Please Wait
10118
1- بلورالیسم تعنی التعددیة بمعنى قبول الکثرة، و لها استعمالات متعددة فی میادین مختلفة کفلسفة الدین، و فلسفة الأخلاق، و الحقوق، و السیاسة، و ... و القاسم المشترک بین هذه الاستعمالات المختلفة هو الاعتراف رسمیاً بقبول الکثرة مقابل الوحدة أو الانحصاریة.
و التعددیة الدینیة "بلورالیسم" معناها عدم انحصار الفلاح و السعادة فی دین واحد بخصوصه، و إن جمیع الأدیان تنهل من الحقیقة، و تنتهی بالإنسان إلى النجاة و الفلاح.
2- و الاعتقاد بالکثرة و التعدد تارة یلاحظ فی حوزة الأدیان المتعددة و المختلفة، و تارة بین الفرق التی تنشأ فی الدین الواحد.
3- التعددیة مرفوضة بحسب وجهة النظر الإسلامیة، و ذلک لأننا نمتلک أدلة واضحة و صریحة على أحقیة الإسلام و أکملیته إلى حد لا یمکن معه مساواته بالأدیان الأخرى، و أن القول بهذا غیر صحیح و لا منطقی، إضافة إلى ذلک فإن سلامة القرآن و عدم تعرضه للتحریف، و خاتمیة رسالة الإسلام بمنزلة نسخ الأدیان السابقة جمیعاً.
4- القراءات المختلفة للدین التی احد مبانیها هو الهرمونتیک النسبیة، هی الأخرى فرع من فروع دراسة الدین و تحلیل عناصره، و أصحاب هذه النظریة یعتقدون بتأثیر جمیع الافتراضات المسبقة و الخلفیة العلمیة لأی مفسر عندما یحاول فهم النص و تحلیله، و بالنسبة لموضع القراءات المختلفة للدین توجد وجهات نظر مختلفة من أهمها: وجهة نظر شلایر ماخر، و دیلتای وهایدگر، و گادامر.
5- مع أن بحث (القراءات المتعددة) بحث جدید فی فلسفة الدین و أنه نشأ فی الغرب، و لکن بحث التفسیر و التأویل و فهم النص له تاریخ بعید فی حوزة العلوم الإسلامیة، مثل مباحث علم الأصول.
6- فی وجهات النظر المتقدمة لا توجد قیمة و ضابطة و معیار یمکن أن نقارن على أساسه بین القراءات المختلفة لإصدار الحکم بشأنها و ترجیح البعض على البعض الآخر، و فی واقع الأمر تبدو النسبیة واضحة فی تلک الاتجاهات.
7- إن مبحث التعددیة (بلورالیسم) و مبحث القراءات (هرمونتک) مقولتان منفصلتان عن بعضهما. و لکن احد تفسیرات التعددیة (بلورالیسم) یعتبر أحد مصادیق تعدد القراءات(هرمونتک)، و هذا من الممکن أن یشکل حلقة وصل بین المبحثین، بمعنى أنه إذا کانت القراءات المتعددة ممکنة للأمر الواحد و الظاهرة الواحدة فإنه بالإمکان تعلیل و توجیه وجود الأدیان المختلفة.
8- و الإشکال البارز فی وجه النظریة هذه أنه لا یمکن الحکم بالصحة على کل قراءة و من المسلم به أن فهم الإنسان تابع لقوانین المحاورة و المفاهمة. و لفهم النص أصول مثل: ملاحظة حال المتکلم و المؤلف و نظامه الخاص، و اللغة التی یختارها (الجد – الهزل – السخریة...) و أن المتکلم لابد و أن یستهدف مفاهیم خاصة فی عباراته و کلامه.
