Please Wait
9715
1- إن البراهین و الأدلة التی تقام على إثبات وجود الله سبحانه کثیرة و متعددة، و قد استفید فیها من عدة مناهج و طرق فی الاستدلال.
و تقسم هذه البراهین من جهة منهج الاستدلال إلى ثلاثة أقسام: الطریق الفطری او النفسی، الطریق العلمی و شبه الفلسفی، و الطریق الفلسفی. و برهان النظم یقع ضمن المنهج العلمی و شبه الفلسفی.
2- إن طرق الاستدلال على وجود الله سبحانه تختلف و تتفاوت من عدة وجوه منها الصحة و الکمال و العیب و الفساد، و قیمة الدلیل و حدوده، و النتائج التی یفضی إلیها، و الأهداف التی یتوخاها، فلیس جمیع الطرق فی مستوى واحد. و برهان النظم من البراهین التی تحتاج الاعتماد على البراهین الأخرى، و لهذا السبب أعرض الحکماء و الفلاسفة الإسلامیون عن الاستفادة من هذا البرهان لإثبات وجود ذات الواجب تعالى.
3- لبرهان النظم علاقة قریبة بمسألة (الحکمة الإلهیة) و هی من المسائل التی یحتاج إیضاحها إلى فرصة أخرى.
4- من الممکن بیان الصورة الکلیة لبرهان النظم على الوجه التالی: إن العالم منظوم (یحکمه النظام) وکل منظوم له ناظم، فللعالم ناظم إذاً.
المقدمة الأولى هی مقدمة تجریبیة، و المقدمة الثانیة مقدمة عقلیة.
5- المراد بالناظم هو موجود مشخص خارجی عینی، و هو السبب و العلة فی وجود النظام و الانسجام الخاص للموجودات على المستوى الداخلی أو الغائی.
6- یتضح برهان النظم من خلال التعرف على بعض البحوث حول: تعریف النظم، و أقسامه، إثبات وجود النظم، و لماذا النظم.
7- النظم إما اعتباری أو صناعی أو تکوینی طبیعی.
النظم الاعتباری هو الذی یحصل من اعتبار المعتبرین، و النظم الصناعی هو الذی یهیئ و یعمل به على أساس قانون صنعة و حرفة خاصة. و النظم الطبیعی التکوینی یکون ضمن مدار التکوین و تحصیل الحقیقة. و محور البحث فی برهان النظم هو النظم التکوینی الطبیعی.
8- للنظم الطبیعی أنواع و أقسام: التناغم و الانسجام الداخلی بین عناصر نظام معین. انسجام عناصر الوجود فی مجموع الوجود و مجمله. الانسجام و المسانخة بین الفعل و الفاعل، و الارتباط الضروری لکل فعل بغایته الخاصة فی سیاق سلسلة العلل الغائیة. و محور البحث فی برهان النظم هو کلا شقی النظم الداخلی و الغائی.
9- مدار و متعلَّق النظم التکوینی تارة یکون الموجودات المادیة الطبیعیة، و تارة الموجودات المثالیة (المجردات المثالیة) و تارة الموجودات العقلیة (المجردات العقلیة) و ما یعنى به أنصار برهان النظم أو معارضوه و منتقدوه هو النظم الطبیعی للموجودات المادیة.
10- إثبات النظم فی مجموع الوجود (عالم الطبیعة، عالم المثال، عالم العقل) لا یکون ممکناً إلاّ بواسطة البرهان العقلی.
11- إن القرآن الکریم استفاد من برهان النظم فی حواره مع المشرکین الذی یعترفون بأصل التوحید و التدبیر بالنسبة للمخلوقات، و جادلهم بالتی هی أحسن.
فالنظم بین اللیل و النهار، و استقرار الأرض بواسطة الجبال و .... هی نماذج و أمثلة للنظم الطبیعی فی عالم الموجودات یسوقها القرآن المجید کعناوین و أمثلة لآیات الله و أشار إلیها کدلالات على مبدأ الوجود.
12- یعتبر الإمام الصادق (ع ) کون عالم الوجود منظماً و تعاقب اللیل و النهار و ... هی طرق و دلائل على توحید الناظم و مدبر العالم.
