Please Wait
6144
الأغلبیة القریبة من الاتفاق تمیل إلى الإیمان و المعنویات میلا عاطفیا، بمعنى أن إیمان أغلب الناس ناتج عن تأثیر العواطف و المشاعر و الأحاسیس من قبیل تقلید الأبوین، أو تأثیر المحیط الاجتماعی، أو ما تثیره بعض الظواهر مثل کرامات الأولیاء، أو انعکاسات بعض المراسم الدینیة و الشعائر المذهبیة، کصلاة الجماعة، و الحج، و إقامة بعض المآتم و العزاء و الاحتفال بالموالید، کل هذه المظاهر من الممکن أن تشکل عوامل و أسباباً تجعل من الإنسان یتوجه إلى الدین و یلتزم بإقامة شعائره.
و إذا استمر هذا اللون من التوجه و المیل إلى الإیمان و المعنویات و مع حصول التمرین من خلال التکرار و التذکیر، إضافة إلى اکتساب العلوم و المعارف الحقة التی تبین حقیقة الدین و أهمیة الإیمان و تکشف عن نقاط القوة فی هذا المجال و عوائد هذا التوجه فی الدنیا و الآخرة، و إذا صاحب هذا حفاظ على النفس من الزلل و الانحراف و التهالک على مظاهر الدنیا و زخارفها کالمال و الموقع و الشهوات، و إنما یحافظ على توازنه و لم یترک أداء الواجبات على أی حال، و لم یترک مجالس الذکر التی تشده إلى الإیمان و المعنویات. فعند ذلک یتحول المیل و الإحساس العاطفی باتجاه الدین و الإیمان إلى میل و التصاق حقیقی یکشف عن رسوخ الإیمان و الأمور المعنویة فی نفسه و قلبه. و فی غیر ذلک فإن المیول و الأحاسیس العاطفیة لا تصمد أمام الشبهات، کما أنه من الممکن أن یغلب على هذا الإحساس و المیل إحساس آخر و میل ثان باتجاه آخر.
و فلسفة أغلب الامتحانات الإلهیة یمکن أن تفهم فی هذا الإطار، حیث یتبین للشخص الممتحن نفسه هل أن إیمانه و توجهه إلى الدین ظاهری و لیس له أساس ثابت وجذور راسخة، أم أنه مبنی على قواعد و أسس ثابتة حقیقیة لا تتبدل، ولا یمکن التنازل عنها حتى مع أقسى الظروف واحلک الحالات.
الإنسان موجود مختار، و یؤدی أعماله على أساس الإرادة و الاختیار، و هذا الاختیار و الانتخاب یرتبط بأمرین داخلیین خفیین، هما میوله و رؤاه. و هذه المیول و التصورات هی على نوعین: میول و رؤى فطریة لا اکتسابیة و لا اختیاریة، و میول و رؤى اکتسابیة و اختیاریة. القسم الأول موجود فی ترکیب کل إنسان بالقوة، فهو بحاجة إلى رعایة و تربیة حتى ینمو و یتکامل و یظهر. أما القسم الثانی فإنه یتم باختیار الإنسان أو إنه یکتسبه من المحیط بواسطة التربیة أو الوراثة.
و من أمثلة المیول الفطریة المیل إلى طلب الحقیقة و البحث عنها أو میل الإنسان إلى الحُسْن و الأشیاء الحسنة، و کذلک میل الإنسان باتجاه الموجود الأعلى و المعارف الفطریة هی ما یطرح فی قضیة الحُسْن و القُبح العقلیین، کمعرفة حسن العدل و الصدق و الوفاء بالعهد، و کذلک معرفة قبح الظلم و الکذب و خلف الوعد، و هذه المیول و التصورات الفطریة هی المحرکات الأساسیة التی تدفع الإنسان إلى اکتساب المیول و الرؤى الاکتسابیة و سائر نشاطاته و فعالیاته الأخرى، و لکنه إذا ما انحرف و توهم فی تشخیص الحقیقیة و الواقعیة فی معرفة المصادیق الحسنة و تمییز الکمال و الجمال، فإنه لا یمکن أن یصل إلى سعادته الواقعیة، أما إذا تمکن من التفکیر الصحیح و الاختیار الصحیح، فإن هذه المحرکات والنشاطات و اختیاره الصحیح و میوله الاختیاریة الصائبة سوف توصله إلى سعادة الدنیا و الآخرة. و قد جاء الأنبیاء لیعطوا الإنسان القدرة و القابلیة على التشخیص الصحیح التی تعد کرامة و میزة بالنسبة له، فالأنبیاء یهدون الإنسان إلى اختیار النهج الصحیح فی الحیاة، و یمدون له ید العون لینال سعادته فی الدنیا و الآخرة، خصوصاً إذا علمنا أن العواطف و الأحاسیس غالبة و مسیطرة على العقل و التدبیر لدى أغلب الناس.