التعددیة (Pluralism) بمعنى المیل و الاعتراف بالکثرة (جمع = Plural) و لها استعمالات متعددة فی میادین مختلفة کفلسفة الدین، و فلسفة الأخلاق و الحقوق و السیاسة و ... و القاسم المشترک بین جمیع الاستعمالات هو الاعتراف بالکثرة مقابل الوحدة أو الانحصار (Exclusivism).[1]
أما التعددیة الدینیة (Religious Pluralism) فمعناها أن الحقیقة و الفلاح لا تنحصر بدین خاص واحد، و أن جمیع الأدیان تنطوی على شیء من الحقیقة، و نتیجة ذلک إن اتباع أی دین من هذه الأدیان المتعددة یوصل إلى الفلاح و النجاة. و على هذا الأساس یمکن إغلاق أبواب النزاع بین الأدیان على خلفیة الحق و الباطل، و باعتقاد التعددیة أن النزاعات الدینیة و الاقتتال المذهبی یمکن استبداله بالمحبة و الأخوة و السلام بین مختلف الأدیان.[2]
ملخص عن تاریخ التعددیة الدینیة:
طرحت فکرة التعددیة الدینیة و روج لها فی البدایة من قبل العالم المسیحی و فی العقود الأخیرة على ید (جان هیک) المولود فی عام 1922م، یقول هیک:
إن اصطلاح تعدد الأدیان أو (الکثرة الدینیة) فی نظر الخبراء – و بشکل مبسط – هو عبارة عن أمر واقعی متمثل فی القول أن تاریخ الأدیان حاکٍ و مبین تعدد السنن و کثرة المتفرقات فی کل واحد منها. و فی نظر الفلسفة فإن هذا الاصطلاح ناظر إلى نظریة خاصة من العلاقات و الروابط بین السنن، حسب دعاواها المختلفة مع منافسیها.
و هذا الاصطلاح یعنی أن الأدیان العالمیة الکبرى عبارة عن: وجوه متعددة لحقیقة واحدة ترمز إلى غایة إلهیة واحدة.[3]
و یقول فی موضع آخر: "الأدیان المختلفة هی معطیات متفاوتة للتجربة الدینیة، التی بدأت کل واحدة منها فی مقطع زمنی خاص من تاریخ البشر، و قد زرعت وعیها العقلی فی داخل فضاء ثقافی معین".[4]
و التعددیة یمکن تصورها بین الأدیان، و تعنی اعتبار جمیع الأدیان على أنها حق أو أن نعتبر کل واحد منها یشتمل على بعض الحقیقة، و له نصیب من الحق. و یمکن تصور التعددیة بین الفرق المختلفة فی داخل الدین الواحد، فنقول أن کل واحدة منها یمکن أن تکون صاحبة حق، و مثاله: السنة و الشیعة کفرقتین وجدتا داخل الدین الإسلامی، و إن کل واحدة منهن تعتبر نفسها هی الدین الخالص، و لکن بحسب التعددیة فإن کل فرقة یمکن أن تکون على حق، أو أن نقول أن کل فرقة تشتمل على بعض الحق، و بعبارة أخرى، فإن التعددیة الدینیة یمکن أن تقسم إلى تعددیة خارجیة و تعددیة داخلیة.
المتبنیات و المعطیات المترتبة على التعددیة الدینیة:
وجدت عدة متبنیات وأسس لنظریة التعددیة الدینیة منها:
الاتجاه الاوّل: التمایز بین (جوهر الدین) و (قشور الدین) و نسبة الأصالة إلى جوهر الأدیان و مضمونها و إهمال القشریات و الإعراض عنها. ففی هذا الاتجاه التعالیم وخصوصا الآداب و المناسک الظاهری على انها امور قشریة.
الاتجاه الثانی: إن هذا التفسیر یؤکد على التجربة الوحیانیة و التجربة الدینیة و یحجم الدین فی إطار التجربة الدینیة ولا یتعدى إلى خارجها، و یضع الظاهرة الدینیة دائماً تحت مجهر التحلیل و التفسیر، للاعتقاد بدخالة عدة عوامل و مؤثرات تتحکم بطبیعة الظاهرة و کیفیة تشکلها، و من أهم العوامل: الفروض المسبقة و الخلفیة الثقافیة و العلمیة، و بذلک یرجع تنوع الأدیان إلى تنوع العوامل المذکورة. و بعبارة أخرى، إن تنوع الأدیان ما هو إلاّ انعکاس لتجارب الدین الواحد فی مرآة المحیط الثقافات المعتددة لکل زمان و مکان.
الاتجاه الثالث: هذه القراءة تمیل إلى الإنسان بشکل أکبر، و یعتقد فیها أن على الأدیان و بدلاً من التأکید على جوانبها اللاهوتیة – أن تهتم بالمشترکات الحیاتیة الدنیویة فیما بینها، و هذا من لوازم و ضروریات الحیاة الاجتماعیة المشترکة التی یجب أن تؤخذ بعین الاعتبار، و لکل دین أن یحتفظ بمباحثه اللاهوتیة لنفسه و فی دائرته الداخلیة.
