Please Wait
12303
قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من بیان عدة مطالب:
1. بالنظر إلى موضوع السؤال المشخص، أعرضنا عن ذکر معنى العصمة و أقسامها و أدلتها.
2. لم تبحث النظریات و الاختلافات فی مورد عصمة الأنبیاء (ع).
3. لم تذکر کل الآیات الظاهرة فی عصمة الأنبیاء و الظاهرة فی عدم عصمتهم.
و على أساس ما تقدم فإن البحث یقتصر على الآیات المتعلقة بعصمة الأنبیاء فی قسمین:
القسم الأوّل: الآیات التی تدل على عصمة الأنبیاء (و الأئمة) (ع) کثیرة، فالآیة 124 من سورة البقرة بینت أن عهد الله و أمانته (مقام النبوة و الإمامة) لا یشمل الإنسان الظالم و لو تلبس بهذا الظلم للحظة واحدة، و الذی یکون الکفر و الشرک و المعصیة و الاشتباهات الکبیرة من أبرز مصادیقه، یقول الفخر الرازی و هو من مفسری أهل السنة: "فی الآیة دلالة على أن النبی لا یمکن أن یکون مرتکباً للذنوب".[i]
و من هنا فالآیة تدل على لزوم عصمة الأنبیاء، سواء قبل البعثة أو بعد البعثة[ii] و کذلک الآیة السابعة من سورة الحشر قال تعالى: «وَ مَا آَتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» و بحسب تصریح الکثیر من المفسرین أن مفاد الآیة الطاعة المطلقة و الشاملة لأوامر النبوة و تعالیمها.[iii] و من المعلوم أنه لو کان هؤلاء العظماء غیر معصومین من الذنب و الخطأ و الاشتباه.. فلا وجود لأی ضمان بإحراز الهدایة فی إطاعتهم.[iv]
القسم الثانی: هل توجد آیات فی القرآن الکریم تدل على خطأ الأنبیاء؟
ظواهر بعض الآیات یوحی بأن الأنبیاء (وخصوصاً البعض منهم) قد ارتکب الخطأ و الذنب إلى حد ما، ثم طلب العفو و المغفرة من الله سبحانه أو أنه بعد العتاب و التوبیخ الإلهی شمله العفو الإلهی. و لکن الحقیقة هی کما أنه تلقّی النظریات و الفرضیات العلمیة بالنظرة الساذجة السطحیة أمر مرفوض و غیر مقبول، و إن قراءة غیر الخبراء یخلف العدید من المشاکل و الإرباک العلمی، کذلک الحال بالنسبة لآیات القرآن، فإن تفسیرها یحتاج إلى الدقة و التأنی و المنهج السلیم، و مع أن معالجة کل الآیات الواردة فی هذا الموضوع بشکل مفصل و دقیق أمر متعذر، لکننا نشیر بشکل کلی إلى مدالیل بعض الآیات القرآنیة من خلال تتبع معانیها و الإجابة عن بعض التساؤلات و هو أمر مفید فی هذا المیدان. و أملنا أن یستفید کل من یراجع القرآن الکریم بخصوص الآیات المتعلقة بالأنبیاء من هذه المطالب لإیجاد الترابط و المقارنة بینها وبین الآیات الأخرى التی یرغب فی تفسیرها و فهم مضامینها فی هذا المیدان.[v] أما بالنسبة إلى مجموعة من الآیات التی تتحدث عن معصیة بعض الأنبیاء و عدم استجابتهم للأمر الإلهی وخصوصاً آدم (ع) فالجواب عن هذه الآیات هو:
1. إن الأوامر و النواهی لم تستعمل بالمعنى الحقیقی لها. و قد استعملت فی بعض الموارد من قبیل تمرین الأفراد، أو أنها بعنوان الاقتراحات _ لأجل الوصول إلى الفوائد الشخصیة _ و لا وجود لأی تکلیف إلزامی فی مثل هذه الموارد، و علیه فلا یقال بوقوع العصیان و عدم الامتثال للأوامر و التعلیمات (الجدیة الحقیقیة) التی وردت فی الآیات و لم تقع المخالفة و ارتکاب الذنب مقابل التکلیف الحتمی و الواجب الإلزامی و هذا ما یمکن استفادته من الموارد التالیة:
الأعراف: 27، طه: 115 و 117 إلى 119 و 121.