و المیول المعنویة ـ باعتبارها من أفعال الإنسان الاختیاریة ـ لا تخرج عن إطار هذه القاعدة، فمن الممکن أن یکون منشؤها التحقیق و التفکر و التدبر، أو یکون منشؤها العواطف و الأحاسیس و المشاعر، و فی الصورة الأولى؛ فإن هذا المیل باتجاه المعنویات یعتبر میلاً فلسفیاً حکمیاً کلامیاً. و أما الصورة الثانیة؛ فهی عامیة کما یقال، أی أنها میول عاطفیة.
و من الممکن نتصور صورة ثالثة لحصول المیول و التوجهات الدینیة و المعنویة: و هی الحالة الناشئة من اتحاد الحالتین المذکورتین، و فیها یتحد القلب مع العقل، فیکونان منبعین منسجمین یتسببان فی حصول المیول و التوجه نحو الإیمان و القیم المعنویة، و هذا النوع من التوجه یسمى إیمان العارفین.[1] و هذا هو معنى المیل و التوجه الحقیقی وحسب الاصطلاح (التوجه المعنوی الحقیقی).
و فی الصورة الأولى عندما یکون المحرک هو (العلم) فقط ففی حالة عجز العقل عن تعلیل حکم من الأحکام، سواء کان على مستوى التکوین و الخلقة، أو على مستوى التشریع و التقنین، و کذلک فی حالة غلبة هوى النفس و شهواتها الحیوانیة فإن الإنسان یتخلى عن علمه فی أغلب الأحیان، و فی حالة اللزوم قد یخفیه و لا یظهره، أو یکتمه بشکل کامل، کما عبر عن ذلک القرآن بالنسبة إلى فرعون، فی قوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَیَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِینٌ * وَ جَحَدُوا بِهَا وَ اسْتَیْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَ عُلُوّاً».[2]
أما المجموعة الثانیة التی تعمل (بالعواطف) فإنها أشبه بالقشة التی تطفو على سطح ماء النهر تنجرف مع التیار دون علم أو فهم، فتصاحبه فی کل انحناءاته و انعطافاته و لیس لها قدم ثابت و لا موقف معین، فلا ضمان و لا اعتماد على مواقفها، و مثال ذلک من یحضر فی مأتم سید الشهداء ـ لأی سبب ـ فیبکی بغزارة حینما یسمع عرض المصیبة بسبب العواطف و المشاعر و الأحاسیس،_ لا على أساس الحب و المعرفة بمقام الولایة و الإمامة ـ فمن الممکن لهذا الشخص نفسه أن یجد بعد لحظات مجلساً آخر لکنه للهو و الطرب و إتباع الشهوات، فیشترک فیه ویتلون بلون المحیط و یلوث نفسه.
و کذلک الحال بالنسبة لمن یظهر الإسلام و الإیمان لیصل إلى أهدافه فی الحصول على الخلافة و الإمساک بزمام الأمور، أو یشترک فی الحرب و القتال لأجل الحصول على الغنائم من الأموال و الجواری، و عندما یصل إلى أهدافه یتخلى عن دینه و دیانته و لم یکن على استعداد للإنفاق و العمل فی سبیل الله.[3] و لم یقف بوجهه حائل، و لم یتحرج من أی وسیلة فی دائرة تحقیق أهدافه و الحفاظ على ملکه و موقعه، فثبات المجموعة الثانیة على الإیمان و الدین یعتمد على تحقیق مصالحها الدنیویة من جانب، و عدم إصابتها بالخسائر من جانب آخر إضافة إلى ثبات المحیط و استقراره. و من دون ذلک فإنها تتخلى عن دینها بکل سهولة.
و بعبارة أخرى، فإن الناس ینقسمون إلى ثلاث مجموعات بالنسبة إلى توجهاتهم الدینیة و المعنویة و العبادیة.
أ- التوجه إلى الدین و العبادة بسبب الخوف من نار جهنم و خسارة الدنیا، و ذلک أن الله أنذرهم بالوعید و خوفهم العذاب بواسطة الأنبیاء، فعبدوا الله و أطاعوه و آمنوا بغضبه و عذابه و یوم معاده، و عصمة الأنبیاء و الأئمة هی التی تدعم هذا الإیمان و تسنده، و إیمان هؤلاء و عبادتهم صادقة و لا تعتمد على التقلید الأعمى للأهل أو المحیط. أو کما عبر الإمام علی (ع) أن عبادة هؤلاء من باب الوقایة"عبادة العبید" أی أنهم کانوا مطیعین لتجنب العذاب.
