Please Wait
7318
ما المراد من رجم الشیاطین هنا؟
ان الله تعالى تحدث فی القرآن الکریم على مستوى الملک و الملکوت و ذلک لان مفهومی الملک و الملکوت بالنسبة للانسان مفهومان متمایزان؛ و اما بالنسبة الى الله تعالى فلا یختلف الملک عن الملکوت و لا یمتازان عنده سبحانه حیث هما سیّان بالنسبة الیه سبحانه. و على هذا الاساس کلمة " السماء" تأتی فی القرآن احیانا بمعنى عالم الملکوت و مقام الملائکة، و تارة اخرى تأتی بمعنى السماء الدنیا (السماء القریبة من الارض و الکواکب و النجوم المادیة). فبعض الآیات من قبیل الآیات التی ذکرت فی متن السؤال کانت بصدد التمثیل لطرد الشیاطین و مصونیت الحق و الوحی. و هذه الآیات غیر ناظرة الى السماء المادیة بل هی بصدد الحدیث عن المقام الذی یحتله الملائکة ( و هو مقام غیر مادی) فکلما حاولت الشیاطین الاقتراب من عالم الملائکة للتعرف على اسرار ذلک العالم و اسرار الخلقة و الحوادث المستقبلیة، تطردهم الملائکة بنورها الملکوتی، لکن فی آیات اخرى یراد به السماء الدنیا المادیة، فلامنافاة بین الآیات و لایوجد ادنى اشکال او اعتراض على ذلک.
ورد فی آیات کثیر من الذکر الحکیم الحدیث عن الکواکب السماویة و الشهب و الاحجار و الشیاطین، منها قوله تعالى" وَ حَفِظْناها مِنْ کُلِّ شَیْطانٍ رَجِیمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِینٌ "[1] و نفس هذا المضمون ورد فی سورة الصافات و الجن.
و هنا یطرح السؤال التالی: کیف ترجم الشیاطین بالشهب السماویة؟
لقد اهتم المفسرون بتفسیر قوله تعالى " إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِینٌ " حیث تعرض صاحب تفسیر الامثل لذکر تلک الاراء بصورة مفصلة.[2] و نحن هنا و لتوضیح الآیة نشیر الى المباحث القیمة التی ذکرها العلامة الطباطبائی فی تفسیره القیم المیزان فی تفسیر القرآن.
یقول العلامة الطباطبائی(ره): أورد المفسرون أنواعا من التوجیه لتصویر استراق السمع من الشیاطین و رمیهم بالشهب و هی مبنیة على ما یسبق إلى الذهن من ظاهر الآیات و الأخبار أن هناک أفلاکا محیطة بالأرض تسکنها جماعات الملائکة و لها أبواب لا یلج فیها شیء إلا منها و أن فی السماء الأولى جمعا من الملائکة بأیدیهم الشهب یرصدون المسترقین للسمع من الشیاطین فیقذفونهم بالشهب.
و قد اتضح الیوم اتضاح عیان بطلان هذه الآراء و یتفرع على ذلک بطلان الوجوه التی أوردوها فی تفسیر الشهب و هی وجوه کثیرة أودعوها فی المطولات کالتفسیر الکبیر، للرازی و روح المعانی، للآلوسی و غیرهما.
و یحتمل- و الله العالم- أن هذه البیانات فی کلامه تعالى من قبیل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس فی صورة المحسوس لتقریبها من الحس و هو القائل عز و جل: «وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ:»[3] و هو کثیر فی کلامه تعالى و منه العرش و الکرسی و اللوح و الکتاب و قد تقدمت الإشارة إلیها و سیجیء بعض منها.
و على هذا یکون المراد من السماء التی تسکنها الملائکة عالما ملکوتیا ذا أفق أعلى نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض، و المراد باقتراب الشیاطین من السماء و استراقهم السمع و قذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائکة للاطلاع على أسرار الخلقة و الحوادث المستقبلة و رمیهم بما لا یطیقونه من نور الملکوت، أو کرتهم على الحق لتلبیسه و رمی الملائکة إیاهم بالحق الذی یبطل أباطیلهم.[4]
و إیراده تعالى قصة استراق الشیاطین للسمع و رمیهم بالشهب عقیب الإقسام بملائکة الوحی و حفظهم إیاه عن مداخلة الشیاطین لا یخلو من تأیید لما ذکرناه و الله أعلم.[5]
کذلک تعرض صاحب تفسیر الامثل لهذه الآیات حیث قال فی بیان المعانی المحتملة فیها:
1- أشار القرآن الکریم بکلمة «السماء» إلى نفس هذه السماء التی یتبادر الذهن إلیها تارة، و إلى السمو المعنوی و المقام العلوی تارة أخرى.
1- فمثلا نقرأ فی الآیة (40) من سورة الأعراف "إِنَّ الَّذِینَ کَذَّبُوا بِآیاتِنا وَ اسْتَکْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ".[6]
فمن الممکن حمل معنى السماء هنا على الکنایة عن مقام القرب من اللّه عزّ و جلّ.
2-و قرأنا فی تفسیر الآیة (24) من سورة إبراهیم" أَ لَمْ تَرَ کَیْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِی السَّماءِ" إنّ أصل الشجرة الطیبة المشار إلیها فی الآیة هو رسول اللّه (ص) و الفرع علی (ع) و الفرع هنا هو الأصل الثانوی الذی یرتفع فی السماء) و الأئمّة علیهم السلام هم الفروع الأصغر [7]
لا ریب أنّ «السماء» المستعملة هنا لیست السماء المشاهدة.
نستنتج ممّا سبق أنّ «السماء» قد استعملت بمفهومیها المادی و المعنوی أو الحقیقی و المجازی.