البراهین و الأدلة التی أقیمت على إثبات وجود الله تعالى کثیرة و متعددة و قد استفادت جمیعها من طرق متعددة و مناهج مختلفة، و یمکن تقسیم هذه البراهین ـ بشکل کلی ـ و حسب منهجیة الاستدلال إلى ثلاثة أقسام: الطریق الفطری او النفسی، الطریق العلمی و شبه الفلسفی.الطریق الفلسفی، وبرهان النظم ینتمی إلى الطریق العلمی و شبه الفلسفی.[1]
و قبل الدخول فی بیان برهان النظم و شرح أبعاده لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة و هی أن طرق إثبات وجود الله و البراهین و الأدلة التی استخدمت فی هذا المجال لیست على مستوى واحد، و ذلک بلحاظ الصحة و الکمال، العیب و الفساد، قیمة الدلیل و حدوده سعةً و ضیقاً فی إثبات المطلوب و بلوغ النتیجة، و من ثم قیمة الردود و دفع الإشکالات الواردة على کل دلیل، مقدار و میزان استفادة کل دلیل من المقدمات الحسیة و التجریبیة، و حتى على مستوى ما قدمه کل دلیل و برهان من بیان و تقریر فی میدان اهتمامه. و إن أخذ هذه القضیة بنظر الاعتبار یجنبنا الوقوع فی الکثیر من المغالطات.[2]
و على هذا الأساس یمکن تفکیک و تقسیم البراهین التی أقیمت على إثبات وجود الله إلى ثلاث مجموعات بلحاظ الصحة و الفساد، الکمال و النقص، و مدى بلوغها الیقین:
أ – البراهین و الأدلة المعیبة و الفاسدة من داخلها و المتهرئة، و الفاقدة لخصائص تحصیل الیقین. و فی واقع الأمر فإن مثل هذه البراهین لیست هی أدلة و لا براهین.
ب – الأدلة و البراهین السلیمة من العیب و الفساد، و لکنها مبتلاة بالنقص فهی قاصرة عن إثبات واجب الوجود على نحو التمام، و نهایة ما تبلغه هذه الأدلة هو صفة من صفات الله أو اسم من أسمائه، و إذا ما أرید لها أن تثبت وجود الواجب فلابد من اعتمادها على أدلة و براهین أخرى و برهان النظم من قبیل هکذا براهین.
ج - البراهین الصحیحة و الکاملة التی تثبت مطلوبها و هو وجود الباری تعالى بشکل جید و محقق.[3]
و برهان النظم – و کما تقدم – هو أحد أقسام الطریق العلمی (الحسی) و الشبه الفلسفی، و قد استفید فیه من المقدمات الحسیة التجریبیة، بمعنى أننا نصل إلى نتیجة معینة من خلال المتابعة الحسیة التجریبیة بالنسبة لواقع المخلوقات الخارجیة الطبیعیة و مشاهدة الآثار و الآیات الإلهیة و استخدامها فی الوصول إلى النتائج المرجوة. و بذلک لا یکون برهان النظم تجریبیاً و حسیاً محضاً، و إنما هناک أساس للعقل و المقدمات العقلیة فی سیاق البرهنة و الاستدلال بهذا الدلیل.[4]
و برهان النظم بحسب تعبیر بعض العظماء هو من أشهر و أعم و أعرف أدلة الإلهیین التی یقیمونها على وجود الله سبحانه و تعالى.[5] و جوهره هو الاستفادة من مسألة نظام الموجودات (النظام المتقن) المستفاد من قوله تعالى فی الآیة الشریفة {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِی أَتْقَنَ کُلَّ شَیْءٍ}[6]و بذلک یمکن أن یطلق علیه عنوان (إتقان الصنع).
و لبرهان النظم علاقة قریبة بمسألة (الحکمة الإلهیة) التی یتطلب التعرض لها فرصة أخرى.[7]مع أنه یمکن القول أن الفلاسفة و الحکماء الإسلامیین أعرضوا عن الاستفادة من برهان النظم لإثبات (ذات الواجب) بسبب وجود المحدودیة فی نفس الدلیل.[8]
یمکن إقامة برهان النظم بصور مختلفة، و لکن کما تقدم فإن کل نتیجة یمکن الحصول علیها إنما هی معتمدة على مقدمتین: أحدهما تجریبیة و الأخرى عقلیة[9] و المقدمة العقلیة التی تشکل کبرى القیاس (کل نظم یحتاج إلى ناظم) لا تعطی نتیجةً من دون الاعتماد على قیاس یستفید من الحرکة و الحدوث و الإمکان، مثل ما یقال: النظم هو حادث أو ممکن وکل حادث أو ممکن یحتاج إلى مبدء مُحدثٍ أو واجبٍ، فالنظم إذن له مبدأ و محدث أو واجب.
