Please Wait
6506
عندما شكّل تهديد الروم من ناحية بلاد الشام خطراً على الحدود الشمالية للدولة الإسلامية و استوحش الجميع من قدرة الروم المشهورة، رأى الرسول الأكرم (ص) أن المصلحة تقتضي بأن يجهّز جيشاً کبیراً من كل أنحاء البلاد الإسلامية و يرسله إلى الحدود الشمالية للدولة الإسلامية، و عندما حان الوقت المقرّر أمر الرسول (ص) الجيش بالحركة و على خلاف ما سبق لم يأخذ معه الإمام علياً (ع) في هذه الحرب بل خلّفه نائباً عنه في المدينة.
انتهز المنافقون هذه الفرصة و أشاعوا في المدينة بأن النبي (ص) يرى أن حفظ حياة صهره أعزّ و أفضل عنده من جهاد الروم و لعله كان بطلب من ـ علي (ع) ـ نفسه. تلقى الإمام علي (ع) هذه الشائعة و التحق بالنبي (ص) مسرعاً و أصرّ عليه بأن يأذن له في الحضور في ركابه في هذه الحرب.
اما رسول الله (ص) فلتطیب بال الإمام علي (ع) و طمأنته ـ حسب الظاهر ـ و لتبليغ مسألة مهمة للمسلمين حقیقة أجابة قائلاً: "اما ترضی أن تکون منّي بمنزلة هارون من موسی إلّا أنه لا نبيّ بعدي".
مضت الشهور و الأعوام حتى حلّ موسم آخر حجة لخير البرية (ص)، أراد الرسول (ص) و إرادته مستلهمة من الإرادة الإلهية أن يطّلع كل المسلمين على هذا السفر حتى يصحبه كل متمکن من الحج (من المهاجرين و الأنصار و القبائل الساكنة في أطراف المدينة و الساكنين في كل البلاد الإسلامية) و أمر أن يُبلَّغ هذا الخبر للجميع. اُرسل الرسل بصورة خاصة إلى كل نقاط الدولة الإسلامية لدعوة الناس في المدن و الواحات و البادية للحوق بالرسول (ص) في هذا الحج.
خرج الرسول الأكرم (ص) من المدينة قبل قوافل الحجاج و خرجت على إثره باقي القوافل. و قد شيّعه كل من لم يوفق إلى مصاحبته أو لم يقدر على ذلك بالدموع و الحسرات. و قد انضمّ الناس إلى هذه القافلة الكبرى في الطريق على شكل جماعات و مواكب. و بعد أداء مراسم الحج و في طريق العودة إنقلب حال النبي (ص) فجأة و حصل له ما يحصل عند نزول الوحي. لقد أبلغه أمين الوحي بياناً قاطعاً من الله سبحانه أن "يَأَيهُّا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس" توقّف النبي الأعظم (ص) و محل توقّفه كان في آخر نقطة مشتركة في مسير القوافل إذ بعد هذا المكان يأخذ كلٌ طريقه إلى دياره.
كان النبي (ص) يعلم بوجود المنتهزين و المستغلين بين أمته الذين لو وجدوا فرصة لغيّروا مصير هذه الأمة بالشكل الذي يريدون فليس لإرادة الله و إرادة رسوله أهمية عندهم فهي كالمتاع الذي لا يرغب به أحد منهم. إذن لا بد لهذه القافلة المتّزنة التي في أول مسيرها من أمير و الزمان آنذاك و المكان أنسب ما يكونان لهذا الأمر.
نادى منادي القافلة بالتوقف. فرجع المتقدّم، و تجمّع الجمع، ترجل الركّاب و وضع المشاة أمتعتهم على الأرض. كان الجميع في أهبة الإستعداد لتلقي الأوامر. علم الجميع أن أمراً مهمّا قد حدث حيث دعى النبي الجميع للبقاء و لسماع هذا الأمر المهم.
