Please Wait
6501
معرفة وجود التنافی بین الرؤیتین و عدمه متوقف على تحدید المراد من المصطلحین.
ان مفهوم الاعتماد على النفس فسر بنحوین:
1. معرفة القدرات و الاستعدادات التی تتوفر لدى الفرد و الاستناد على الامکانیات المتاحة لدى الشخص للوصل الى الاهداف و نیل الهویة الواقعیة.
هذا المعنى لایتنافى بای حال من الاحوال مع مفهوم التوکل. ان من ممیزات هذا التعبیر انه ینسجم مع تعبیرین اساسیین واصیلین هما "معرفة النفس" و "ادراک النعم و الاستفادة منه".
2. الاعتماد على النفس بنحو تکون نفس الاستعدادات و القدرات هی المحور فی الاستناد و الاتکاء علیها بحیث یتصور الانسان ان تلک القدرات هی منشاء جمیع الاعمال الحسنة و النجاحات فی الحیاة.
و من الواضح ان هذا النوع من الاعتماد لا انه لا ینسجم مع التعالیم الاسلامیة فقط بل هو سراب و خیال و اوهام، و ان هذا النوع من الاعتماد المذموم هو نوع من الاتکاء على النفس و الاطمئنان بها، یقول امیر المؤمنین (ع): "إن النفس لأمارة بالسوء و الفحشاء فمن ایتمنها خانته و من استنام إلیها أهلکته و من رضی عنها أوردته شر الموارد". (غرر الحکم، ص 237).
مفهوم التوکل: التوکل مأخوذ من مادة "وکالة" التی تعنی انتخاب الوکیل، و وجه التشابه بین الاعتماد على النفس و التوکیل هی: ان الانسان عندما یواجه المشاکل العظیمة و الکبیرة لا یشعر بالضعف و التصاغر امامها بل و بالاعتماد و الاتکاء على القدرة الالهیة اللامتناهیة یتجاوز تلک المحن و یتغلب علیها بنحو یقف امام تلک المشاکل و التعقیدات و یبذل کل ما بوسعه و یستفید من کل الطاقات التی وهبها الله تعالى له، و هذا لایعنی انه یستعین بالله و یتکأ علیه عندما یشعر بالضف و العجز فقط، بل انه یتوکل علیه سبحانه مطلقا سواء کان قادراً على الفعل أم عاجزاً، فهو یرى ان المؤثر هو الله تعالى فی حالات عجزه و قدرته لان الموحد یرى ان جمیع القدرات و الطاقات و ازالة المؤثرات الطبیعیة کلها من الله تعالى، اما الذهاب الى عکس ذلک، فهو یمثل نوعاً من الشرک بالله تعالى لان العوامل الطبیعیة هی الاخرى خاضعة لارادته سبحانه.
اما التفسیر الثانی للاعتماد على النفس فلا ینسجم مع التوکل على الله تعالى، لان یرى ان العوامل و القدرات تعمل بصورة مستقلة فی مقابل الارادة الالهیة و انها مصداق من مصادیق الاتکاء على الغیر و هی متنافیة و غیر منسجمة مع التوکل على الله تعالى.
یقول النبی الاکرم (ص): " َقُلْتُ (یاجبرئیل) وَ مَا التَّوَکُّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ؟ فَقَالَ: الْعِلْمُ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا یَضُرُّ وَ لَا یَنْفَعُ وَ لَا یُعْطِی وَ لَا یَمْنَعُ وَ اسْتِعْمَالُ الْیَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ فَإِذَا کَانَ الْعَبْدُ کَذَلِکَ لَمْ یَعْمَلْ لِأَحَدٍ سِوَى اللَّهِ وَ لَمْ یَرْجُ وَ لَمْ یَخَفْ سِوَى اللَّهِ وَ لَمْ یَطْمَعْ فِی أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ فَهَذَا هُوَ التَّوَکُّل".(بحارالأنوار، ج 66 ،ص 374).
التوصل الى معرفة التنافی بین مفهومی "الاعتماد على النفس" و " التوکل" یتوقف على معرفة هذین المفهومین و ادراک المراد منهما، من هنا یقتضی الامر ان نتعرض لبیان المفهومین:
الف. مفهوم الاعتماد على النفس
ذکر لهذا المصطلح معنیان متفاوتان هما:
المعنى الاول: الاعتماد على النفس؛ یعنی معرفة القدرات و الطاقات المتوفرة لدى النفس و الاعتماد علیها للوصول الى المقاصد و الاهداف التی یرومها و الوصول الى الهویة الواقعیة للانسان.