و حیث أن هذا المبدأ صدر عنه هذا النظم أطلق علیه اسم (الناظم) و بهذا یمکن القول أن کل قضیة یراد إثباتها من خلال برهان النظم و الوصول إلى نتیجة فیها تلزم الحاجة إلى برهان آخر یعتمد علیه برهان النظم، و من هنا فلا یعد النظم دلیلاً مستقلاً بحالة.[10]
و من جهة أخرى حیث أن برهان النظم یثبت المبدأ الناظم بمساعدة برهان آخر، و أن الفعل الصادر من الناظم و هو النظم، فعل عن علم، فبالإمکان إثبات صفة العلم (للناظم) بهذا الدلیل.[11]
ویمکن بیان الصورة الکلیة لبرهان النظم على الوجه التالی: النظم موجود، أی العالم منظم (له نظم) و کل منظَّم له منظِّم، فللعالم منظِّم إذاً.[12]
یحتاج تعریف برهان النظم إلى عدة أمور: 1- تعریف النظم (ما هو النظم) 2- أقسام النظم، 3- إثبات وجود النظم، 4-لماذا النظم.[13]
تعریف النظم: کما سنبین فیما یأتی فإن النظم هو نوع ربط وجودی بین الأشیاء، و الذی یحقق النظم هو هذا الارتباط الوجودی و أن الربط الوجودی حاصل فی النظام التکوینی.
و من هنا یمکن تعریف النظم بالقول: انضمام أجزاء مختلفة لمجموعة محددة، أو مجموع أجزاء الوجود و تناغمها و انسجامها فی عملها، أو مسانخة الفعل مع الفاعل، أو ضرورة ارتباط الفعل بالغایة.[14]
مع أنه لکل نوع من أنواع الربط الوجودی نظم مخصوص بالنوع نفسه.
أقسام النظم:
إن أوّل ما یتبادر إلى الأذهان بالنسبة للنظم هو أنه أمر قیاسی و نسبی، یحصل بواسطة القیاس و الموازنة بین عدة أشیاء تحت ظروف و شروط معینة. (و القیاس و الموازنة تارة تکون اعتباریة و تارة صناعیة و تارة طبیعیة تکوینیة) و کذلک النظم فقد قسم إلى اعتباری و صناعی و تکوینی طبیعی.
النظم الاعتباری هو الحاصل من اعتبار المعتبرین، و یکون متفاوتاً من حالة إلى أخرى کانتظام صفوف الجند أو صفوف المصلین صلاة جماعیة.
النظم الصناعی: هو الذی یهیئ و یعمل على أساس قوانین صنعة و حرفة خاصة کالنظم الموجود فی جهاز المذیاع (الرادیو) و الساعة و ....
النظم الطبیعی التکوینی: و یتحصل فی مدار الحقیقة و التکوین من خلال المقایسة و الموازنة بالنسبة للموجودات الخارجیة العینیة، و بذلک یکون له حکمه الخاص و محل البحث فی برهان النظم هو النظم التکوینی الطبیعی لا الاعتباری و لا الصناعی.
و إن کان قد تحصل الاستفادة من (النظم الصناعی) لمساعدة ذهن المتعلم[15]، من خلال عرض القیاسی التمثیلی، کان یقال أن الشخص الذی یعثر على ساعة فی جزیرة ما فإن النظم الموجود فی الساعة یدل المشاهد على وجود الناظم، فیستفاد من هذا المثال لتطبیق الفکرة فی مجال النظم التکوینی فیقال: إنه لابد من وجود منظم لهذا الکون کما للساعة منظم.[16]
أقسام النظم التکوینی الطبیعی:
الربط الوجودی (فی الطبیعة و التکوین) الذی یحقق معه النظم التکوینی الطبیعی یکون على ثلاثة أقسام: لأن الربط الوجودی یوجد فی محیط العلة و المعلول، و أما الأمور الخارجة عن الارتباط على وجه العلیة و المعلولیة لا یوجد فیما بینها أی لون من ألوان النظم، و العلاقة بین العلة و المعلول لا تخرج عن ثلاث حالات:
1- الربط بالعلة الفاعلة.