الاتجاه الرابع: لجمیع الأدیان رسالة واحدة، و لا نحتاج إلا إلى قلیل من التحلیل و التفسیر لرفع کافة الاختلافات و التنافی بین الأدیان، و أن اختلاف الأدیان ناشئ - فی واقع الأمر - من اختلاف التفاسیر و وجهات النظر، و تباین اللغات و غیرها من العوامل غیر الواقعیة.
الاتجاه الخامس: و هذا المعطى یبتنی على التفاوت بین (الحقیقة فی نفسها) و الحقیقة (لدینا): إن الواقعیة موجودة فی نفس الأمر و لکن إدارکها بالکامل لدى شخص واحد غیر ممکن بالضرورة، و إن الأفکار عاجزة عن بلوغ الحقیقة بهذا الشکل. و أما الحقیقة التی توجد بالنسبة لنا و التی تعکس جانباً من الحقیقة فإنها متکثرة بسبب تلقی الإنسان لهذا الأمر المقدس (الدین) و تمثله و صهره و صبه فی قوالب متعددة تبعاً للأعصار و الظروف المحیطة و الثقافات المختلفة.
إضافة إلى ذلک، فإن الله تعالى صاغ کلامه و خطابه بکیفیة تتلائم مع الأجواء الثقافیة و الحضاریة لکل مجتمع و أمة فی العصور المختلفة.
و لا یفوتنا القول بالنسبة إلى المعطیات و المتبنیات المتقدمة أنه من الممکن أن یقال: إن المجموعة المتقدمة من الآراء و المتبنیات قابلة للنقد و التحلیل و إثارة الملاحظات الجدیة، مع أن البعض منها کما هو المعطى الأول و ... یمکن أن یقال- بنحو ما- بصحة ما جاء به من تفسیر، و لأجل الاطلاع بشکل أوسع تراجع الکتب المتعلقة بالموضوع.
الاتجاه السادس: إن هذا التقدیر هو اتجاه (هرمنوتیکی) یبتنی على أساس میول المفسر، و یعتقد بالتأثیر الکامل للآراء و الفروض المسبقة و الخلفیة العلمیة لکل مفسر حین معالجته للنص و محاولة فهمه، و بحسب هذا الاتجاه فإن المتکلم و المؤلف کالمفسر، و إن المؤلف یفقد خصوصیته کمؤلف بعد أن ینتهی من تسجیل النص، و على هذا المبنى فإن العبارات بنفسها لا تُفهم شیئاً و لا توحی بشیء، و إن المفسر الذی یأتی حاملاً متبنیاته المسبقة و خلفیته العلمیة و الثقافیة لینفخ الروح فی العبارة. و بعبارة أخرى، فإن المعنى المستبطن فی العبارة بمثابة عجینة الدمى التی یشکلها ذهن المفسر على أساس خلفیاته و تصوراته و ثقافته، فالعبارات لیس حبلى بالمعانی، و إنما هی متعطشة إلیها و مهمة المفسرین و المخاطبین هی أن ینفثوا هذه المعانی فی جسم العبارات.[5]
والاشکالات التی تواجه هذا الاتجاه السادس الذی یمثل نقطة الاشتراک بین التعددیة (بلورالیسم) و القراءات (هرمونتیک) عدیدة نشیر إلى بعض منها:
إن منظومة فهم الإنسان تابعة لقوانین المحاورة و أصولها، و إن جمیع العقلاء یعلمون بهذه المبانی و الأصول.