ب: و «النجوم» کذلک، بمفهومها المادی .. هذه الأجرام السماویة التی تشاهد فی السماء. و مفهومها المعنوی . أولئک العلماء و الأشخاص الذین ینیرون درب المجتمعات البشریة.
فکما أنّ سالک الصحراء و عابر البحر یستهدیان بالنجوم و اللیالی الحالکة الداکنة، فکذلک المجتمعات البشریة، فإنّها تسلک الطریق السلیمة لترشید حیاتها و نیل سعادتها بنور أولئک المؤمنین الواعین من العلماء و الصالحین.
کما نقرأ فی تفسیر علی بن إبراهیم فی ذیل الآیة "وَ هُوَ الَّذِی جَعَلَ لَکُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِی ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ"[8].
إنّ الإمام (ع) قال: «النجوم آل محمد (ص)»[9].
ج- یستفاد من الرّوایات العدیدة التی وردت فی تفسیر الآیات المبحوثة، أن منع الشیاطین من الصعود إلى السماوات و طردها بالشهب تمّ حین ولادة النّبی (ص)، و یستفاد من بعضها أنّ ذلک حدث أثناء ولادة عیسى بن مریم (ع) کذلک و لکن لفترة معینة، و أمّا عند ولادة نبیّنا الأکرم (ص) فقد تمّ المنع بشکل کامل[10].
و من کل ما تقدم یمکننا القول: إن «السماء» کنایة عن سماء الحق و الإیمان، و الشیاطین تسعى أبدا لاختراق هذه السماء و التسلل إلى قلوب المؤمنین المخلصین عن طریق تخدیر حمارة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.
و لکن علم و تقوى أولیاء اللّه و قادة دعوة الحق من الأنبیاء و الأئمّة (علیهم السّلام) و العلماء العاملین کفیل بأن یبعد عبدة الجبت و الطاغوت عن هذه السماء.
و هذا ما یساعدنا على أن نفهم تلک الرابطة بین الصعود إلى السماء و الاطلاع على الأسرار.
و لا بدّ من الالتفات إلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة الغلاف الجوی للأرض فقط، و ذلک حینما تلتهب تلک الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتکاکها بالهواء، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوی فخال من الشهب.
نعم، هناک صخور و کرات تسبح فی الفضاء إلّا أنّها لا تسمى شهبا إلّا بعد دخولها فی منطقة الغلاف الجوی فتلتهب و تظهر للعیان على هیئة خط ناری واضح تخیل للناظر أنّها نجمة متحرکة بسرعة.
و کما هو معلوم، فإنّ إنسان العصر الحدیث قد نفذ مرارا من هذه المنطقة، بل و غالى فی نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر.
فإنّ کان المقصود من الشهب فی الآیة عین الشهب المشاهدة لنا، فیمکن القول: إنّ علماء البشر قد اکتشفوا هذه المنطقة و لم یجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.
و الخلاصة: یظهر لنا من خلال ما ذکر من قرائن و شواهد کثیرة أن المقصود من السماء هو سماء الحق و الحقیقة، و أنّ الشیاطین ذوی الوساوس یحاولون أن یجدوا لهم سبیلا لاختراق السماء و استراق السمع، لیتمکنوا من إغواء الناس بذلک، و لکنّ النجوم و الشهب (و هم القادة الربانیون من الأنبیاء و الأئمّة و العلماء) یبعدونهم و یطردونهم بالعلم و التقوى.
و لکن، بما أن القرآن الکریم بحر غیر متناه، فلا ینبغی البناء القطعی على هذا التأویل، و ربّما المستقبل سیحفل بتفسیر آخر لهذه الآیات مستندا على حقائق لم نصل لها فی زماننا.[11]
و قد یشکل على هذا التفسیر بما ورد فی ذیل الآیة حیث وصفت السماء بکونها"السماء الدنیا" و کذلک صرحت هذه التفاسیر بان المراد من السماء هی السماء المادیة ذات الکواکب و النجوم الکثیرة؛ فکیف نفسر الآیات التی تشترک مع هذه الآیة بنفس المضمون بالسماء المعنویة؟ أ لیس ذلک تناقضا فی التفسیر؟
جوابه: ان هذا الاشکال نابع من محدودیة النظرة البشریة حیث إن الانسان لمحدودیته المادیة حیث لایمکنه ان یدرک جمیع العوالم( عالم الملک و الملکوت) و انه یرى بالنسبة الیه ان عالم الملک و عالم الملکوت عالمین متمایزین، من هنا یرى -غفلة منه- أن الله تعالى محدود مثله و الحال ان عالمی الملک و الملکوت بالنسبة الى الباری تعالى سیان، من هنا نرى القرآن الکریم یتحدث عن عالمی الملک و الملکوت" وَ لَقَدْ زَینَّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابیحَ ..."[12] و المراد من السماء هنا السماء الدنیا المادیة القریبة منا و عالم الملک. ثم یقول تعالى " وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّیاطینِ "[13] و المراد -هنا کما یرى المفسرون- هو عالم الملکوت.
[1] الحجر،17.
[2] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج 8، ص 40.
[3] العنکبوت،43.
[4] المیزان فی تفسیر القرآن، ج 17، ص 124 - 125.
[5] نفس المصدر،125.
[6] الاعراف،40.
[7] راجع تفسیر البرهان، ج 2، ص 310.
[8] الانعام، 97.
[9] بحارالأنوار، ج 24، ص 77.
[10] نور الثقلین، ج 3، ص 5- تفسیر القرطبی، ج 5، ص 3626.
[11] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج 8، ص 44- 48.
[12] الملک، 5.
[13] الملک، 5