2- الربط بالعلة الغائیة.
3- الربط بعلة (القوام) الداخلیة.
بالنسبة للقسم الأوّل: وهو ربط العلة الفاعلة بمعلولها فإن النظم فی مثل هذا الربط هو عبارة عن لزوم السنخیة الخاصة بین کل فعل و فاعله {کُلٌّ یَعْمَلُ عَلَى شَاکِلَتِهِ} وإلاّ لکان کل أثر متوقع من کل مؤثر، و کل مؤثر من الممکن أن یکون له أی أثر، و هذا الأمر هو عین الصدفة و إنکار قانون العلیة.
القسم الثانی: و هو ربط العلة الغائیة بالمعلول یکون (النظم) فیه هو"لزوم الربط التکاملی المخصوص موجود غیر واجب بهدف معین". و إلاّ لکان کل شیء یتخذ وجهة و هدفاً ما، و إن مآل و مرجع أی موجود هو کل شیء آخر، وعدم الانسجام الغائی هذا هو نظیر عدم الانسجام الفاعلی المتقدم، فإنه یکون سبباً للهرج و المرج و الاضطراب.
القسم الثالث: و هو الربط الداخلی لأجزاء شیء معین، فإنه مختص بالشیء الذی له مادة و صورة، جنس و فصل، أو عناصر و ذوات متعددة، و أما الشیء خارجاً، فلا یتصور بالنسبة إلیه النظم الداخلی بلحاظ الخارج، و إن کان النظم الداخلی متصوراً و معقولاً بلحاظ الذهن و ذلک بسبب الترکیب من جنس و فصل و أمثالها. و أما الشیء البسیط بلحاظ الذهن، فکما أن النظم الداخلی غیر متصور بالنسبة إلیه بلحاظ الخارج، فإن النظم الداخلی بالنسبة إلیه بلحاظ الذهن غیر معقول أیضا.[17]
و النظم الداخلی یمکن أن یکون على قسمین: النظم الحاصل من الانسجام و التناغم الداخلی لعناصر مجموعة محدودة، و النظم الحاصل من اتساق و انسجام عناصر الوجود فی مجموع الوجود.[18]
و من الطبیعی أن هکذا أنواع من النظم لا تنحصر فی الأقسام المذکورة أعلاه، فهی غیر قابلة للحصر العقلی، فمن الممکن أن تضاف إلیها أقسام أخرى، و کذلک یمکن أن تتداخل الأقسام التی تقدم ذکرها.[19]
و ببیان آخر یوجد أربعة أنواع للنظم:
أ – الانسجام الداخلی بین عناصر نظام محدود.
ب – انتظام عناصر الوجود فی مجموع الوجود.
جـ - الانسجام و المسانخة بین الفعل و الفاعل.
د – الانسجام و الارتباط الضروری لکل فعل بغایته الخاصة بالفعل فی سیاق سلسلة العلل الغائیة.
اختلاف النتیجة فی کل قسم من أقسام النظم:
أن النظم الحاصل بلحاظ الانسجام الداخلی لعناصر نظام محدود و معین أو الحاصل من اتساق عناصر الوجود فی مجموع الوجود هو غیر النظم الحاصل کنتیجة لمسانخة الفعل مع الفاعل فی سلسلة العلل الفاعلة أو الحاصل من ضرورة ارتباط أی فعل بالغایة الخاصة به فی سلسلة العلل الغائیة للوجود.
فالبرهان المستفاد من انسجام عناصر نظام معین و فی حالة تمامه لا دلالة فیه على إثبات غایة الفاعل الذاتیة، و إنما یقتصر على إثبات المبدأ و العلة الکامنة وراء هذا النظم، و من الممکن أن تکون هذه العلة الفاعلة هی أمر ممکن و حادث و متحرک، و حتى فی حالة کون مدار الاستدلال هو النظم الموجود فی عموم مجموع عالم الوجود، فمن الممکن أن یکون المنظم موجوداً مجرداً عالماً قدیراً و هو خارج عن مجموع هذا الانسجام فی عناصر النظام، و لکنه لم یکن واجباً.