نُصّب منبر في أسفل نقطة من هذه الفلاة لكي يرى الجميع وجه الرسول المشرق بسهولة. فأعتلى الرسول الأعظم (ص) هذا المنبر و خطب خطبته الغرّاء و في أثناء ذلك أخذ بيد الإمام علي (ع) و أصعده المنبر إلى جنبه و رفع يده قائلاً: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه" ثم دعا له و دعا الناس إلى الوفاء له (ع). وکان خيمة المولی أمير المؤمنين (ع) تعیش أجواء خاصة في ذلک الیوم. و قد استبشر الرسول الأكرم (ص) ـ الذي تخلّص لتوه من ثقل الأمانة الإلهية ـ بوفاء الأمة لخليفته.
عندما شكل تهديد الروم من ناحية بلاد الشام خطراً على الحدود الشمالية للدولة الإسلامية و استوحش الجميع من قدرة الروم المشهورة، رأى الرسول الأكرم (ص) أن المصلحة تقتضي بأن يجهز جيشاً جراراً من كل أنحاء البلاد الإسلامية و يرسله إلى الحدود الشمالية للدولة الإسلامية.
تعتبر الروم آنذاك احدى أكبر إمبراطوریتین في العالم قبل ظهور الدولة الإسلامية الكبرى، فقد كانت تنافس الامبراطورية الفارسیة و كانت الحرب معهم شدیدة جداً على الكثير من المسلمين و كان الإنتصار عليهم يعتبر من المستحيلات في رأي البعض. لذلك كان سعي النبي (ص) في تحشيد و تجهيزه و تكثير عدده لم يسبق له نظير. فقد اعلن (ص) سلفاً بأن الهدف هو الناحية التي تقع فيها قلعة تبوك و قد عسكر جيش الروم هناك طبقاً لأخبار المستطلعين. عندما حان الوقت المقرر أمر الرسول (ص) الجيش بالحركة و عيّن خليفته في المدينة. أما هذه المرة كانت على خلاف سائر السفرات و الحروب السابقة فقد عين الرسول الأكرم (ص) أكبر ناصر له و أقرب قريب و أشجع باسل في لهوات الحرب و أمره بالبقاء في المدينة على الأهل و العيال و النساء و المهاجرين.
عدم وجود شجاع باسل كأمير المؤمنين (ع) بين صفوف المجاهدين أمر في غاية الصعوبة بالنسبة لهم. فانتهز المنافقون أيضاَ هذه الفرصة ـ أي غياب النبي (ص) عن المدينة ـ فقد كانوا يحيكون الحبائل و يخططون الخطط لمثل هذه الغيبة الطويلة للنبي (ص)، لكنهم فوجئوا ببقاء الإمام علي (ع) فقد أحبط هذا البقاء كل مخططاتهم. من هنا حاول المنافقون تغيير المواجهة و استغلال هذه الفرصة و فأشاعوا في المدينة بأن النبي (ص) يرى أن حفظ حياة صهره و ابن عمه، أهم و أعز عنده من جهاد الروم و لعله كان بطلب من ـ علي (ع) ـ نفسه. تلقى الإمام علي (ع) هذه الشائعة التي نزلت عليه كالصاعقة و جاء مضطرباً حتى أوصل نفسه إلى الجيش المتأهب للحركة المعسكر في مخيم خارج المدينة و أصر على النبي (ص) بأن بأذن له في الحضور في ركابه في هذه الحرب. أما النبي (ص) فقد أجابه تهدئةً لباله و طمأنته ـ حسب الظاهر ـ و تبليغاً لمسألة مهمة للمسلمين و لكل الحاضرين في المعسكر بقوله: "ارْجِعْ يَا أَخِي إِلَى مَكَانِكَ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا بِي أَوْ بِكَ فَأَنْتَ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي وَ دَارِ هِجْرَتِي وَ قَوْمِي أَ مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي".[1]
كان كلاماً قاطعاً و واضحاً يفهمه حتى البليد و يعلم مغزاه ابسط الناس فلم يكن لإرضاء علي (ع) بل كان إعلاناً و تعييناً للخليفة الذي يأتي بعده (ص).
