة الفرقة و الانحراف على اکثر من مستوى و کما عبر عن ذلک سید الاوصیاء علیه السلام: " ایها الناس انا قد اصبحنا فی دهر عنود و زمن کنود.. ". [4] ففی مثل هکذا مجتمع منحدر نحو الرذیلة و سائر فی الاتجاه المخالف للدین، فلو أراد الانسان الحفاظ على سلامة دینه و استقامة طریقه و الالتزام بتکالیفه الدینیة و الانسانیة و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر یتعرض لشتّى انواع الاستهزاء و السخریة و... هنا علیه أن یقدر الامور و یدرس القضیة دراسة دقیقة لیعرف ما هی الدائرة التی یستطیع التأثیر فیها و التحرک خلالها لیتمکن من دعم القیم و اعادتها الى المجتمع و التصدی للانحرافات و ازاحتها عن الساحة الاجتماعیة، فان کان قادرا على ذلک یعمل بالحد الذی یسعه فعله من باب الامر بالمعروف و النهی عن المنکر، و أما اذا رأى نفسه عاجزاً عن ذلک و أن ما یقوم به لا یؤدی الغرض المطلوب و لا ینتج تحولا ایجابیا فی الوسط الاجتماعی، فحینئذ یکون قد أرضى ضمیره و عمل بتکالیف الدینیة، و إن لم یحالفه النجاح فی مسعاه.
یقول أمیر المؤمنین (ع) فی وصف الرجال الالهیین و المؤمنین الذین تواجههم مثل تلک الظروف الاجتماعیة الخطیرة: " وَ بَقِیَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِکْرُ الْمَرْجِعِ وَ أَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ فَهُمْ بَیْنَ شَرِیدٍ نَادٍّ وَ خَائِفٍ مَقْمُوعٍ وَ سَاکِتٍ مَکْعُومٍ وَ دَاعٍ مُخْلِصٍ وَ ثَکْلَانَ مُوجَعٍ ". [5] و هذا المقطع من کلام الامام (ع) یوضح لنا ان الظروف الاجتماعیة و الانحطاط الاخلاقی و تراجع الأمّة عن الدین لا یؤدی الى تکلیف المؤمنین المتقین بنوع واحد من التکالیف و انهم لا یعتمدون اسلوبا مشترکا فی التصدی له، فقد ینزوی المؤمن اذا وصل الى حد الیأس او یصمت بعد أن بلغ و لم ینفع و أرشد فلم یرعوی الناس و لم یلتفتوا الى نصحه و ارشاده، و لا یعنی الانزواء الرضا بهذه الحالة و الارتیاح لها، بل هم کما وصفهم أمیر المؤمنین (ع) کمن یعیش فی بحر أجاج شدید الملوحة یقول (ع): " فَهُمْ فِی بَحْرٍ أُجَاجٍ أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ قَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا وَ قُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا وَ قُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا". [6]
علما ان الظروف تختلف من شخص الى آخر، و من مجتمع الى ثان، فربما یتمکن الانسان فی مجتمع ما من انقاذ بعض المنحرفین من خلال سعیه و من خلال مثابرته، فیحصل على نتیجة ایجابیة مهما کانت محدودة، فحینئذ یکون مکلفا بالقیام بهذا الحد و تحمل هذه المسؤولیة بهذه الدرجة، و کما قال تعالى " لا یُکَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها..." [7] فمن غیر الصحیح تکلیف الجمیع بموقف واحد و تکلیف فارد.
و الجدیر بالذکر، أنه اذا قدر للانسان المؤمن أن یرتبط مصیره بمجتمع یختلف معه فی الاهداف و التصورات و لایسیر على النهج الذی یسیر علیه، و لم یتمکن من التخلص عنه و الانتقال الى مجتمع آخر ینسجم معه فکریا و عقائدیا و اخلاقیا، ففی مثل هذه الحالة یستطیع الانسان أن یجتنب بالحد الممکن الاختلاط معهم و الخوض فی القضایا الاجتماعیة، و الاکتفاء بالحد الممکن مما یؤمن له معیشته الدنیویة، و الا یجب علیه الابتعاد عن هکذا مجتمع و الهجرة الى بلاد تؤمن له الحد الممکن من دینه و قیمه، قال تعالى فی کتابه الکریم: " إِنَّ الَّذینَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمی أَنْفُسِهِمْ قالُوا فیمَ کُنْتُمْ قالُوا کُنَّا مُسْتَضْعَفینَ فِی الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فیها فَأُولئِکَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصیرا ". [8]
انظر: الدراسات الدینیة و المعرفة المعاصرة للدین الاسلامی، رقم5423 (الموقع: 5757) .