ان هذا المعنى لا یتنافى مع المفاهیم الدینیة بل هو ینسجم تمام الانسجام معها لانه یمثل ارادة الله تعالى لانه تعالى اراد لنا ذلک و نحن مسؤولون امام الله تعالى فی کشف تلک الطاقات و القدرات و الاستعدادات الالهیة و ان عدم التحرک فی هذا الاطار یعنی ان الانسان یفقد الکثیر من الهبات و المنح الالهیة و التی تؤدی على اقل تقدیر الى عدم النجاج فی الحیاة و الفشل فی کشف مرضاة الله تعالى.
اذا هذا المعنى للاعتماد على النفس یمثل مفهموما ممدوحا و حسنا.
و هناک عوامل کثیرة تکمن وراء ممدوحیة هذا المعنى للاعتماد على النفس، منها:
1- ان یعرف الانسان من هو؟ و ما هی قدراته و امکانیاته؟ ما هی نقاط القوة و الضعف عنده؟ ما هی العوامل الایجابیة فی الانا؟ ما هی المسؤولیات الواقعة على عاتقه؟ ما هی قدراته المادیة و المعنویة؟ و کیف و بای نحو یمکن استغلال تلک الطاقات الحیاتیة و الاستفادة منها على اکمل وجه؟
و من الواضح ان کل تلک التساؤلات هی انعکاس لتعبیرین اساسیین هما "معرفة النفس" و "معرفة النعم الالهیة و الاستفادة منها".
ان هذا الاعتقاد یعنی الالتفات الى البعد الثانی للانسان و الالتفات الى البعد العالی و السامی للانسان... .
أ لیس الله تعالى وهب الانسان نعما و جعله مسؤولا عنها؟
اذاً تحمل مسؤولیة النعم الالهیة لایمکن الا من خلال الاتکاء على القدرات الموهوبة و الاعتماد على النفس و استغلال النعم الالهیة و الاحسان بها ایجابا.
من هنا یکون معنى "الاعتماد على النفس" عبارة: عن تصدیق الانسان بانه ایضا عبد من عباد الله الذی منح تلک القدرات و انه بالامکان استغلالها و الاستفادة منها من اجل الرقی و التکامل و الاّ لم یشکر المنعم.
2. من هنا نقبل الرای الاوّل لمعنى "الاعتماد على النفس" الذی یثبت الاستقلالیة و الثقة بالنفس و نفی التبعیة و عدم النظرة الدونیة للنفس. و بعبارة اخرى، الاعتماد على النفس یعنی التصدیق الواعی و المثمر و النافع بالقیم و الطاقات و القدرات بنحو یقضی هذا الاعتماد على النفس على انهزام الانسان المسلم امام المدعیات الفارغة و اصحاب الکروش المنتفخة الذین لا یعرفون للانسان ای معنى.
ان الاعتماد على النفس یمنح الذهن البشری الاستقرار و النظم و ان من خلاله یصل الانسان الى مفاتیح اسرار النجاح. أ لیس الاسلوب المعتمد لدى الدول الاستعماریة الغازیة هو سلب الهویة و تلقین تلک الشعوب حالة العجز بحیث یجعلونها تصدق انها لا تحسن شیئا و انها فاقدة لکل الامکانات و القدرات، و انه من السابق لاوانه التفکیر بالاستقلال بل علیکم ان تعیشوا تحت الوصایة، من هنا یجعلون الانسان یفقد حالة الاعتماد و الثقة بالنفس و یسقط فی شباک الاغتراب عن النفس و استلاب الهویة... و ان نفس هذا الاقرار بالفقر و الحاجة هو الخطوة الاولى للتحول الثقافی و الدینی و الاجتماعی.
ان الکثیر من الذین یصابون بالامراض النفسیة و الوقوع فی الجریمة هم من النوع الذین فقدوا الثقة بالنفس و نظروا الى انفسهم نظرة ازدراء و هوان.
یقول احد الباحثین فی القضایا النفسیة: ان عزة النفس تعلب دورا فاعلا فی التصرفات التی تصدر من الانسان سواء کانت تلک التصرفات منطقیة و سلیمة ام کانت تصرفات خاطئة و غیر سلیمة، و قد اثبتت الدراسات ان عزة النفس یمکن ان تکون سببا فی الوقایة و تعدیلات التصرفات او فی تشدیدها.[1]
یقول الامام الهادی (ع): "من هانت علیه نفسه فلا تأمن شرّه".[2]
اذاً الاعتماد على النفس أمر ممدوح لانه یؤدی الى الثقة بالنفس و ان من ثمارها ارتقاء الهمة و بروز الطاقات.