ب- الإیمان بدافع الطمع بالجنة و ما أعد الله فیها من نعیم دائم، و ثواب جزیل. و خلفیة هذا الإیمان و المیل و التدین هو الإیمان الصادق بالغیب و البصیرة و لیس من جهة التقلید و الانقیاد الأعمى، فتوجههم للدین و القیم المعنویة بدافع المنفعة، أو کما عبر الإمام علی (ع) "عبادة التجار" فهم یسعون إلى بلوغ ما وعد الله من العطاء.
ج- التعبد و الإیمان بسبب التعمق و التدبر و التفکیر و البصیرة، و لأجل شکر المنعم و المحبوب الواقعی، و الإذعان لأوامره و نواهیه بشکل کامل، و هؤلاء هم العباد الذین عبر عنهم الإمام (ع) بالأحرار" فتلک عبادة الاحرار" لتحررهم من الشهوات و المنافع الدنیویة و الأخرویة، و ابتعدوا عن کل ألوان (الأنا) و الأنانیة، و تعلقوا بالله وحده، أو کما یعبر العرفاء أنهم صاروا (فانین فی الله) فلم یروا أنفسهم، و لم یلتفتوا إلى منافعهم، فضلاً عن أن یتوجهوا إلى العبادة لتحقیق منافعهم.
و فی نظر الإسلام فإن المجامیع الثلاثة المتقدمة ـ بغض النظر عن مراتبها المختلفة الطولیة و العرضیة ـ فإنها صاحبة میول و توجهات دینیة و معنویة حقیقیة فیما لو ظهرت علیهم العلامات المتقدمة و صحت علل توجهاتهم و أسبابها، و لکن الفارق واضح بین مرتبة المجموعة الثالثة السامیة بالنسبة إلى المرتبتین الأخریین.[4]
و هذا عدد من العلامات التی ذکرها القرآن للتوجه و المیل الحقیقی إلى الدین و قیمه المعنویة:
(1) ترک المعصیة و أداء الواجبات بشکل مستمر. [5]
(2) الإیمان المصحوب بالعمل الصالح. [6]
(3) تصحیح الاعتقاد بعدم نسبة الأمور غیر المناسبة إلى الله تعالى، کالادعاء أنه له ولد، أو إمکان صدور القبیح عن الله سبحانه، أو أن الملائکة بنات الله، أو أنهم شرکاؤه.[7]
(4) ذکر المحبوب و تلاوة آیات القرآن، و التلذذ بالمشارکة فی مجالس الذکر والإیمان و المعنویات و المیل نحوها، و الابتعاد عن مجالس اللهو و التنفر من المعصیة و العصاة.[8]
(5) لا تزلزله مشاکل الدنیا و مصائبها و لا تجره إلى الکفر، بل إنه یواجهها بالصبر و التوکل على الله، و بعد حلها و إزالتها، یعود إلى اطمئنانه و هدوئه. [9]
(6) لم یر أی مؤثر مستقل غیر الله سبحانه و تعالى، و إن جمیع من له تأثیر و فعل ـ على المستوى الطبیعی أو الإنسانی ـ إنما هی وسائل و أسباب ترجع إلى الله سبحانه، و هو الفاعل و المؤثر الوحید على الاستقلال. [10]
(7) عندما تتهیأ الأرضیة للعصیان و ارتکاب الذنوب، مثل: الوصول إلى الموقع و الثروة و إشباع الشهوات، فإنه یکف نفسه عنها و یحافظ على طهارتها من خلال العمل بالجهاد الأکبر، فیقمع طغیان النفس و یمیت شهواتها. [11]
(8) لا یأسف على ما یقدم فی سبیل الله من الأموال و الأولاد و النفس، و عندما یملک الدنیا و ما فیها فإنه لا یخرج من دائرة العبودیة لله. [12]
(9) التسلیم و الرضا لحکم الله من دون تردد أو تساؤل، و الإذعان و التسلیم و الطاعة المطلقة لحکم الله و رسوله (ص) و الأولیاء (ع) ، کما أنه لا یتضجر من الأمور التی لا تتلائم و طبعه و میوله. [13]
(10) تلقی و معرفة العنایة الإلهیة و الإلهامات الرحمانیة و الفیض الإلهی للوصول إلى الحیاة الطیبة.[14]
إن تشخیص المیول و التوجهات العاطفیة و فرزها بالنسبة إلى التوجهات الحقیقیة الثابتة الراسخة، و الاحتفاظ بها و إدامتها یحتاج إلى عزم راسخ و إرادة قویة، و صبر و ثبات و تحمل کبیر، خصوصاً فی هذا العصر الذی تضافرت فیه جمیع العوامل العالمیة و الاجتماعیة لتحول بین الإنسان و دینه و توجهاته المعنویة لتجعل منه عبداً مطیعاً للمستعمرین الذین یریدون ابتلاع العالم بأسره.