على كل حال تحرك الجيش إلى تبوك و بعد طيّ مسافة طويلة، رجع إلى المدينة بدون أي اشتباك. أعاد الجميع النظر في كلام النبي (ص) مراراً و تكراراً و أداروه عدة مرات في أذهانهم، فالمؤمنون الخيرون كانوا يستبشرون به كلّما مرّ في خاطرهم أما غيرهم فقد كانوا يرون أن كل ما حاكوه في أذهانهم ذهب أدراج الرياح. مضت الشهور و الأعوام حتى حلّ موسم آخر حجة لخير البرية (ص)، أراد الرسول (ص) و إرادته مستلهمة من الإرادة الإلهية أن يطّلع كل المسلمين على هذا السفر حتى يصحبه كل من له القدرة على الحج (من المهاجرين و الأنصار و القبائل الساكنة أطراف المدينة و الساكنين في كل البلاد الإسلامية) و أمر أن يُبلغ هذا الخبر للجميع.
نادى المنادون بهذا الخبر بصوتهم العالي في أزقة المدينة. أجتهد المارّون عند سماعهم لهذا الخبر و وصل الخبر إلى كل مكان و تناقلته الألسن، فحتى من كان خارج المدينة مشغولاً بالزراعة أو بالرعي تلقى الخبر بدو وصوله إلى المدينة.
اُرسل الرسل بصورة خاصة إلى كل نقاط الدولة الإسلامية لدعوة الناس في المدن و الواحات و الصحراء لمصاحبة الرسول (ص) في هذا الحج.
فقد وصل هذا النداء إلى كل مكان "كل من كانت له القدرة على صحبة النبي (ص) في حجه و طوافه و سعيه بين الصفا و المروة و وقوفه و رمي جمراته فليتهيأ و ليعد العدة لهذا السفر".
دقت أجراس قوافل المستطيعين لهذا السفر من كل القبائل مؤذنين بالحركة، و شدّوا رحالهم بدءً من سكان صحراء "نجد" إلى سكان "البطحاء" و طائف و باقي قرى أطراف المدينة و انتهاءً بحدود العراق و الشام، زيّن الفرسان خيولهم، و حمل المشاة أمتعتهم الخفيفة على مناكبهم، و سار الجميع.
أقبل المتلهّفون من أطراف المدينة إليها كالسيل المتحدر حتى يصاحبوا رسول الله (ص) في سفره هذا و وقف كل من لم تكن له القدرة على المجئ إلى المدينة في مسير القافلة منتظراً إياها حتى يحصل على فخر الإلتحاق بها في أول نقطة ممكنة.
إنقلبت المدينة و خرج الرسول الأكرم (ص) من المدينة قبل قوافل الحجاج و خرجت على إثره باقي القوافل. و قد شيعه كل من لم يوفق إلى مصاحبته أو لم يقدر على ذلك بالدموع و الحسرات. و قد انضم الناس إلى هذه القافلة الكبرى في الطريق على شكل جماعات و مواكب. أحرم رسول الله (ص) في "ذو الحُليفة" (مسجد الشجرة) و توجه إلى مكة ملبياً و الكل كان يؤدي ما يؤديه تأسّياً به. في هذه المرة أيضاً لم يصطحب النبي الأكرم (ص) ملازمه و ناصره في هذه القافلة و قد شعر الجميع بمكانه الخالي إلى جنب النبي (ص) و لعل النبي (ص) كان السباق بهذا الشعور. فقد كان مسافراً بأمر النبي (ص) إلى اليمن طبقاً لعادته في تنفيذ أوامر النبي (ص) فقد كان يتحمل و عثاء السفر و عناية بروحه قبل بدنه.
استقدم الرسول (ص) الإمام عليا (ع) فجاءه من اليمن إلى مكة كالبرق الخاطف تصهر روحه نار القلق المشتعلة و قد تضاعف نبضان قلبه، مع كل هذا الإضطراب و القلق لم ينقض على فرسه ضرباً و لم يغضب عليه بل راح يطلب منه ملاطفاً و ملتمساً أن يضع كل طاقاته و قوته في قدمه حتى يحثّ السير و الخطى و كأن الفرس قد اطّلع على ما يجول في خلد راكبه فراح يجدّ السير في هذه الصحراء كالطير الذي يطوي الصحاري و الفلاة بجناحيه الخفيفين. عينه في الأفق و ذكر الله يعلو شفتيه لم ينظر إلّا إلى أمامه، كل همه كان في أن يصل إلى محبوبه، و ليأتي بحق العبودية كما تعلمها سابقاً و ليعطر عبادته بماء ورد الصحبة.