یقول النبی الاکرم (ص): "مم الرجال تزیل الجبال".[3]
یقول الغزالی: معنى الهمة تمالک النفس و رباط الجأش، و ان همة العظماء تعنی معرفة النفس و العزة".[4]
3. من الخصائص الایجابیة لهذا المعنى من الاعتماد على النفس هو انسجام هذا المعنى مع مفهوم التوکل.
المعنى الثانی لمفهوم الاعتماد على النفس:
مفهموم الاعتماد على النفس یعنی ان یتکأ الانسان على نفسه! بنحو یعتمد على طاقاته و معلوماته بحیث یراها هی منشأ الخیرات و النجاحات.
ان هذا الفهم لا انه لاینسجم مع المفاهیم الاسلامیة فقط، بل انه لایعدو کونه سرابا و أوهاما!، ان هذا النوع من الاعتماد على النفس ینبغی ان یطلق علیه عنوان الزهو و الانغرار بالنفس و الاطمئنان بها، الذی هو سبب الانکسارات و الهزائم فی معترک الحیاة، و ان اکثر الطعنات التی یتلقاها الانسان هی من هذا التفکیر الخاطئ، یقول امیر المؤمنین (ع): "من وثق بنفسه خانته".[5]
لماذا هذا المعنى للاعتماد على النفس مذموم؟
الاجابة عن السؤال تظهر من خلال الاشارة الى العوامل التالیة:
1. الفهم المذکور یخلق شخصیة کاذبة و غیر متزنة، فحینما یعتقد الانسان بفکرة "یکفی ان ارید" فالصحیح ما اراه صحیحا و الخطا ما اراه خاطئا اذا لابد ان تنفذ ارادتی، فلا مانع یعترض طریقی و... .
ان هذا النمط من التفکیر یخلق حالة من الافراط فی الاتکاء على النفس و الاطمئنان بها و الاغترار بها. و من الواضح جداً ان هذه الامواج المتلاطمة و المتسنقعات تترک اثرها على روح الانسان و طریقة تفکیره بحیث تجره على عدم الاتزان و التعادل فی الشخصیة.
فعلى ای حال لابد من معرفة الحدود و الاعتراف بتاثر سائر العوامل الاخرى، و اما الاعتماد على هذا النوع العجیب من الاعتماد على النفس لایبقى مجال للرؤیة المتعادلة و التقییم الواقعی للقدرات و الطاقات الانسانیة، یقول امیر المؤمنین (ع) ما معناه:" لو کنتم ترجون رحمة الله علیکم ان تعرفوا حدود امکاناتکم و عدمها... و الا تجاوزتم حدودکم و سحقتم الامل بالرحمة الالهیة".[6]
من هنا نرى الاسلام ینهى الانسان عن مثل هذا الفهم و الاتکاء على النفس بهذه الصورة الافراطیة، لانها تستتبع نتائج وخیمة فاذا لم یتخلص الانسان عن الحالة النفسیة هذه فانه سیقع اسیر مرضین خطیرین هما العجب و حب النفس.
بالاضافة الى الامراض الناتجة عن العجب (حیث یرى الانسان نفسه عن حدود التقصیر و الارتیاح لما یصدر منه من اعمال). قیل ان هذه الشجرة الخبیثة یتبعها الکثیر من الذنوب الکبیرة... . ان حجاب العجب و الانانیة یمنع من یرى الانسان عیوبه الامر الذی یحرم الانسان من الوصول الى جمیع الکمالات... کذلک من نتائج العجب و مضاره الاتکاء على الذات بالنحو المذکور مما یؤدی الى ان یتصور الانسان الجاهل انه بغنى عن الله تعالى و لا یلتفت الى فضل الله تعالى و نعمه علیه.[7]
2. ان الاعتماد على النفس بالنحو المذکور یمثل انکارا عملیا للتوحید الافعالی لله تعالى:
فمن الثابت فی علم الکلام؛ أنّ کلّ وجود و کلّ حرکة و کلّ فعل فی العالم یعود إلى ذاته المقدّسة، فهو "مسبب الأسباب و علة العلل". حتى الأفعال التی تصدر منّا هی فی أحد المعانی صادرة عنه. الا ان هذا المعنى من التوحید لایعنی انه سبحانه سلب منا الارادة و الاختیار بل الذی منحنا القدرة و الإختیار و حریة الإرادة بحیث اّنا نفعل الأفعال بأنفسنا، و أنّنا مسؤولون تجاهها. فالفاعل من جهة هو اللّه سبحانه لأنّ کلّ ما عندنا یعود إلیه: (لا مؤثر فی الوجود إلّا اللّه).[8] من هنا لو اعتقد الانسان بانه الفاعل لما یرید من دون ای قید او شرط او دخالة قدرة اخرى، فقد وقف حیئذ فی مواجهة الارادة والقدرة الالهیة.
