Please Wait
7526
یعتقد فریق من علماء المسلمین فی الموارد التی لم یتلق فیها النبی (ص) وحیاً من الله فإنه یتخذ المواقف فیها على أساس اجتهاده، و إنه من الممکن أن تکون قراراته و مواقفه مخالفة للأولى أو للمصلحة فی مثل هذه الحالة، و إن العتاب الموجه للنبی (ص) من قبل الله فی واقعة أحد و تبوک یندرج ضمن هذا السیاق، فهو تساؤل عن سبب عمل النبی خلاف الأولى أو المصلحة.
و یعتقد فریق آخر من العلماء أن عصمة الأنبیاء تتنافى مع ترک الأولى، و لکنهم یقولون بالنسبة لهذه الآیات اعتماداً على القرائن و الأدلة القطعیة: إن ما ورد فی الآیة 67 من سورة الأنفال فی قوله: «مَا کَانَ لِنَبِیٍّ أَنْ یَکُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى یُثْخِنَ فِی الأَرْضِ تُرِیدُونَ عَرَضَ الدُّنْیَا وَاللَّهُ یُرِیدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِیزٌ حَکِیمٌ»؛ فلیس الخطاب موجهاً إلى النبی (ص) أصلاً و إنما المخاطب فی الآیة و المعاتب هم المشارکون فی واقعة بدر و کذلک الأمر بالنسبة إلى الآیة 43 من سورة التوبة، «عَفَا اللَّهُ عَنْکَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ». إذن فلیس لرسول الله من ذنب لا عرفی و لا لغوی، و إن العتاب فی هذه الآیة عتاب غیر جدی، و فی حقیقة الأمر هو بمثابة الدعاء و التقدیر و الاحترام لشخص رسول الله (ص).
إذن فلم یترک النبی(ص) الأولى و لم یترک المصلحة.
کتبت أبحاث جیدة و مفیدة من قبل العلماء المسلمین فیما یخص عصمة الأنبیاء و هل أنها تقتضی أن لا یترک النبی حتى الأولى؟ أم أن العصمة لا تقتضی مثل هذه الفرض؟
و قالوا فی عصمة الأنبیاء: إن أقصى ما یدل علیه دلیل العصمة، هو العصمة من العصیان و الخطأ و النسیان، و لا یمتد لیشمل عدم ارتکاب (ترک الأولى) و إن الله سبحانه عاقب بعض أنبیائه بنوع من العقاب، بسبب عدم اختیارهم الأحسن من بین عدة خیارات، فکان التساؤل: لماذا لم یکن اختیارک للأفضل.[1]
و قال فریق آخر: فی الموارد التی لم ینزل فیها وحی، إذا کان تصمیم النبی (ص) خلافاً للأصلح و الأفضل، فإن الوحی ینزل مباشرةً لیذکر النبی أن خیاره خلاف الأولویة، کما ورد فی أمر (الأسرى) فی واقعة (بدر)[2] حیث أنذر النبی و أمره بالعودة إلى الحکم الأولى. أو ما ورد بالنسبة إلى الإذن الذی أعطاه الرسول للمنافقین فی غزوة تبوک.[3]، [4]
و أما الغالبیة من علماء الشیعة، فإنه إضافة إلى اعتقادهم بأنه لا ضیر فی ترک الأولى، یرون أن النبی (ص) لم یرتکب ترک الأولى بحسب سیاق الآیتین المتقدمتین، فقولهم مثلاً فیما یخص واقعة بدر؛ أن العتاب و الخطاب فی هذه الآیة لم یکن موجهاً إلى النبی الأکرم (ص).
یقول العلامة الطباطبائی فی تفسیر المیزان: إن السنة الجاریة فی الأنبیاء الماضین (ع) أنهم کانوا إذا حاربوا أعداءهم و ظفروا بهم ینکلونهم بالقتل لیعتبر به من وراءهم فیکفوا عن محادة الله و رسوله، و کانوا لا یأخذون أسرى حتى یثخنوا فی الأرض، و یستقر دینهم بین الناس فلا مانع بعد ذلک من الأسر، ثم المن أو الفداء کما قال تعالى فیما یوحی إلى نبیه (ص) بعد ما علا أمر الإسلام و استقر فی الحجاز و الیمن: «فَإِذا لَقِیتُمُ الَّذِینَ کَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً».[5]
و العتاب على ما یهدی إلیه سیاق الکلام فی الآیة الأولى إنما هو على أخذهم الأسرى کما یشهد به أیضا قوله فی الآیة الثانیة: «لَمَسَّکُمْ فِیما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ»؛ أی فی أخذکم و إنما کانوا أخذوا عند نزول الآیات الأسرى دون الفداء و لیس العتاب على استباحة الفداء أو أخذه کما احتمل.
