بحث متقدم
الزيارة
6436
محدثة عن: 2011/09/07
خلاصة السؤال
کیف تنسجم العصمة مع الآیات 73 و74 من سورة الاسراء؟
السؤال
ما المراد بقوله تعالى :" وَإِن کَادُواْ لَیَفْتِنُونَکَ عَنِ الَّذِی أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ لِتفْتَرِیَ عَلَیْنَا غَیْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوکَ خَلِیلًا* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاکَ لَقَدْ کِدتَّ تَرْکَنُ إِلَیْهِمْ شَیْئًا قَلِیلًا" و کیف ینسجم ذلک مع العصمة؟
الجواب الإجمالي

ذکر المفسرون للآیات 73-75 من سورة الاسراء عدة اسباب للنزول تشترک جمیعها فی معنى واحد و هو: أن النبی (ص) حاول جذب المشرکین للدین الاسلامی فابدى شتى انواع الاسالیب من اللین و الرفق و الارشاد بالدلیل العقلی و الوجدانی و غیر ذلک، الامر الذی جعل المشرکین یطمعون باحتمال تنازل الرسول لهم و الانجراف معهم و من هنا جاءت الآیات لتؤکد للرسول الاکرم (ص) و للمسلمین عدم جدوائیة هذا الاسلوب مع هؤلاء المتحجرین.

و المتأمل فی الآیات یراها تعنی أنه و لو لا أن ثبتناک بعصمتنا دنوت من أن تمیل إلیهم قلیلا لکنا ثبتناک فلم تدن من أدنى المیل إلیهم فضلا من أن تجیبهم إلى ما سألوا فهو (ص) لم یجبهم إلى ما سألوا و لا مال إلیهم شیئا قلیلا و لا کاد أن یمیل.

و من الواضح أن نفی هذا الحد من الرکون عن ساحة النبی الاکرم (ص) یعد برهانا ساطعا على عصمته وثباته (ص) على الطریق القویم و ذلک لعدم وجود المیل و الرغبة فی الرکون من جهة و التسدید و الحفظ الالهی من جهة اخرى کلاهما اجتمعا لتحقیق خاصیة العصمة فیه (ص).

الجواب التفصيلي

ذکر المفسرون للآیات 73-75 من سورة الاسراء عدة اسباب للنزول تشترک جمیعها فی معنى واحد و هو: أن النبی (ص) حاول جذب المشرکین للدین الاسلامی فابدى شتى انواع الاسالیب من اللین و الرفق و الارشاد بالدلیل العقلی و الوجدانی و غیر ذلک، الامر الذی جعل المشرکین یطمعون باحتمال تنازل الرسول لهم و الانجراف معهم و من هنا جاءت الآیات لتؤکد للرسول الاکرم (ص) و للمسلمین عدم جدوائیة هذا الاسلوب مع هؤلاء المتحجرین لانهم قد یستغلون هذا الاسلوب التسامحی استغلالا سیئاً، یقول صاحب تفسیر الامثل تحت عنوان:

هل أبدى الرّسول لیونة إزاء المشرکین؟

بالرغم من أنّ بعض السطحیین أرادوا الاستفادة من هذه الآیات لنفی العصمة عن الأنبیاء، و قالوا أنّه طبقا للآیات أعلاه و أسباب النّزول المرتبطة بها إنّ الرّسول (ص) قد أبدى لیونة إزاء عبدة الأصنام، و أنّ اللّه عاتبه على ذلک. إلا أنّ هذه الآیات صریحة فی افهام مقصودها بحیث لا تحتاج إلى شواهد أخرى على بطلان هذا النوع من التفکیر، لأنّ الآیة الثّانیة تقول و بصراحة: "وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناکَ لَقَدْ کِدْتَ تَرْکَنُ إِلَیْهِمْ شَیْئاً قَلِیلًا". و مفهوم التثبیت الإلهی (و الذی نعتبره بأنّه العصمة) أنّه منع رسول اللّه (ص) من التوجه إلى مزالق عبدة الأصنام، و لا یعنی ظاهر الآیة- فی حال- أنّه (ص) مال إلى المشرکین، ثمّ نهی عن ذلک بوحی من اللّه تعالى.