ب. تحدید مفهوم التوکل
التوکل مأخوذ من مادة "وکالة" التی تعنی انتخاب الوکیل. و من المعلوم، اولاً: ان انتخاب الوکیل و المحامی انما یحتاج الیه الانسان فی الحالات التی یعجز عن القیام بها بصورة شخصیة، فهو فی الحقیقة یستفید من طارقات و قدرات اخرى و یستعین بها فی حل مشاکله.
ثانیاً: المحامی و المدافع الجید هو من اتصف – على اقل تقدیر- بالصفات الاربعة التالیة: العلم الکافی، و الامانة، و القدرة، و المبالغة فی رعایة مصلحة موکّله".[9]
ان التفسیر الاوّل لمعنى الاعتماد على النفس "یعنی معرفة القدرات و الطاقات المتوفرة لدى النفس و الاعتماد علیها و الاستفادة من الطاقات المتاحة"، لایتنافى مع التوکل، لانه و بصرف النظر عن المفاهیم الکامنة فیه من قبیل معرفة النفس و معرفة الطاقات و الاستفادة منها، نرى ان التوکل الحقیقی فی الاساس ترجع جذورة الى قضیة الاعتماد على النفس، کیف اذا عرفنا انّ القصد من التوکّل ان لا یحسّ الإنسان بالضعف فی مقابل المشکلات العظیمة، بل بتوکّله على قدرة اللّه المطلقة یرى نفسه فاتحا و منتصرا، و بهذا الترتیب فالتوکّل عامل من عوامل القوّة و استمداد الطاقة و سبب فی زیادة المقاومة و الثبات. و إذا کان التوکّل یعنی الجلوس فی زاویة و وضع احدى الیدین على الاخرى، فلا معنى لأن یذکره القرآن بالنسبة للمجاهدین و أمثالهم.
و إذا اعتقد البعض انّ التوکّل لا ینسجم مع التوجه الى العلل و الأسباب و العوامل الطبیعیّة، فهو فی خطأ کبیر، لانّ فصل العوامل الطبیعیّة عن الارادة الالهیّة یعتبر شرکا باللّه، او لیست هذه العوامل تسیر بأوامر و مشیئة اللّه؟
نعم إذا اعتقدنا انّ العوامل مستقلّة عن ارادته فهی لا تتناسب مع روح التوکّل.[10]
خلاصة الکلام: الثقة بالنفس و الاعتماد علیها بمعنی الاستفادة من الطاقات المتاحة و الابتعاد عن الیأس، هذا المعنى یقترن مع التوکل، فهل من الصحیح ان نفسّر التوکّل بهذا التّفسیر، مع انّ الرّسول الأکرم (ص) الذی هو رأس المتوکّلین لم یغفل من استخدام الخطط الصحیحة و الاستفادة من الفرص المتاحة و انواع الوسائل و الأسباب الظاهریة لتحقیق اهدافه، انّ هذا یثبت انّ التوکّل لیس له مفهوم سلبی.[11]
اما لماذا یکون المعنى الثانی للاعتماد على النفس یتنافى مع التوکل؟
ان النقطة المقابلة للتوکل على الله تعالى هی الاعتماد على غیره سبحانه؛ یعنی ان الاتکالیة تعنی التبعیة للاخرین و عدم الاستقلالیة، اما التوکل على الله تعالى فهو ینجّی الإنسان من التبعیة التی هی اصل الذلّ و العبودیة، و یمنحه الحریة و الاعتماد على النفس. و قد روی عن النبی الاکرم (ص) انه قال: "سألت جبرئیل: ما هو التوکّل؟ قال: العلم بأنّ المخلوق لا یضرّ و لا ینفع، و لا یعطی و لا یمنع، و استعمال الیأس من الخلق فإذا کان العبد کذلک لم یعمل لأحد سوى اللّه و لم یطمع فی احد سوى اللّه فهذا هو التوکّل".[12]
مصادر للمطالعة:
1. الامام الخمینی (ره)، الاربعون حدیثا، احادیث العجب، التکبر، هوى النفس، التوکل، الاخلاص.
2- نجاتی، ابراهیم، القرآن و روانشناسی "القرآن و علم النفس"، الفصل التاسع بحث الشخصیة فی القرآن.
3- شرقاوی، حسن، ما وراء علم النفس الاسلامی".