یتفق جمیع المفسرین على أن هذه الآیات نزلت بعد واقعة بدر، و أن المعاتبین فیها هم المشارکون فی هذه الحرب، و فی نهایة الأمر أحلت لهم الغنائم.[6] مع أن البعض یذهب الی أن العتاب موجه إلیهم بسبب أخذهم الفداء، و لماذا أحلوا الغنائم و أخذوها قبل أن یأتی حکم حلها من الله سبحانه. و فی مثل هذا الفرض فإن الرسول (ص) مشمول بالعتاب و ذلک لأنه شاور الناس بالفدیة قبل أن ینزل حکم الغنائم من الله تعالى، و لکن هذا الکلام غیر صحیح، و ذلک لأن المسلمین أخذوا الفدیة بعد نزول هذه الآیات لا قبل أن یتلقى الإذن الإلهی بحلیتها و إباحتها، و حاشا لله أن یهدد ساحة نبیّه المقدسة بالعذاب العظیم؛ لأنه لیس من شأنه تعالى أن یرسل العذاب من دون جرم، کما أنه سبحانه عصم نبیه من ارتکاب الذنوب، و معلوم أن العذاب العظیم لا ینزل إلا بسبب الذنب العظیم.[7]
و قد ورد فی تفسیر الأمثل بخصوص المسألة ما یلی: ظاهراً أن الآیات جاءت بخصوص القبض على أسرى الحرب، و لم تکن ناظرةً إلى الفدیة بعد نهایة الحرب. و بناء على هذا الرأی فإن الکثیر من الإشکالات التی تدور فی أذهان المفسرین سوف تجد طریقها إلى الحل بشکل تلقائی و أن الذین وجه إلیهم العتاب هم فئة بادرت إلى القبض على الأسرى قبل انتهاء الحرب بدوافع مادیة، و لم یکن للآیة نظر أصلاً إلى شخص النبی (ص) أو الفئة المجاهدة من المؤمنین الذین یؤدون فریضة الجهاد دون التفکیر بالغنائم المادیة.
و على أساس قبول هذا الفرض فلا یبقى مورد للبحث عما إذا کان الرسول (ص) ارتکب ذنباً لا ینسجم مع القول بعصمته، و کذلک فإنه لا یبقى مورد و لا أساس للأحادیث الواردة فی بعض کتب أهل السنة فی تفسیر الآیة و التی تقول أن الآیة تتعلق بقرار النبی (ص) و المسلمین بخصوص أخذ الفدیة مقابل أسرى الحرب عقیب غزوة بدر، و قبل أن یأذن الله بذلک.[8]
و أما فیما یتعلق بإذن النبی للمنافقین فی واقعة تبوک، فقد قال البعض - و منهم الرازی و غیره -: ُان العفو کان مقابل ترک الأولى، و أن ترک الأولى لا یعد ذنباً بحسب عرف المتشرعة، و لا یترتب علیه العقاب.
و قال بعض آخر: إن العفو کان مقابل ترک الأصلح مع أن ترک الاصلح ذنب لغة، و لکن الفارق بینه و بین ذنب المعصیة واضح، و على أی حال فإن إعطاء الإذن کان على أساس اجتهاد النبی (ص) و من قبل أن ینزل علیه الوحی حول هذه المسألة، و إن الاشتباه فی مثل هذه الموارد جائز على الأنبیاء (ع) و ممکن بالنسبة لهم، و أما ما لا یجوز علیهم فصدور ما یخالف الوحی و الأمر الإلهی، و مما لا خلاف فیه أن الأنبیاء معصومون فی هذا الجانب، و من المستحیل أن یصدر الکذب من نبی من أنبیاء الله، أو أن یتلقى أمراً من الله من خلال الوحی فیرتکب خطأً فی ذلک، أو یخالف ما تلقى فی التطبیق العملی.