و توضیح ذلک، إن الآیة الأولى و الثّانیة هما فی الحقیقة إشارة إلى حالتین مختلفتین للرّسول (ص)، الحالة الأولى هی الحالة البشریة و الإنسانیة و التی تجلّت بشکل واضح فی الآیة الأولى، و بمقتضى هذه الحالة یمکن تأثیر وساوس الأعداء فی الرّسول (ص) خاصّة إذا کانت ثمّة مرجحات فی إظهار اللیونة و التوجّه إلیهم، من قبیل رغبته (ص) فی أن یسلم زعماء الشرک بعد إظهار اللیونة، أو أن یمنع بذلک سفک الدماء، و الآیة تکشف عن احتمال وقوع الإنسان العادی و مهما کان قویا تحت تأثیر الأعداء.

أمّا الآیة الثّانیة فهی ذات طبیعة معنویة، إذ هی تبیّن العصمة الإلهیة و لطفه الخاص سبحانه و تعالى الذی یشمل به الأنبیاء خصوصا نبی الإسلام (ص) حینما یمر بمنعطفات و مزالق دقیقة.

و هذا التعبیر نفسه نقرأه فی سورة یوسف حیث جاء البرهان الإلهی فی أدق اللحظات و أخطرها، فی مقابل الإغواء الخطیر و غیر الاعتیادی لامرأة العزیز، حیث قوله تعالى فی الآیة (24) من سورة یوسف: "وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ، کَذلِکَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِینَ".

و فی اعتقادنا أنّ الآیات أعلاه لیست لا تصلح أن تکون دلیلا على نفی العصمة و حسب، بل هی واحدة من الآیات التی تدل على العصمة، لأنّ التثبیت الإلهی هذا (و الذی هو کنایة عن العصمة أو التثبیت أو التثبیت الفکری و العاطفی و السلوکی) لا یخص فقط هذه الحالة، و هذا الموقف، بل هو یشمل الحالات المشابهة الأخرى، و على هذا الأساس تعتبر الآیة شاهدا على عصمة الأنبیاء و القادة الإلهیین.[1]

و قد وردت عدة روایات فی شأن نزول الآیة المبارکة تعرض لها العلامة الطباطبائی فی تفسیره قائلا:

فی المجمع: فی سبب نزول قوله تعالى: «وَ إِنْ کادُوا لَیَفْتِنُونَکَ عَنِ الَّذِی أَوْحَیْنا إِلَیْکَ» الآیات- أنهم قالوا له: کف عن شتم آلهتنا و تسفیه أحلامنا- و اطرد هؤلاء العبید و السقاط الذین رائحتهم رائحة الصنان- حتى نجالسک و نسمع منک فطمع فی إسلامهم فنزلت الآیة:

أقول: و روی فی الدر المنثور، عن ابن أبی حاتم عن سعید بن نفیر ما یقرب منه:. و أما ما

روی عن ابن عباس": أن أمیة بن خلف و أبا جهل بن هشام و رجالا من قریش أتوا رسول الله (ص) فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا و ندخل معک فی دینک- و کان رسول الله (ص) یشتد علیه فراق قومه و یحب إسلامهم فرق لهم- فأنزل الله: «وَ إِنْ کادُوا لَیَفْتِنُونَکَ- إلى قوله- نَصِیراً»

فلا یلائم ظاهر الآیات حیث تنفی عن النبی (ص) أن یقارب الرکون فضلا عن الرکون. و کذا ما

رواه الطبری و ابن مردویه عن ابن عباس": أن ثقیفا قالوا للنبی (ص):

أجلنا سنة حتى یهدى لآلهتنا- فإذا قبضنا الذی یهدى للآلهة أحرزناه- ثم أسلمنا و کسرنا الآلهة فهم أن یؤجلهم فنزلت: «وَ إِنْ کادُوا لَیَفْتِنُونَکَ» الآیة.