و هناک أصول و قواعد فی فضاء الفهم و التفاهم مثل: التوجه إلى حالة المتکلم و المؤلف، نظامه الخاص، اللغة التی یختارها لخطابه (الکیفیة التی هو علیها من رمزیة او جد أو هزل أو ...) و کذلک ملاحظة الأصل و القاعدة التی ترتکز فی الأذهان و هی أن المؤلف و المتکلم و ... لابد و أن یکون له قصد و مراد و مفهوم خاص من کلامه، و هذه جمیعاً أصول و قواعد عقلائیة عامة لا یمکن للمفسر (المنحاز) أن یتجاوزها و لا یأخذها بنظر الاعتبار. و من الطبیعی إذا وجد نص یخبر عن شیء، فلابد من السعی لفهمه تبعاً للقرائن و الظروف المحیطة به. و حیث أن النصوص الدینیة فیها ناسخ و منسوخ و عام و خاص و مطلق و مقید و .... فلابد من الدقة و الاهتمام بدراسة کامل النص بدایة و نهایة و إضافة لأطرافه و ما یتعلق به. إذن لابد من ملاحظة عدة فروض و شروط مسبقة لفهم نص معین، مثل معرفة لغة المؤلف و القرائن الحالیة و المقالیة و ... و لکن هناک عدة افتراضات و شروط مسبقة تحول بین المخاطب و فهم النص بشکل صحیح لابد من اجتنابها و التخلص من تأثیراتها.[6]
ملاحظة على نظریة التعددیة (بلورالیسم).
إذا تجاوزنا جمیع الآراء التی انتقدت اتجاه التعددیة الدینیة لابد من الالتفات إلى أننا نحن المسلمون نعتقد بوجود أدلة واضحة و مقبولة عقلاً على حقانیة الإسلام، و استناداً إلى هذه الأدلة و المستندات لا یمکن أن نقبل محاولة مساواة الإسلام و وضعه فی مرتبة و منزلة واحدة مع سائر الأدیان، و لا یمکن أن تکون هذه الفکرة صحیحة و مقبولة، و من هذه الأدلة عقلانیة ما جاء به الإسلام من أحکام و تعالیم و تشریعات، و انسجام التعالیم الإسلامیة مع بعضها، و وثاقة النصوص الإسلامیة و صحة إسنادها، حیویتها و الحفاظ علیها، عدم تعرض کتاب المسلمین ( القرآن) إلى التحریف، تحدی القرآن و إعجازه، شمولیة أحکامه و عملانیتها.
إضافة إلى ذلک، فإن النقطة الأکثر أهمیة فی هذه المباحث هی مسألة خاتمیة الدین الإسلامی و تأخر زمانه بالنسبة للأدیان السابقة، و بذلک یکون بمنزلة الناسخ للأدیان المتقدمة.[7]
القراءات المختلفة للدین.
القراءات المختلفة أو (الهرمنوتیک) هی الأخرى فرع من فروع الدراسة و التحقیق بالنسبة للدین، حیث یعتقد أنصار هذا الاتجاه بتأثیر جمیع الافتراضات المسبقة و المتبنیات الفکریة و الخلفیات العلمیة للمفسر حین معالجته و فهمه للنصوص.
و فی ضمن نظریات (الهرمنوتیک) توجد آراء متعددة نشیر إلیها فیما یلی:
1- رأی شلایر ماخر: الهرمنوتیک منهج لتفسیر النصوص و تجنب سوء الفهم الناشیء من الفاصل الزمنی بین عصر النص و عصر المفسر.
2- رأی دیلتای: الهرمونتیک: هو أساس و مبنى للعلوم الإنسانیة فی مقابل العلوم الطبیعیة. و یعتقد دیلتای بمدخلیة التاریخ فی تفسیر المفسر للنصوص.
3- رأی هیدگر: الهرمونتیک، تبین ماهیة الفهم و شروط حصوله، و قد بدل هیدکر الهرمونتیک من اتجاه إلى فلسفة - أو معرفة الجود- و على أساس مبنى معرفة الوجود تلقى المسألة على انها تبیین لسؤال ما هو و ماهیة فهمه و معرفة شروط حصوله.
4- رأی گادمار: الهرمونتیک هو ترکیب الآفاق، و قد عرض ابحاث المعرفة الوجودیة لهیدگر على شکل مباحث معرفیة" علم المعرفة"، وفی واقع الامر فانه وضع اسس معرفة الوجود، والهرمونتیک بالنسبة لگادمر اساسه خلق فضاء لتحقق الفهم"عملیة الفهم"، دون الاعتناء بصحة الفهم وعدمها، او اعتبار الفهم و عدم اعتباره.