و من هنا ظهرت الحاجة إلى إتمام الاستدلال ببرهان النظم على إثبات وجود الواجب ببرهان الإمکان.[20]
إن محور البحث فی برهان النظم هو (الانسجام) و النظم الداخلی و النظم الغائی[21] و المراد بشکل أساسی هو هذا الانسجام الحاصل بین أعمال مجموعة من العناصر المختلفة الذی یستهدف تحصیل غرض واحد، هذا الهدف و الغرض لا یمکن تحصیله کنتیجة لعمل عضو أو عنصر من العناصر بمفرده و دون انضمامه إلى بقیة العناصر و الأفراد. کما هو الحال فی النظم الصناعی الذی یعین الوقت الحاصل کنتیجة لعمل جمیع أجزاء الساعة و عناصر صناعتها، أو حصول المتعة لدى المشاهدین الذین یتأملون الألوان و تراکیبها المنسجمة فی لوحة فنیة.
و یحتمل أن الذین جعلوا من تکرار الأفعال المتشابهة من الفاعلین المتشابهین مقدمة (صغرى) فی برهان النظم أنهم حللوا انسجام الفعل و الفاعل فی قانون العلیة فی العالم بهذا القیاس.[22]
إثبات وجود النظم:
بعد أن بینا تعریف النظم و أشرنا إلى أقسامه، لابد من إثبات وجود النظم، لأننا أشرنا فی ما تقدم أن المقدمة الأولى لبرهان النظم (الصغرى) هی (وجود النظم) التکوینی، لا النظم الصناعی و الاعتباری.[23]
و مدار النظم التکوینی الطبیعی و متعلقه تارة یکون الموجودات المادیة الطبیعیة، و تارةً موجودات عالم المثال (المجردات المثالیة) و تارة تکون موجودات عالم العقل (المجردات العقلیة).[24]
و المطروح لدى المتبنین لبرهان النظم و المنتقدین له.[25] هو هذا النظم الطبیعی فی الموجودات المادیة الذی تتکفل العلوم التجریبیة بإثباته و بالنظر إلى تعریف و تحلیل النظم، و إنه نوع ارتباط ضروری و ربط لزومی بین شیئین أو أکثر، فإن مقدمة النظم (الصغرى) هی مقدمة تجریبیة و لیست مقدمةً حسیة، و ذلک لأن الحد الأعلى لما یتلقاه الحس من مشاهدة الأمور الطبیعی هو إدراک الأشیاء و انظمام بعضها إلى بعض و تعاقبها و تداخلها. و أما النظم کارتباط ضروری و ربط لزومی فلا یمکن تحصیله عن طریق الحس.[26]
و فی برهان النظم إذا کان النظر فی نظم قسم و جزء من الطبیعة، فبانضمام کبرى البرهان (کل نظم له ناظم) فالنتیجة تثبت النظم فی هذه الحدود التی أخذت بنظر الاعتبار، و إذا کان الملحوظ هو النظام فی تمام عالم الطبیعة، فإن النتیجة تکون بهذه الحدود أی تمام عالم الطبیعة، و هی إثبات وجود مدبر و منظم لهذا العالم، و حیث أن التجربة و المشاهدة الحسیة ممکنة فی جزء و قسم من عالم الطبیعة فلا مشکلة فی إثبات النظم و الحصول على النتیجة.[27]
و لکن الکلام فیما لو أردنا إثبات النظم فی مجموع عالم الوجود بما فیه (عالم الطبیعة، عالم المثال، وعالم العقل)، فإن ذلک غیر ممکن إلاّ بالبرهان العقلی.[28]
و أما البرهان اللمی[29]، الذی یعنی النظر من طریق المبادئ العالیة و بواسطة الصفات و الأسماء الإلهیة، لا انه فقط یستطیع إثبات النظم فی الطبیعة و النظم فی کل عالم الوجود فقط، بل یستطیع إثبات أن النظام الموجود هو الأحسن و الأکمل، ومن الطبیعی ان الذی یعتمد برهان اللم لاثبات النظم والانسجام او الاحسنیة قبل الوصول الی اصل النظم یکون قد اطلع علی وجود المبدأ.[30]
علة النظم (لماذا النظم):
إن السؤال عن علة النظم الموجود فی العالم (فی قسم من أقسام الطبیعة أو تمام عالم الطبیعة، أو مجموعة الوجود) هو فی الحقیقة بحث عن کبرى القیاس، بمعنى القول: بأی علة فاعلة وجد النظم، فلو لم یکن منظم و مبدأ فاعل للنظم الموجود، أو أنه وجد صدفة، فإن المقدمة الثانیة للاستدلال، وهی (الکبرى) التی تقول أن لکل نظام منظماً و فاعلاً لا تکون صحیحة، لأنه لا فرق بین القول أن تمام النظم الموجود لا منظم له، أو القول أن البعض جاء بالصدفة و البعض الآخر یوجد له منظّم.[31]
و المراد من المنظم هو موجود خارجی مشخص و عینی هو الذی أوجد النظم و الانسجام الخاص فی النظام الداخلی أو الغائی بالنسبة للموجودات الطبیعیة و أن وجوده ضروری لهذا النظم, على هذا فلابد من نفی احتمال المصادفة بشکل کامل.[32]
الاستفادة من برهان النظم فی القرآن الکریم:
بغض النظر عن ضیق الأفق الموجود فی برهان النظم و الذی أشرنا إلى بعض وجوهه فإنّ استعمال هذا الدلیل فی مقابل من یقبل وجود النظم فی قسم من أقسام الطبیعة أو فی کل العالم و کذلک لمن یعتقد بذات الواجب و بالخالقیة و التوحید الذاتی ممکن ومفید.
