بحث متقدم
الزيارة
6992
محدثة عن: 2009/11/01
خلاصة السؤال
هل تكامل الانسان مقرون بالاختيار و الحركة الاختيارية؟
السؤال
يستفاد من الآيات و الروايات الوارد في المصادر الاسلامية أن تكامل الانسان لا يتم الا من خلال الأعمال الاختيارية، أ ليس هذا يعني أنه من المتسحيل ذاتاً بلوغ التكامل الا عن هذا الطريق؟ و اذا كان كذلك ما الدليل الفلسفي على استحالته؟ فعلى سبيل المثال لو فرضنا أن الله تعالى خلق الانسان شأنه شأن سائر المخلوقات يتكامل ذاتياً و بلا اختيار، ما المحذور في هكذا تكامل حينئذ؟ الرجاء كون الاجابة منطلقة من القواعد الفلسفية.
الجواب الإجمالي

كل مرتبة من مراتب الوجود و كل درجة من درجات التكامل من أدنى مراتبها و حتى المراتب العالية، تحوز على درجة من الوجود الربطي و الذي يكشف عن ميزان قرب تلك المرتبة من الحق تعالى، و لكل مرتبة كمالاتها التي تميزها عن ما دونها و ما فوقها، و ان المرتبة المتدنية هي الاخرى لها كمالها الخاص بها و لكن بمستوى أدنى.

و عليه، عندما  تؤخذ صفة الارادة، بل الاختيار في ذات الوجود و كافة المراتب و اعتبارها من الامور الذاتية، حينئذ نرى مدى الخلل – من زواية النظر الفلسفية- في تصور موجود خال من اصل الارادة و الاختيار و مدى مردودها السلبي على تكامله، بل لا يمكن القبول بهكذا فكرة قطعاً، أضف الى ذلك أن القول بالتكامل الجبري للموجودات يعني انها في الوقت الذي تتكامل فيه وجوديا هي فاقدة للتكامل الاختياري، و الحال ان الامرين واحد و بينهما علاقة التلازم ( اللازم و الملزوم)، و في خصوص الانسان الذي يتوفر على الحد الاقصى من الاختيار،  فان مقام الخلافة الالهية له عين مقام الاختيار الشامخ و الباعث على تمايزه عن جميع المخلوقات، و ان سلب هذه الخاصية من الانسان يعني سلب تلك المنزلة و المكانة التي حظي بها، و يعد ذلك نقضا للغرض الذي خلق من أجله.

فالتكامل الوجودي عين التكامل في الاختيار و أن ارفع تلك المراتب هي مرتبة الخلافة الالهية التي تستلزم الحد الاقصى من الوجود و ارفع درجات الاختيار. و من زاوية النظرة العرفانية أن الخلافة الالهية تعني أن الانسان يفنى في نهاية المطاف في العشق الالهي و يبقى ببقائه، و هذا يستلزم وجود ارفع درجات العشق؛ لان العشق يساوق الاختيار و عينه، و من هنا يستحيل عقلا تصور التكامل النهائي للانسان الذي هو مرآة المشيئة الالهية بلا توفر جوهرة العشق الالهي، و لا ريب أن العشق لا ينسجم بحال من الاحوال مع الاجبار و الاضطرار، بل العشق لب الاختيار و جوهره.

الجواب التفصيلي

السؤال المطروح قبل أن يكون سؤالا فلسفياً يستدعي إجابة فلسفية هو في الواقع شبهة كلامية متأثرة بالنظريات الكلامية المطروحة. و لكن لو نظرنا الى القضية نظرة فلسفية متعمقة، لابد من التركيز على دور الاختيار في مراتب الوجود و العدل الالهي من الزاوية الوجودية.

و يمكن الانطلاق من الحكمة المتعالية و العرفان النظرية ليضعا تحت متناول أيدينا مجموعة من الابحاث و يرسما لنا خطة ستراتيجية تكون ركيزة في الاجابة عن الكثير من الابهامات و الاشكالات، و ربّما يؤدي التعمق في هذه الرؤى و النظريات بالنسبة الى عالم الوجود، الى انتفاء تلك الشبهات بصورة تلقائية.

و لبيان مكانة الإرادة و الاختيار في تكامل الانسان فلسفياً، ينبغي التعرض لمقدمة مهمة تتمثل في كون الحركة الوجودية في مسير التكامل خلال قوس الصعود تبدأ من مرحلة المادة المحضة لتصل في نهاية المطافة الى مقام الخلافة الالهية التي تمثل الغاية القصوى لعالم الوجود.

و كل مرتبة من مراتب الوجود و كل درجة من درجات التكامل من أدنى مراتبها و حتى المراتب العالية، تحوز على درجة من الوجود الربطي و الذي يكشف عن ميزان قرب تلك المرتبة من الحق تعالى، و لكل مرتبة كمالاتها التي تميزها عن ما دونها و ما فوقها، و ان المرتبة المتدنية هي الاخرى لها كمالها الخاص بها و لكن بمستوى أدنى.