و لکن مع ذلک لابد من الاعتقاد بأن الإنسان الموجود الوحید القادر على أن یسیر عکس التیار، و لا یقف عند هذا الحد و حسب، و إنما لدیه القدرة على تغییر مجرى الأحداث، و تغییر اتجاه حرکة المجتمع والمحیط، بل و العالم. فهو على الأقل قادر على حفظ نفسه و حمایتها فی أحلک الظروف و أکثرها تعقیداً، و کلما کان العمل أکثر صعوبة و أشق، کان الثواب أوفر و العطاء أکثر.
و على کل حال فکل إنسان على نفسه بصیرة، و هو أعرف من غیره بمیوله و توجهاته، مع أنه من الممکن أن یغمض عینیه و یتساهل فی حال محاسبة النفس، فیتغافل عن سیئاته و یقلل من قیمة تقصیره، أو یلقی المسؤولیة فی ذلک على الآخرین.
أو أنه من الممکن أن یضمر فی داخله خلاف ما یظهره للناس. و علیه فلابد أن یکون أکثر تحرقاً و اهتماماً بنفسه، و جاداً فی تخلیصها و نجاتها من المهالک و ساعیاً إلى سعادتها و راحتها الخالدة، و ذلک عن طریق اکتساب المعارف الحقة و إیتاء الأعمال الصالحة، و الأخلاق الفاضلة، مشفوعاً بالتمسک و التوسل بأهل بیت العصمة و الطهارة، لیسیر بخطى ثابتة و عزم راسخ حتى یصل إلى ما یریده و متسلقاً إلى قمة مقاصده.
المصادر:
1- جوادی الآملی، عبد الله، حیات عارفانه امام على (ع) " الحیاة العرفانیة للإمام علی (ع)،" ص 15 و 33.
2- جوادی الآملی، عبد الله، مراحل اخلاق در قرآن" مراحل الأخلاق فی القرآن"، ص 227 و 249.
3- جوادی الآملی، عبد الله، معرفتشناسى در قرآن" المعرفة فی القرآن،" ص315 و 277.
4- جوادی الآملی، عبد الله، صورت و سیرت انسان در قرآن" صورة الإنسان و سیرته فی القرآن،" ص 153 و 255.
5- جوادی الآملی، عبدالله، فطرت در قرآن الفطرة فی القرآن،" ص227 و 249.
6- مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف قرآن" معارف القرآن"، ج1 ، ص421 و 4423.
7- مصباح الیزدی، محمد تقی، اخلاق در قرآن"الأخلاق فی القرآن،" ج1، ص 110 و 174.
8- مصباح الیزدی، محمد تقی، خودشناسى براى خودسازى" معرفة النفس لبنائها".
[1] تذکیر: من الممکن أن یتظاهر البعض بالتصوف و العرفان و الولایة و الطریقة، و لکنهم لا علاقة لهم بالتوجه إلى الدین و الإیمان و القیم المعنویة، و إنما هی وسیلة للبیع و الشراء فی سوق الدنیا.
[2] النمل، 13، 14؛ الجاثیة، 17؛ الأعراف، 175، 176.
[3] التوبة، 78 و 98 و 119 و 121؛ الأحزاب، 16 و 20.
[4] جوادی الآملی، عبد الله، حیات عارفانه امام على (ع) " الحیاة العرفانیة للإمام علی (ع)"، ص 15 و 33؛ مصباح الیزدی، محمد تقی، معارف در قرآن" المعارف فی القرآن"، ج3، ص421 و 442.
[5] الأنعام، 82.
[6] لقمان، 13.
[7] لقمان، 13.
[8] الأنفال، 2؛ الزمر، 23؛ المؤمنون، 60.
[9] الرعد، 28.
[10] یوسف، 106.
[11] إبراهیم، 27؛ غافر، 51؛ البقرة، 250.
[12] الحدید، 23.
[13] النساء، 65؛ الأحزاب، 36.
[14] العنکبوت، 69.