کل موجود هو آیة و دلالة على وجود الله سبحانه، و قد جعل القرآن الکریم من خلق السماوات و الأرض، و النفوس و الأبدان، من ذوات الأرواح و غیرها أدلة و علامات على وجود الله، و قد ذکر أن کل واحدة منها بعنوان الآیة على ذلک و إن الموجودات المنظمة من مختلف الجهات و اللحاظات دلیل وآیة على مُبدأ الوجود و مفیضه.[33]
النظم الزمانی من جهة اللیل و النهار و إیلاج أحدهما فی الآخر فی الفصول المختلفة أو فی الفصل الواحد و فی أماکن متفاوتة، أو نظم الأرض و إرساء استقرارها بواسطة الجبال و ... هی من أمثلة النظم الموجود فی عالم الطبیعة، و لا یمکن ذکر کل الموارد فذلک ما یتسبب فی الإطالة.[34]
و لذلک نجد أن القرآن الکریم استعمل برهان النظم بطریقة خاصة حینما یخاطب المشرکین.[35]
و قد حاور القرآن الکریم هذه الفئة التی تعترف بتوحید الخالق و وقوع أصل التدبیر فی المخلوقات. و لکنها تتبنى أن المنظم لهذه الأمور عدة أرباب و شفعاء یتوسطون بین الله و خلقه، و قد جادلهم القرآن بالتی هی أحسن.[36]
إن الخلق هو تذکیر من الله لکل القلوب
فلا قلب لمن لا یقر قلبه بالله
مع کل هذه العجائب المنقوشة على صفحة الوجود
من لم یتفکر ما هو إلى صورة على جدار
و فی الختام نشیر إلى بعض الآیات و الروایات لنتذکر آیات الله و علاماته و مبتدع نظام عالم الوجود.[37]
{وَ مِنْ آیَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ....} و {وَ مِنْ آیَاتِهِ أَنْ یُرْسِلَ الرِّیَاحَ مُبَشِّرَاتٍ.....} و {أَفَلا یَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ کَیْفَ خُلِقَتْ....}.
و قد ورد الکثیر من الإشارات إلى النظم و عجائب المخلوقات الإلهیة فی کلام أمیر المؤمنین علی (ع) یمکن الاطلاع علیها بالرجوع إلى کتاب نهج البلاغة للاستفادة من هذا المنبع الفیاض.[38]
و قد أشار الإمام الصادق (ع) إلى النظم و الانسجام فی عالم الوجود و قال: (فلما رأینا الخلق منتظماً و الملک جاریاً و اختلاف اللیل و النهار و الشمس و القمر دلَّ صحة الأمر و التدبیر و ائتلاف الأمر على أن المدبر واحد).[39]
و عندما طلب منه هشام بن الحکم دلیلاً على وحدانیة الله، قال علیه السلام: (اتصال التدبیر و تمام الصنع).[40]
[1] انظر: المطهری، مرتضى، توحید" التوحید"، ص31 و 58؛ روش رئالستیم، ج 5، ص 34؛ مصباح، محمد تقی، آموزش فلسفه" تعلیم الفلسفة"، ج 2، ص 365 – 367.
[2] جوادی الآملی، عبد الله، تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص 22 – 23.
[3] نفس المصدر، ص22 – 23.