أقبل الفارس المغوار و عرفه الجميع، فلم يكن إلّا مولى الموحدين الذي أخذ على عاتقه مسؤولية إدارة عيال الرسول (ص) و حصل بها على وسام (منزلة هارون من موسى). فهو عليّ (ع) قد كان في قيادة كتبية إلى اليمن و عندما كان قاصداً للعودة وصله خبر حجّ رسول الله (ص) و لكي يصل إليه بسرعة ترك قيادة الجيش لنائبه و توجه إلى مكة على جناح السرعة. أحرم أخيراً و أخيراً و أوصل نفسه إلى رسول الله (ص). فرح الرسول (ص) بلقائه و ضمّه إلى صدره.
توجه الجميع إلى منى تبعاً لرسول الله (ص) و جانبوا النوم إلى الصباح في ذكر الله و حمد جلاله و جبروته و غسل الأصداء التي كانت عالقة على قلوبهم ثم تبعوا قائدهم الذي توجه إلى عرفات.
تجمهر الجمع في صحراء عرفات بهدوء و هم كالبحر المتلاطم بعددهم و عديدهم حتى يسمعوا كلام رسولهم و لعل هذا الإجتماع كان تدريباً لإجتماع أكبر و خطبة أهم. أدّى الجميع مراسم الوقوف في عرفات ثم المشعر ثم مراسم رمي الجمار الثلاث ثم الهدي و التقصير[2] بكل حرارة و شوق، كما كان يعلمهم رسول الله (ص) و يؤديها بنفسه ثم بعد ذلك دقّ الركب طبول العودة بكل سرور و إبتهاج لأدائهم مناسك حجهم جنباً إلى جنب رسول الله (ص) ترك جمهور المسلمين مكة فرحين مستبشرين بطاعة الله سبحانه و توفيق صحبة النبي (ص)، و ودعهم المكيون الذين شهدوا هذا التجمع العظيم في بلدتهم بالحسرات و الآهات.
تقدم الركبان و تبعهم المشاة بعدد يفوقهم بكثير، يقدّمهم رسول الله (ص) كالشمس المشرقة في جبين هذا الموج المتلاطم راكباً ناقته متوجّهاً إلى المدينة. بعد سنين طويلة من المشقة و الإضطهاد و المحاصرة و الهجرة ثم الحرب و الإشتباك، استبشر رسول الله (ص) برضا الحق تعالى و بهذا التوفيق الإلهي الكبير إذ إنه خرج من مكة يوماً غريباً متخفياً في الليل، أما اليوم فقد أوصله الإمداد الإلهي إلى مقام حيث آمن برسالته كل أهل الحجاز و قد أدى أفضلهم أعمال الحج معه، و إن كانت وساوس الخنّاسين لم تتركه مرتاح البال أبداً.
كانت الشمس المحرقة تشرق على صحراء الحجاز و تذيب الحصى، لم يكن لهذه الصحراء ظل إلا السماء. تقدم الركب يجرّ أذياله متبختراً حتى وصل إلى ناحية "رابغ"، انقلب حال النبي (ص)، و تغيير وجهه و طرأ عليه ما يطرأ له عند نزول الوحي. لقد أبلغه أمين الوحي.بالامر الالهي " يَأَيهُّا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَ إِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس ".[3]...