و کذا ما فی تفسیر العیاشی، عن أبی یعقوب عن أبی عبد الله (ع): فی الآیة قال:

لما کان یوم الفتح أخرج رسول الله (ص) أصناما من المسجد- و کان منها صنم على المروة فطلبت إلیه قریش أن یترکه و کان مستحیا- ثم أمر بکسره فنزلت هذه الآیة.

و نظیرهما أخبار أخر تقرب منها معنى فهذه روایات لا تلائم ظاهر الکتاب و حاشا رسول الله (ص) أن یهم بمثل هذه البدع و الله سبحانه ینفی عنه المقارنة من الرکون و المیل الیسیر فضلا أن یهم بالعمل.[2]

ولسنا فی مقام تحلیل صحة هذه الروایات واسباب النزول أو سقمها. و لکن من الواضح أن الآیات المذکورة تشیر الى اصل من اصول التبلیغ و الارشاد الاسلامی و هو أن المبلغ و لاجل کسب ود الجماهیر و جذبهم الى الاعتقاد برسالته لیس من حقه التمسک بکل الطرق و استعمال شتّى الوسائل لتحقیق ذلک الهدف.

ثم ان الباری تعالى استعمل فی تلک الآیات کلمات و مصطلحات تشیر الى حفظ النبی و عصمته بواسطة القدرة الالهیة المتعالیة و ان الالفاظ التی وردت فی الآیات المبارکة تثبت العصمة له (ص) بصورة عجیبة. فلیس الامر کما یدعیه البعض بانها منافیة للعصمة و هذا واضح لمن تأمل فی قوله تعالى" وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناکَ لَقَدْ کِدْتَ تَرْکَنُ إِلَیْهِمْ شَیْئاً قَلِیلًا"[3]  یقول العلامة الطباطبائی فی تفسیر الآیة المبارکة: التثبیت- کما یفیده السیاق- هو العصمة الإلهیة و جعل جواب لو لا قوله: «لَقَدْ کِدْتَ تَرْکَنُ» دون نفس الرکون و الرکون هو المیل أو أدنى المیل کما قیل دلیل على أنه ص لم یرکن و لم یکد، و یؤکده إضافة الرکون إلیهم دون إجابتهم إلى ما سألوه.

و المعنى: و لو لا أن ثبتناک بعصمتنا دنوت من أن تمیل إلیهم قلیلا لکنا ثبتناک فلم تدن من أدنى المیل إلیهم فضلا من أن تجیبهم إلى ما سألوا فهو (ص) لم یجبهم إلى ما سألوا و لا مال إلیهم شیئا قلیلا و لا کاد أن یمیل.[4]

و من هنا نجزم بان النبی الاکرم (ص) لم یرکن الى المشرکین و لم یساوم و لو لحظة واحدة، بل أنه لا یحق له ذلک ولو کان بالحد الادنى من المماشاة و الرکون و ان الخطاب الشدید للنبی الاکرم (ص) و بهذه اللغة یکشف عن کون الباری تعالى لا یسمح له بادنى مماشاة و رکون لیکون ذلک درساً للمسلمین و من سار على نهجه (ص)، و من الواضح ان نفی هذا الحد من الرکون عن ساحة النبی الاکرم (ص) یعد برهانا ساطعا على عصمته وثباته (ص) على الطریق القویم و ذلک لعدم وجود المیل و الرغبة فی الرکون من جهة و التسدید و الحفظ الالهی من جهة اخرى کلاهما اجتمعا لتحقیق خاصیة العصمة فیه (ص).



[1] مکارم الشیرازی، ناصر، الأمثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 76، نشر مدرسة الامام علی بن ابی طالب قم المقدسة، الطبعة الاولى، 1421هـ.

[2] العلامة الطباطبائی، محمد حسین، المیزان فی تفسیر القرآن، ج‏13، ص: 178، دفتر النشر التابع لجماعة المدرسین قم، الطبعة الخامسة، 1417هـ.

[3] اسراء، 74.

[4] المیزان، ج13، ص173.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279435 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257227 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128137 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113237 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88993 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59834 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59548 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56854 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49726 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47163 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...