[4] مصباح الیزدی، آموزش فلسفه" تعلیم الفلسفة"، ج2، ص 366؛ الإلهیات، السبحانی، جعفر، ص 56 و 57؛ جوادی الآملی، عبد الله، تبیین براهین اثبات خدا "تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص32 و 231.
[5] مجموعة آثار الشهید المطهری، ج 8؛ درسهاى الهیات شفا" دروس الهیات الشفا"، ص 454؛ روش رئالیسم، ج 5 ، ص40.
[6] النمل، 88.
[7] انظر: مجموعة الآثار، ج8 ، ص 454؛ الأسفار، ج 7، ص 56 – 94و 95 و 101، و 106 و 188؛ آموزش فلسفه" تعلیم الفلسفة"، ج2، ص423 و 424؛ الإلهیات، جعفر السبحانی، ص227؛ المیزان، ج 4، ص 269؛ مفاتح الغیب، ج1، ص350 – 352؛ تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله"، جوادی الآملی، عبد الله، ص41 – 42، و 233.
[8] جوادی الآملی، عبد الله، تبیین براهین اثبات خدا "تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص42 و 227.
[9] نفس المصدر، ص22 و 231؛ السبحانی، جعفر، الإلهیات، ص 56 – 57.
[10] جوادی الآملی، عبد الله، تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص 231.
[11] نفس المصدر، ص232.
[12] نفس المصدر، ص 39 و 40.
[13] المطهری، مرتضى،توحید" التوحید"، ص 60 – 61.
[14] انظر: تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله" ص29–30، و ص228-230.
[15] نفس المصدر، ص29.
[16] نفس المصدر، ص228.
[17] نفس المصدر، ص33.
[18] نفس المصدر، ص230.
[19] نفس المصدر، ص228.
[20] نفس المصدر، ص230.
[21] نفس المصدر، ص32، الکلام فیما یتعلق بالنظم العلمی (مسانخة الفعل و الفاعل) و النظم الغائی (ارتباط کل فعل بالعلیة بالضرورة) و هذا یحتاج إلى وقت وهو خارج عن مجال البحث. انظر: تبیین براهین اثبات خدا "بیین براهین إثبات وجود الله"، ص 228 - 229.
[22] نفس المصدر، ص230.
[23] نفس المصدر، ص32 و 228.
[24] نفس المصدر، ص 32.
[25] أثیرت إشکالات عدیدة و تساؤلات کثیرة حول برهان النظم، أجیب عن کثیر منها فیما طرحنا خلال البحث، إضافة إلى أن الحدیث عنها یحتاج إلى فرصة أخرى. انظر: المطهری، مرتضى، مجموعهى آثار" مجموعة الآثار"، ج 8، ص 454 – 486؛ جوادی الآملی، عبد الله، تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله"، برهان النظم. السبحانی، جعفر، الإلهیات، ج1، ص 55 – 59 و ...
[26] تبیین براهین اثبات خدا "تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص33.
[27] تبیین براهین اثبات خدا "تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص233.
[28]تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص 35 و 233.
[29] للاطلاع على أقسام البرهان، راجع کتب المنطق، قسم الصناعات الخمس، صنعة البرهان.
[30] تبیین براهین اثبات خدا "تبیین براهین إثبات وجود الله، ص233.
[31] نفس المصدر، ص 36 – 37.
[32] نفس المصدر، ص 37.
[33] نفس المصدر، ص 43.
[34] انظر، مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن "معارف القرآن"، ج1 - 3، ص 225 – 317؛ المطهری، مرتضى، روش رئالیسم، ج 5، ص 39 – 48؛ والتوحید، ص 44 – 135؛ الصدر، رضا، نشانهای أز أو"الآیات الالهیة، النجفی، خردمند، أحمد، هستی بخش جهان "خالق الکون" و ...
[35] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللَّهُ} لقمان، 25.
[36]تبیین براهین اثبات خدا" تبیین براهین إثبات وجود الله"، ص 238.
[37] الروم، 22 - 27، و46؛ لقمان، 31؛ فصلت، 37؛ الشورى، 29؛ الغاشیة، 17 – 21 و ....
[38] نهج البلاغة صبحی الصالح، الخطبة، 1، 83، 91، 155، 165، 182، 185، 186، 211.
[39] الصدوق، التوحید، ص 244.
[40] الصدوق، التوحید، ص250.