و فی نظره إن ذهن المفسر مشحون بالعقائد و المعلومات، الفرضیات والتساؤلات، إضافة إلى الفرضیات و المتبنیات التی تشکل (أفق) أو (رؤیا) قارئ النص، و هذا الأفق یتحرک مع المفسر بشکل دائم و یتبدل مع التماس بالعالم و الأشیاء و النصوص. و العمل التفسیری عبارة عن (ترکیب الآفاق) یعنی ترکیب و ربط (أفق فهم المفسر) مع (أفق النص) و عمل الهرمنوتیک، هو تأمین الاتصال لهذه الآفاق مع بعضها، و إیجاد نوع من التناغم و توحید الخطاب و التحاور بین المفسر و النص. و إن منشأ اختلاف التفاسیر هو الاعتماد و الاستناد إلى الفرضیات و الآفاق المسبقة.
و بحسب اعتقاد گادمر لا یمکن أن توجد رؤیا مطلقة تستوعب کل الأبعاد و الآفاق، و إنما لکل تأویل و تفسیر لغته الخاصة و آفاقه و طریقة حواره مع النص، و لذلک من غیر الممکن أن نقول بالتفسیر الحیادی للنص، و لا یوجد تفسیر قطعی و نهائی، و فی واقع الأمر فإن رأی گادمر بالنسبة للقراءة لا یعتنی بالکشف عن نیة المؤلف الأصلیة و الأساسیة، لأن النص لا یکون تجلیاً لذهنیة المؤلف.[8]
ملاحظات على نظریة گادمار:
یلاحظ فی السنوات الأخیرة تفشی الاتجاه الگادمری فی الجدال الکلامی و السجال الفلسفی، و قد سجل هذا الاتجاه حضوراً أکثر من غیره فی هذا المیدان و ترک أثراً أکبر على الساحة العلمیة. و لذلک نشیر إلى بعض الانتقادات المتوجه لهذا الاتجاه:
أولاً: ما هو الدلیل الذی یجعلنا نتغافل عمدا عن مقصود المؤلف و المعنى الذی ینطوی علیه النص؟ فهل یعجز المفسر من خلال المعاییر فی تفکیک افقه الذهنی عن الافق الذهنی للمؤلف؟
ثانیاً: إن رأی گادامر ینتهی بنا إلى نوع من النسبیة الصریحة و لا یبقى أی فاصل بین الفهم الصحیح و غیر الصحیح، و فی الواقع فإن هذه النظریة هی نوع من (النسبیة) التی تشابه ما یراه (کانت).
ثالثاً: یمکن الإشکال و الاعتراض على نظریة گادامر بشکل عام و کلی و القول بأن کل الافتراضات و الخلفیات و السنن المسبقة أمر قابل للاجتناب، کما یمکن تحاشی تأثیراته.
رابعاً: إذا کان کل فهم بحاجة إلى فرض مسبق، فإن هذا الفرض محتاج إلى فرض یسبقه أیضاً و ذلک ما ینتهی بنا - فی واقع الأمر - إلى الدور أو التسلسل.[9]
نکات بخصوص القراءات المختلفة بالنسبة إلى الدین:
إلى هنا تم توضیح (الهرمنوتیک) أو القراءات المختلفة للدین، و الإشارة إلى الأسس المتعددة لهذا المفهوم، و ذکرنا بعض المسائل بخصوص نظریة گادامر التی کان لها إشعاع واسع فی أوساط المفکرین المعاصرین، و لکن لابد من ذکر بعض النقاط لاستکمال البحث و استیفائه.
النقطة الأولى: مع أن مسألة القراءات المختلفة لنصوص الدین مأخوذة من القراءة للفلسفة الحدیثة، و لکن البحث عن التفسیر و التأویل و فهم النصوص له تاریخ طویل و قدیم فی میدان العلوم الإسلامیة. و من الممکن القول: أن مباحث القراءات (الهرمونتیک) فی العلوم الإسلامیة موجودة و مطروحة خصوصاً فی علم التفسیر و الأصول، و العرفان النظری. و یمکن الإشارة إلى ذلک بعنوان المثال إلى عدة مباحث منها: أنواع التفسیر العقلی، و النقلی، و الرمزی، و الشهودی، و تفسر القرآن بالقرآن، أو آیة بآیة أو التفسیر بالرأی، مباحث الألفاظ، أو الظهور و ...