یقول العلامة الطباطبائی فی نقله و نقده لهذه الآراء: و الآیة کما ترى و تقدمت الإشارة إلیه فی مقام دعوى ظهور کذبهم و نفاقهم و أنهم مفتضحون بأدنى امتحان یمتحنون به، و من مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب و توبیخه و الإنکار علیه کأنه هو الذی ستر علیهم فضائح أعمالهم و سوء سریرتهم و هو نوع من الکنایة الکلامیة یتبین به ظهور الأمر و وضوحه لا یراد أزید من ذلک، فهو من أقسام البیان على طریق إیاک أعنی و اسمعی یا جارة.
فالمراد بالکلام إظهار هذه الدعوى لا الکشف عن تقصیر النبی (ص) و سوء تدبیره فی إحیاء أمر الله و ارتکابه بذلک ذنباً حاشاه، و أولویة عدم الإذن لهم معناها کون عدم الإذن أنسب لظهور فضیحتهم، و إنهم أحق بذلک لما بهم من سوء السریرة و فساد النیة، لا لأنه کان أولى و أحرى فی نفسه و أقرب و أمس بمصلحة الدین.[9]
و لذلک فإن إذن رسول الله (ص) لا هو ذنب عرفی و لا لغوی، و إن العتاب فی هذه الآیة عتاب غیر جدی، و فی الواقع فإن العبارة فی قوله: «عَفَا اللهُ عَنْکَ» دعاء و لیس إخباراً.[10]
للمطالعة بشکل أوسع:
1- تأملات فی علم أصول الفقه، سلسلة دروس خارج علم الأصول، الکتاب الأول، الدفتر الخامس، مبادئ صدور السنة، ص31-33، الأستاذ مهدی الهادوی الطهرانی.
2- الموضوع: عصمة الأنبیاء فی نظر القرآن الکریم، رقم السؤال 916.
3- الموضوع: آیات عصمة و عدم عصمة الأنبیاء (ع) فی القرآن، رقم السؤال 1013.
[1] هادوی الطهرانی، مهدی، تأملات فی علم أصول الفقه، سلسلة دروس خارج علم الأصول، الکتاب الأول، الدفتر الخامس، مبادئ صدور السنة، ص 21 و 22.
[2] فی واقعة أسرى (بدر) قال تعالى: «مَا کَانَ لِنَبِیٍّ أَنْ یَکُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى یُثْخِنَ فِی الأَرْضِ»، الأنفال، 67.
[3] جاء مجموعة من المنافقین للرسول (ص) بعد أن أظهروا أعذاراً مختلفة حتى أنهم أقسموا أیماناً و ذلک من أجل أن یحصلوا على الإذن من الرسول (ص) بعدم المشارکة فی الحرب، و قد أعطاهم النبی الإذن.
[4] عبد الغنی الخطیب، القرآن و العلوم المعاصرة، ص 64.
[5] محمد، 4.
[6] أی أن الله عاتب الذین اشترکوا فی معرکة بدر فی هذه الآیات، و ذلک عندما أمسکوا بأسرى الحرب و طلبوا من النبی أن لا یأمر بقتلهم لیتسنى لهم أخذ الفداء من أجل أن یتقووا بالأموال مقابل الکفار، و یسدوا حاجاتهم و یصلحوا حالهم. و مع أن الله عاتبهم بشدة إلى أن اقتراحهم قبل و أبیح لهم التصرف بالغنائم بما فی ذلک أخذ الفداء.
[7] الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، ج 9، ص 177- 180.
[8] التفسیر الأمثل، ج 5، ص 496.
[9] و دلیل هذا المعنى الآیة الرابعة بعد الآیة مورد البحث فی قوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِیکُمْ مَا زَادُوکُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَ لأَوْضَعُوا خِلالَکُمْ یَبْغُونَکُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِیکُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» لأن ما یستفاد من هذه الآیة أن عدم إعطاءه الإذن لیس فیه مصلحة و إنما المصلحة أکثر فی إعطاء الإذن، لأنه لو لم یعط الإذن و خرج معه المنافقون فذلک یوقع المسلمین الآخرین فی الخبال، أی فساد الأفکار، مما یبدل اتحادهم بالفرقة و التشرذم و الاختلاف. إذن فالأفضل أن یعطی الإذن و یتخلف المنافقون. المیزان، ج 9، ص 286.
[10] للاطلاع الأوسع یراجع: الطباطبائی، محمد حسین، المیزان، ج 9، ص 381- 388.