من هنا كل موجود يرتقي بمقدار اشتداده الوجودي، و المرتبة الدنيا لتلك الكمالات هي مرتبة القابلية و الاستعداد. و من تلك الكمالات الوجودية صفة الإرادة و الاختيار حيث يتمظهر حد خاص منها في كل مرتبة من المراتب.

و قد أطلق العرفاء على هذا المفهوم العام الساري في جميع المخلوقات عنوان "العشق" و عبّر عنه قرآنياً بمفهوم " سجود المخلوقات و تسبيحها".

و لا تستثني هذه الرؤية جميع الموجودات حتى الجمادات و النباتات منها.

يقول الملا هادي السبزواري في سريان مراتب الاختيار في عالم الوجود: مقتضى كون الاشياء مظاهر القادر المختار و من هنا الجميع مختار حتى الجمادات بحسب ظرفها، فما يتمظهر في العبد هو ظهور القادر المختار، و من هنا توفره على القدرة و الاختيار يعني كونه قادرا بقدرته و مختارا باختياره.[1]

و عليه، عندما  تؤخذ صفة الارادة، بل الاختيار في ذات الوجود و كافة المراتب و اعتبارها من الامور الذاتية، حينئذ نرى مدى الخلل – من زواية النظر الفلسفية- في تصور موجود خال من اصل الارادة و الاختيار و مدى مردودها السلبي على تكامله، بل لايمكن القبول بهكذا فكرة قطعاً، أضف الى ذلك أن القول بالتكامل الجبري للموجودات يعني بانها في الوقت الذي تتكامل فيه وجوديا هي فاقدة للتكامل الاختياري، و الحال ان الامرين أمر واحد و بينهما علاقة التلازم، و في خصوص الانسان الذي يتوفر على الحد الاقصى من الاختيار،  فان مقام الخلافة الالهية له عين مقام الاختيار الشامخ و الباعث على تمايزه عن جميع المخلوقات، و ان سلبه من الانسان يعني سلب تلك المنزلة و المكانة التي حظي بها و يعد نقضا للغرض الذي خلق من أجله.

و بعبارة أخرى:  لا يمكن عد الاختيار في كل مرتبة من مراتب الوجود أمراً ثانوياً، بل هو من الامور الذاتية للاشياء. و من هنا يستحيل سلبه من ذات الوجود.

انطلاقاً من ذلك يرفض الفكر الفلسفي نظرية حاكمية الجبر على عالم الوجود الذي يعج بالشعور و الاحساس في كافة مراتبه، فالاشياء كلها ذات شعور و لا يمثل الانسان استثناءً منها، بل الجميع مشمولة بقاعدة الاختيار مع عدم التفويض، لا ان الانسان واقع في مرتبة من مراتب الاختيار التي يتطلبها مقام الخلافة الالهية و الذي يعبر عنه بمقام الأمانة الالهية، و هو المقام المفصلي للانسان و العلة في تفوقه على سائر الموجودات، و هذا ما اشارت اليه الآية الكريمة: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»؛[2]

فالتكامل بنحو عام و نيل الخلافة و الولاية الالهية بنحو خاص يستحيل عقلا على الانسان تحصيلها و التوفر عليها  من غير مجرى الاختيار. من هنا شاء الارادة الالهية افاضة الارادة من بدء الخليقة على اعلى المراتب، الا ان اقتضاءات المخلوقات منعت – ذاتاً- من ظهورها كاملاً.

اتضح مما مرً ان التكامل الوجودي عين التكامل في الاختيار و أن ارفع تلك المراتب هي مرتبة الخلافة الالهية التي تستلزم الحد الاقصى من الوجود و ارفع درجات الاختيار. و من زاوية النظرة العرفانية ان الخلافة الالهية تعني أن الانسان يفنى في نهاية المطاف في العشق الالهي و يبقى ببقائه، و هذا يستلزم وجود ارفع درجات العشق، و العشق يساوق الاختيار و عينه، و من هنا يستحيل عقلا تصور التكامل النهائي للانسان الذي هو مرآة المشيئة الالهية بلا توفر جوهرة العشق الالهي، و لا ريب أن العشق لا ينسجم بحال من الاحوال مع الاجبار و الاضطرار، بل العشق لب الاختيار و جوهره.[3]

 


[1] قدر دان قرا ملکي، محمد حسین، نگاه سوم به جبر و اختیار، ص 159، نقلا عن السبزواري، ملاهادي، اسرار الحکم، ص 113.

[2] - احزاب، 72.

[3] لمزيد البحث في هذه القضية يلزم مراجعة الابحاث المتعلقة بالامر بين الامرين من زاوية النظر الفلسفية و العرفانية، و كذلك مباحث الإرادة و الاختيار في عالم البرزخ و مراتب الوجود.

 

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279356 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256902 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128055 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112873 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88917 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59624 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59353 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56809 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49380 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47110 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...