النقطة الثانیة: بما أن النصوص الدینیة المقدسة لها الدور الأهم فی بناء ثقافة المسلمین، و لها الدور الأبرز فی کتابة علوم الإسلام و تدوینها، أو ینبغی أن یکون لها مثل هذا الدور، فمن الممکن القول:
إن بناء النظریات و الأبحاث المختصة بمعرفة المناهج بالنسبة إلى فهم التفسیر، و کیفیة معالجة النصوص و الاستفادة منها هی من أکثر النظریات أهمیة و حضوراً فی ساحة الأبحاث الکلامیة، و لهذه العلة طرحت العدید من الاتجاهات و الاعتقادات بالنسبة لإمکان القراءات (Reading) المختلفة للدین، و قد بذلت جهود کبیرة فی هذا المجال و هذه الاتجاهات ظهرت فی السنوات الأخیرة على أیدی بعض العلماء و المفکرین من العجم و العرب.
و إن عمدة هذه الأبحاث اعتمدت على نظریة گادامر فی القراءات و قد سعى هؤلاء المفکرون إلى استعمال منهج القراءات (الهرمونتیک الفلسفی) فی تفسیر القرآن و الروایات و فی منطق فهم الدین، و یمکن تلخیص مدعیاتهم فی هذا المورد بالآتی.
1- إن نصوص الشریعة و الدین نصوص صامتة و ساکنة.
2- إن الفرضیات و الخلفیات المسبقة فی أذهان المفسرین و المخاطبین تؤثر فی تفسیر النصوص.
3- لا یمکن أن توجد حقیقة الدین فی رؤیة أی مفسر من المفسرین.
4- لا توجد قراءة أصیلة و خالصة من الشوائب، و نحن دائماً نتعامل مع القراءات و الآراء التی یختلط فیها الحق بالباطل.
النقطة الثالثة: بحسب رؤیة الکثیر من المفکرین متقدمی الذکر لا نجد معیاراً قیمیاً و لا میزاناً أو ضابطاً نحتکم إلیه فی المقارنة بین القراءات المتکثرة لأجل الترجیح فیها بینها، و تمییز القراءة الصحیحة عن غیرها أو الملائمة عن غیر الملائمة. و بعبارة أخرى، إن جمیع مفردات الفهم و التعامل مع النص هی بمستوى واحد من القیمة، فی حین یختلف الأمر على أساس المبانی الدینیة و النظریات الرائجة، فإن على المفسر و القارئ أن یسعى بکل جهده فی تفکیک أفقه الذهنی من الأفق الذهنی للمؤلف و الکاتب، و اعتماداً على الضوابط و المعاییر الصحیحة لابد أن یجتهد فی أن یجعل قصده و نیته مطابقة لقصد کاتب النص و منشأه. و إلا فهذه النظریات الجدیدة لا تؤدی الى نسبیة الفهم الدینی و حسب، و إنما تحکم بالنسبیة على المنهج المتبع فی الفهم الدینی.
و فی نظر علماء المسلمین و منذ زمن بعید أن اختلاف النظر فی ما یستفاد من النصوص الدینیة أمر مسلم و قطعی، و لکن هذا الاختلاف اختلاف محکوم بالضوابط. حتى أن الکثیر من هذه الضوابط مبینة بنحو من الأنحاء فی النصوص الدینیة نفسها.
وعلى هذا الأساس فإن (الاجتهاد فی الفهم) لا یعنی التفسیر بالرأی و فرض ذهنیة المفسر على النص بما تحمل من خلفیات مسبقة، کما أنه لا یعنی إعطاء الاعتبار لکل قراءة.
النقطة الرابعة: على أساس ما تقدم من آراء القائلین بالهرمنوتیک الفلسفی و القراءات المختلفة للدین فإن رأی المفسر یکون هو (المحور) أی أن ما یقوله لا علاقة له بقصد المؤلف، و إنه یمثل رأیه تبعاً لخلفیاته التی یفرضها على النص، فی حین یکون المؤلف هو (المحور) بحسب نظریة العلماء المسلمین، لأنهم یسعون و یجتهدون للبحث عن القصد الواقعی للمؤلف و المتکلم (وهو الله و المرسلون) بالنسبة للنص الدینی، و من هنا فالمفسر للقرآن أو الحدیث إنما یجتهد لبلوغ قصد صاحب الکلام، و بذلک فهو اتجاه یعتبر (المتن هو المحور ای محوریة المتن) و إن تمام الجد و الاجتهاد و الجهد الذی یبذله المفسر -المؤمن بمحوریة المؤلف او محوریة النص- ینصب على اکتشاف و اصطیاد الرأی الأکثر دقة و مطابقة لما یقوله المؤلف او النص، کما أنه یستفید من کل ضابطة و شرط یسعفه فی هذه المهمة، و من تلک الضوابط مثلاً:
الشواهد و القرائن اللفظیة و الحالیة، و بعض المعلومات المسبقة مثل: قواعد اللغة التی یستخدمها المتکلم، و بعض تراکیب اللغة و قوانینها مثل: العام و الخاص، المطلق و المقید، المجمل و المبین، آفاق النص أو أسباب نزوله و...