تلقى رسول الله (ص) أهمية هذا البيان كما تلقى أهمية زمان إبلاغه. كان يعلم ـ صلواته و سلامه عليه و على آله ـ بأن زحماته يجب أن تقدر بعد وفاته و رحيله من بين امته، فلو لم يكن على هذه القافلة أمير متمكن من القيادة لذهبت كل أتعاب و مشقات سنين مكة و محنة سفر الطائف و مشقة أنصار المدينة و عناء هجرة المهاجرين و دماء شهداء بدر و أحد و الأحزاب و حنين أدراج الرياح، و أهم من ذلك كله فلو لا الأمير القادر على أخذ زمام هذه القافلة بيده لم تكتمل هذه الرسالة. كان النبي (ص) يعلم بوجود المنتهزين المستغلين بين أمته الذين لو وجدوا فرصة لغيّروا مصير هذه الأمة بالشكل الذي يريدون فليس لإرادة الله و إرادة رسوله أهمية عندهم فهي كالمتاع الذي لا يرغب به أحد منهم. إذن لا بد لهذه القافلة المتّزنة التي في أول مسيرها من أمير جدير بالقيادة و الزمان آنذاك و المكان أنسب ما يكونان لهذا الأمر.
نادى المنادي في القافلة أن توقفوا. فرجع المتقدم، و تجمع الجمع، ترجل الركّاب و وضع المشاة أمتعتهم على الأرض. كان الجميع على أهبة الإستعداد لتلقي الأوامر. علم الجميع أن أمراً مهمّا قد حدث حيث دعا النبي الجميع للبقاء و لسماع هذا الأمر المهم.
إرتفع أذان الظهر معطراً الأرواح، فاصطف الحجاج بعددهم العديد بصفوفهم الطويلة المتصلة متّجهين نحو المعشوق. كبّروا تكبير الطاعة و وقفوا خلف نبيّهم ماسحين رؤوسهم بعتبة العبودية و بعدها استعدوا لسماع نبيهم بكلامه الذي يحيي القلوب. وقف الجميع تحت نار تلك الشمس المحرقة صنع كلّ لنفسه ظلا بأي وسيلة كانت حتى يستتر تحته من حرارة الشمس. تعلقت الأبصار بمنبر كان وسطهم صنع من أقتاب الإبل.
نصّب منبر في أسفل نقطة من هذه الصحراء لكي يرى الجميع وجه الرسول المشرق بسهولة. اعتلى رسول الله (ص) هذا المنبر فسكت الجميع. قام البعض ليساعدوا الجمع في سماع هذا الكلام النيّر و تلقي هذا البيان المهم بإعادة كلامه (ص) و تكراره. بعد لحظات دعا رسول الله (ص) أقرب ناصر له لإعتلاء هذا المنبر، كان هذا الشخص معروفاً للجميع. كان أول الناس إيماناً برسول الله (ص) و أول مدافع عنه. كل الحاضرين كان يتذكر مبيته في فراش النبي (ص) عند هجرته إلى المدينة و كذلك يذكرون وقع سيفه في بدر كما يتذكرون هذا النداء السماوي "لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار" في يوم أحد و كذلك قتل عمرو بن ود في حرب الأحزاب و قلع باب خيبر فلم يكن يخفيء شيء من هذه الأمور على هذا الحشد بأكمله.
و أهم من ذلك كله إعطاء النبي (ص) له وسام "أنت مني بمنزلة هارون من موسى ..." حيث فسّر الجميع هذا المنصب بالخلافة من بعده.
خطب الرسول الأكرم خطبته الغرّاء[4] و في أثناء ذلك أخذ بيد الإمام علي (ع) و أصعده المنبر إلى جنبه و رفع يده قائلاً: "من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه" ثم دعا له و دعا الناس إلى الوفاء له (ع). فكانت خيمة المولى أمير المؤمنين (ع) تحكمها في ذلك اليوم أجواء خاصة. حيث أقبل المسلمون على هذه الخيمة للتبريك و لإعلان الوفاء زرافات و جماعات. و قد استبشر الرسول الأكرم (ص) ـ الذي تخلص لتوه من ثقل الأمانة الإلهية ـ بوفاء الأمة لخليفته.[5]
[1] البحار، ج 21، ص 207.
[2] تقصير الشعر و قص الأظافر.
[3] المائدة (5)، آية 67.
[4] أسرار الغدير، محمد باقر الأنصاري، نشر مولود الكعبة، نقلا عن الإحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 55ـ 67، بيروت.
[5] مقتبس من (گنجنامة امام علي (ع))، مبحث الغدير و الولاية.