بحث متقدم

الظلم في اللغة بمعنی وضع الشيء في غیر موضعه،[1] او مجاوزة الحد والاعتدال.[2] والظلم بهذا المعنى يشمل جميع الرذائل، وارتكاب أيّ من القبح الشرعي والعقلي، وهذا هو الظلم بالمعنى العام.[3] لكن للظلم معنى آخر وهو: إيذاء الآخرين والاضرار بهم، كالقتل أو الضرب، أو الشتم، أو الغيبة، أو الاستيلاء على أموال الآخرين بغير حق، أو غير ذلک من الأفعال أو الأقوال الّذي يؤدي إلى إزعاج الآخرين، وهذا هو الظلم بمعناه الخاص.[4] وعلى الرغم من ذكر كلا النوعين من الظلم لمرّات عديدة في الآيات والأحاديث، إلّا أنّ الكثير من الناس يستخدمون عبارة الظلم فقط بمعنى اضطهاد الآخرين.

علی أیّ حال، فان "الظلم" هو بمعنی عدم رعایة الحق. ففي هذا التعريف يكون للحق مكانة مركزية. انّ علماء الأخلاق قد قسّموا الظلم الی اقسام وفقًا لمن له نوع من الحق على الإنسان، ومنها: ظلم الله، وظلم النفس، وظلم الآخرين، فالظلم في كل هذه الحالات، يعني تجاهل الحقوق التي يكون الإنسان مسؤولاً عنها.

ولذلک فأن الظالم هو من لا يقوم بالشكر على النعم الإلهية التي لا تعد ولا تحصى ولا يعتبر نفسه ملزما بأداء الواجبات الدينية، ولا يشعر بالمسؤولية تجاه قدراته ومواهبه، وبالاضافة الی ذلک فانّه ينتهك حقوق الآخرين.[5]

الظلم من کبائر الذنوب وعقابه والندامة علیه في الآخرة أشد، ونتائجه أثقل.[6] لقد تم لعن الظالمین في القرآن الکریم بشدة، و تم ادانتهم ايضا في روايات عدیدة بشکل كبير. وإذا لم يكن هناك تحذير أو تهديد غير هذه الآيات، فان ذلک يكفي الإنسان لأن يمتنع عن الظلم: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الْأَبْصار».[7] «وَ سَيَعْلَمُ الَّذينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».[8]

انّ منشأ الظلم في الواقع، هو بسبب عصيان القوى لاطاعة العقل، ونتيجة ذلك اتجاه الرؤى والميول والعواطف والمشاعر البشرية إلى جانب آخر. مع استمرار هذه العملية، سيتم إضعاف حكومة العقل الصالح وإسقاطه، کما ان هذا الامر سیشمل المجتمع على نطاق أوسع.[9]

من أهم أسباب الظلم ضعف الإيمان والمعتقدات الدينية. ولا ريب أنّ عدم الإيمان بالغيب والآخرة، والحساب والجزاء على الحسنات والسيئات، يجرؤ  الانسان على الظلم. يعد سوء إدارة القوی الانسانیة وعدم كفاية الهیمنة والتحكم علی الامیال والرغبات النفسانیة سببًا آخر للظلم، بل الأكثر شيوعًا. عندما يكون الإنسان غير قادر على تربیة النفس الحريصة وإدارتها، فإنّه لا محالة يذهب بعيدًا في إرضائها وينتهك حقوق الآخرين. على سبيل المثال، الشخص الحریص الذي يطمع بمال الآخرين، أو الشخص الذي لديه مزاج عنيف وغير لطيف، أو العاهر الشهواني الماسور فی قید نفسه المتمردة، يتعرضون جميعًا للظلم ويهددون الأمن الأخلاقي للمجتمع. ربما هذا هو الذی ادّی الی اعتبار السلطة أو الثروة سببا للظلم. و فی الواقع ان الجاهل والضال، بدلاً من استخدام هذه النعم العظيمة بالشكل الصحيح، فانه یستخدمها في طريق الكفران والجحود.[10]

بالنظر الی المقدمة المذكورة يمكن القول؛ انّ كلّ عصيان وتمرد علی الأوامر والقوانين الإلهية هو نوع من الظلم. أي أن الظلم کالكفر والشرك یعتبر من المفاهیم المشککة و له أنواع ومراتب مختلفة، من اقل الظلم إلى أكبره، ومن ظلم النفس الی ظلم الآخرین و...؛ فلذلک قد استخدم سبحانه و تعالی عبارة "اظلم" في القرآن الكريم: «وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ».[11]

وهنا نذكر بإيجاز بعض الحالات التي اعتبرها القرآن والأحاديث من جملة مصادیق الظلم:

  1. الشرك بالله: إنّ الله تعالى يسمّی الشرك في القرآن الكريم بأنه اسوأ أنواع الظلم وأعظمها: «أن الشرك لظلم عظيم».[12]
  2. الحكم بغير حکم الله: «مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون»‏.[13]
  3. تعدي الحدود الإلهية: «وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه‏».[14]
  4. إنكار آيات الله: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمين‏».[15]
  5. الإصرار على المعصية والامتناع عن التوبة: «وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». [16]
  6. الصداقة مع الأعداء المحاربين: «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُون»‏.[17]
  7. طاعة الصدقة الواجبة: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون‏».[18]
  8. اکل الربا: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ‏... وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُون».‏[19]
  9. التقصیر فی الوفاء بالديون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم».[20]
  10. الرضا بالظلم: انّ الرضا بالظلم أو تبريره هو نوع من الظلم. قال الإمام باقر(ع) في هذا الصدد: «مَنْ لَمْ يَعْرِفْ سُوءَ مَا أُوتِيَ إِلَيْنَا مِنْ ظُلْمِنَا وَ ذَهَابِ حَقِّنَا وَ مَا نُكِبْنَا بِهِ فَهُوَ شَرِيكُ مَنْ أَبَى إِلَيْنَا فِيمَا وَلَّيْنَاهُ».[21]

و الذی ینبغي ان یقال هو، أن الظلم من حيث النتيجة والحكم علی ثلاثة أنواع، كما قال الإمام علي(ع): ألا و إنّ الظلم‏ ثلاثة فظلم لا يغفر و ظلم لا يترك و ظلم مغفور لا يطلب، فأمّا الظلم الذي لا يغفر فالشّرك باللَّه تعالى قال اللَّه تعالى: «إنّ اللَّه لا يغفر أن يشرك به».[22] أما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات و أما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا، القصاص هناك شديد ليس هو جرحا بالمدی و لا ضربا بالسّياط و لكنه ما يستصغر ذلك معه.[23]

 

 

 


[1]. ابن درید، محمد بن الحسن، جمهرة اللغة، ج 2، ص 934، بیروت، دار العلم للملایین‏، الطبعة الاولی؛ الازهرى، محمد بن احمد، تهذيب اللغة، ج 14، ص 274، بیروت، دار احياء التراث العربي‏، الطبعة الاولی؛ ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، ج 12، ص 373، بیروت، دار صادر، الطبعة الثالثة، 1414ق.

[2]. الواسطی الزبیدی، مرتضی، تاج العروس من جواهر القاموس، المحقق، المصحح، الشیری، علی، ج ‏17، ص 448، بیروت، دار الفکر، الطبعة الاولی، 1414ق.‌

[3]. النراقی، ملا احمد، معراج السعادة، ص 475، قم، الهجرة، الطبعة السادسة 1378ش.

[4]. نفس المصدر السابق، ص 476؛ راجع: ابن حميد، صالح‏، موسوعة النضرة النعيم فى مكارم اخلاق الرسول الكريم(ص)‏، ج ‏10، ص 4871 – 4872، جده، دار الوسيله‏، الطبعة الرابعة.

[5]. عليزاده، مهدى‏، اخلاق اسلامى (مبانى و مفاهيم)‏، ص 212 – 213، قم، مکتب نشر المعارف‏، الطبعة الاولی، 1389ش.

[6]. راجع: معراج السعادة، ص 476.

[7]. ابراهیم، 42.

[8]. الشعراء، 227.‏

[9]. اخلاق اسلامى (مبانى و مفاهيم)، ص  214.

[10]. نفس المصدر، ص 214 – 215.

[11]. الانعام، 21.

[12]. لقمان، 13.

[13]المائده، 45.

[14]. الطلاق، 1.

[15]. الانفال، 54.

[16]. الحجرات، 11.

[17]. الممتحنه، 9.

[18]. البقرة، 254.

[19]البقرة، 278- 279.

[20]. ابن شعبه الحرانی، الحسن بن علی، تحف العقول عن آل الرسول(ص)، المحقق، المصحح، الغفاری، علی اکبر، ص 267، مكتب النشر الاسلامی، قم، الطبعة الثانية، 1404ق.

[21]. الشیخ الصدوق، ثواب الأعمال و عقاب الأعمال، ص 208، قم، دار الشریف الرضی للنشر، الطبعة الثانیة، 1406ق.

[22]. النساء، 48.

[23]. الشریف الرضی، محمد بن حسین، نهج البلاغة، المحقق، المصحح، صالح، صبحی، ص 255، قم، الهجرة، الطبعة الاولی، 1414ق.

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    280291 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    258886 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    129690 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    115792 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    89594 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    61133 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    60410 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    57399 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    51738 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47745 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...