إذن لا شک فی کون المؤلف هو المحور لا یعنی إلغاء جمیع الفروض المسبقة و إذا کان بعض الفروض المسبقة و الخلفیات توجب فرض ذهنیة المفسر على النص، فوجود بعضها ضروری و لازم و لا یمکن اجتنابه حین التفسیر و منها:
1- المعلومات المسبقة و البدیهیات التی تمثل أداوت للاستنباط و الاجتهاد مثل القواعد و القوانین الأدبیة و علوم اللغة و غیرها.
2- الفرضیات الکلامیة و العقائدیة من قبیل: حکمة الله، کون کلامه هادٍ و مرشد، ناطقیة القرآن و کونه مبیناً، حجیة الکتاب و السنة و ...
3- الفرضیات المسبقة الموجبة للتساؤلات واستنطاق النص ومحاورته.
النقطة الخامسة: و النقطة الأخیرة التی نرى ضرورة التوجه إلیها تکمن فی الإجابة عن السؤال القائل: ما هو السبب فی ظهور الاختلاف فی الاجتهادات المتعددة، و نتائج فهم النصوص مع وجود الضوابط و المعاییر المشخصة و المعروفة؟
و الجواب بشکل ملخص هو: من المسلم أن جزءاً من هذه الاختلافات و الکثرات لم یکن اختلافاً واقعیاً، و إنما هو اختلاف فی البیان و التعبیر، و إن النتائج المحصلة من هذه الجهود و الاجتهادات هی فی طول بعضها البعض، فمثلاً قد نجد فی الأبحاث الفقهیة بعض الأحکام أو الفتاوى المتعارضة المتعلقة بزمانین مختلفین أو ظروف مختلفة أو حالات متفاوتة، أو حتى فی مواضیع متعددة، و لکن المراجعة و الدقة و التحلیل و تحریر محل النزاع یمکن أن یرفع الکثیر من هذه الاختلافات. و بعبارة أخرى، من الممکن الوصول إلى الجمع بین هذه الآراء.
و هناک نوع آخر من الکثرة و الاختلاف مرده إلى عمق و سعة المحقق أو المفسر أو المفکر، و بعبارة أخرى، أنه ناشئ من التفاوت فی التساؤلات التی یطرحها المفسر و یعرضها على النصوص لاستنطاقها و فهم مدلولتها،....
و إن إحاطة النص و تعدد جوانبه، و کذلک ما ینطوی علیه من عمق و بطون متعددة کل ذلک یؤدی إلى اختلاف الأجوبة التی یتلقاها المفسر و هو یستنطق النص و یستظهر خفایاه، و فی واقع الأمر فإن جمیع الأجوبة تقع فی طول بعضها و لیست متعارضة و متقاطعة، و أما فی الموارد التی یکون فیها التعارض واقعیاً و لیس طولیاً بالنسبة للقراءات المختلفة، فمن الممکن إحصاء بعض علله و أسبابه بالکیفیة التالیة: عدم الاعتناء بالقواعد النحویة و الأدبیة، عدم الاستفادة من قوانین اللغة العامة مثل عدم الاستفادة من الاستثناءات و القیود الواردة فی النصوص، و عدم الاستفادة من أصول الاستدلال و علم المنطق، عدم الشمولیة فی المنهج التفسیری و عدم التوجه على القرائن و المذاق العام للمتکلم، عدم الالتفات إلى الأدلة و القرائن العقلیة، التقصیر فی تحقیق الإسناد و عدم الاستفادة من بعض العلوم: مثل علم الرجال و الدرایة.
و خلاصة القول: إن القراءات المتکثرة للدین الواحد أو النص الواحد بنحو خاضع (للضوابط و المعاییر) و بصورة معقولة و محدودة أمر لا یمکن إنکاره، و فی کثیر من الموارد لا یمکن اجتنابه. و لکن مما لا شک فیه أنه من الممکن وجود أشخاص لا یملکون الکفاءة اللازمة للاستفادة من النصوص و التعامل معها فیدعون اکتشاف قراءة (Reading) جدیدة للدین أو لنصوصه.
و الأمر المسلم فی هذه المسألة هو أن تشخیص و تقییم هذه القراءة المدعاة یرجع إلى المتخصصین و علماء اللغة و المحققین فی هذا المیدان.[10]
النتیجة النهائیة:
اتضح من خلال عرض نظریتی (البلورالیسم) و القراءات المختلفة للدین أن البحثین منفصلین عن بعضهما و أنهما مقولتان کل على حدة، کما أنمها من الأبحاث و التحقیقات فی موضوع الدین و قد سجلا حضوراً واسعاً فی السنوات الأخیرة على الساحة العلمیة و الفکریة على صعید المقالات و الأبحاث و إبداء وجهات النظر، کما أن البحثین ینطویان على مطالب متعددة و منفصلة و متفاوتة مع بعضها، و یعدان کفرعین جدیدین یضافان إلى الأبحاث المتنامیة فی علم الکلام الجدید.
أما نقطة الالتقاء فی الاتجاه (الهرمنوتیکی - بلورالیسم)، فإنها تتلخص فیما عرضناه تحت عنوان الاتجاه السادس فی هذا البحث مع ذکر الملاحظات و بعض المطالب المتعلقة به.
و فی الختام نرى من اللازم أن نشیر إلى أن بحث البلورالیسم (التعددیة) و (الهرمنوتیک) تعدد القراءات یحتاج إلى کلام مفصل و شامل، و نرجو من الطلاب مراجعة الکتب التی تعالج المسألة بشکل مفصل و مستوعب.
مصادر المطالعة:
1- الأستاذ هادوی الطهرانی، مهدی، مبانى کلامى اجتهاد "المبانی والأسس الکلامیة للاجتهاد".
2- سروش، عبد الکریم، صراطهای مستقیم "الصرط المستقیمة".
3- عبد الرسول بیات و آخرون، فرهنک واژها" معجم المصطلحات".
4- رحیم پور أزغدی، حسن، کتاب النقد، العدد 4.
5- شبستری، محمد مجتهد، هرمنوتیک، قرآن، سنت،"هرمنوتیک، القرآن، السنة".
[1] الربانی الگلپایگانی، علی، تحلیل و نقد پلورالیسم دینى "نقد و تحلیل البلورالیسم الدینی"، ص19، المؤسسة الثقافیة للعلم و الفکر المعاصر، الطبعة الأولى، طهران.
[2] نفس المصدر، ص20.
[3] میر چاالیاده، دین پژوهى "التحقیق فی الدین"، ترجمة بهاء الدین الخرمشاهی ص301، المقالة (تعدد الأدیان) لجان هیک.
[4] جان هیک، فلسفهى دین" فلسفة الدین"، ترجمة بهرام راد، ص238.
[5] انظر: صراطهاى مستقیم" الصرط المستقیمة"، عبد الکریم سروش، منشورات الصراط، طهران، مجلة کیان، العدد 36 المقالة بعنوان (الصرط المستقیمة) و العدد 37 و 38 و کذلک عبد الرسول بیات و آخرون، فرهنک واژها، مؤسسة الفکر و الثقافة الدینیة، المقالة بعنوان التعددیة الدینیة، الطبعة الأولى، 1381 هـ.ش.
[6] فرهنک واژها، ص160؛ کتاب فقه" کتاب الفقه"، العدد 4، التعددیة الدینیة، بجهود حسن رحیم پور أزغدی.
[7] فرهنک واژها: 161، و 162.
[8] انظر: الأستاذ هادوی الطهرانی، مهدی، المبانی و الأسس الکلامیة للاجتهاد، المؤسسة الثقافیة دار خرد "بیت العقل"، قم، الطبعة الأولى 1377، بحث (تعدد القراءات) الهرمونتیک، ص200-240؛ و کذلک عبد الرسول بیات و آخرون؛ فرهنک واژها المقالة بعنوان (هرمونتیک).
[9] المبانی و الأسس الکلامیة للاجتهاد، ص225- 235؛ فرهنک واژها، ص590 - 592.
[10] تمت الاستفادة فی هذه النقاط من مقالة بعنوان (الهرمنوتیک)، لعبد الرسول بیات.