2. إن بعض الأعمال و إن کانت لا تعد ذنباً فی ذاتها، و لکن إذا أخذ بنظر الاعتبار مقام الشخصیة و موقعها و أهمیتها فإنه یمکن أن یعد عملاً غیر مطلوب و لا ینبغی القیام به، و إن کان صدور مثل هذا العمل من شخص آخر أمر عادی، أو أنه أمر محبب و مفضل فی بعض الأحیان، و من جانب آخر فإن لفظ "المعصیة" له مفهوم واسع و لا یقتصر استعماله على ترک الواجبات أو الإتیان بالمحرمات فقد یُنعت الشخص الذی یترک المستحب بأنه عاص من باب ترک الأولى.[vi]
و من الآیات التی تشیر إلى هذه الحقیقة إضافة للآیات السابقة هی: القصص: 25، الشعراء: 39 و 82، الفتح: 2.
3. کلمة "ضلالة" فی اللغة تعنی ترک الطریق المستقیم، و لکنها ذات مفهوم واسع أی أنها لا تنحصر بالضلال عن الدین الحق و إنما تشمل الوقوع فی الطریق الأقل خطراً و مشاکل. و الآیات 20 من سورة الشعراء و 6 – 8 من سورة الضحى یمکن أن تتناسب مع الموضوع المذکور، و قد فسرت بذلک.
4. فی بعض الأوقات، و عندما یتحدث الإنسان مع الآخرین خصوصاً عندما یکون فی مقام الاستدلال و الدفاع و الإقناع فإنه ینسب إلى نفسه أموراً لا یریدها بمعناها الحقیقی الواقعی، و إنما یذکرها من باب مجاراة الطرف المقابل و جره إلى الهدایة و الإقناع. و من ذلک الآیات: الشعراء: 20، القصص: 15، الأنعام: 76 إلى 78.
5. و فی عدد آخر من الآیات الظاهرة بالعتاب و الخطاب الشدید اللهجة بالنسبة إلى الأنبیاء (ع) فإنها من باب المثل القائل: "إیاک أعنی و اسمعی یا جارة" لأن المخاطب فی هذه الآیات هو عامة الناس و إن کان ظاهر الخطاب للأنبیاء. و الآیات التی ورد فیها مثل هذا الخطاب هی: الأنعام: 68، هود: 37، یونس: 94، البقرة: 147، آل عمران: 60، هود: 17، السجدة: 23.
6. ومن الأسالیب الأخرى تعظیم شخص و تحقیر شخص آخر و ذلک من خلال الاستفادة من (الکنایة) کما فی سورة الفتح الآیة 2 بالتوضیح التالی: فی نظر المشرکین لا وجود لشخص أکثر ذنباً من رسول الله (ص)، و بعد أن فتح الله على یدیه و نصره لم یعد ذکر للذنوب التی کان المشرکون ینسبونها إلیه، لأنهم رفعوا أیدیهم عن اتهام النبی بالذنب و العصیان.
7. فی بعض آیات القرآن التی نسب فیها الأنبیاء بعض الأفعال و الأعمال لأنفسهم أو لغیرهم جاءت بصیغة الجملة الشرطیة المصدرة (بإذا) و هذا اللون من الخطاب لیس فیه دلالة على أن المضمون وقع بالفعل و مثل ذلک فی الآیات: 62 و 63 من سورة الأنبیاء.
8. قتل الرجل الفرعونی على ید موسى (ع) کان من باب القصاص لأن هذا الرجل أقدم على قتل العدید من أطفال بنی إسرائیل.
9. ذکر أمیر المؤمنین (ع) أن علة ذکر نقاط الضعف و الاشتباهات بالنسبة إلى الأنبیاء فی القرآن لیعلم الجمیع أن مقام الأنبیاء مهما بلغ من الکمال و السمو لا یبلغ حدود الکمال الإلهی المطلق، و ذلک لیسلب - من یظن أن فی الأنبیاء شیئاً من الألوهیة - حجته و عذره.
[i] الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، ج10، ص193.
[ii] تفسیر روح البیان، ج1، ص 338.
[iii] انظر التفاسیر التالیة: الأمثل ،نور الثقلین، المیزان، رسالة القرآن .
[iv] و للإطلاع على الآیات التی تتعلق بعصمة الأنبیاء یمکن مراجعة الآیات التالیة: النساء: 65، الأحزاب: 21 و 33، الأنعام: 90، النجم: 3 و 4، یس: 62، ص: 45 إلى 47 و 82 و 83، الجن: 26 إلى 28، الزمر: 37.و لأجل الإطلاع على تفاسیر الآیات یمکن مراجعة التفاسیر الآتیة: المیزان، الأمثل، نور الثقلین، رسالة القرآن.
[v] بعد بیان طریق حل کل إشکال، فإن جمیع الآیات الأخرى التی یشملها هذا الطریق یحل الإشکال فیها بنفس الطریق، و علیه فکل طریقة فی الحل هی بمثابة القاعدة الکلیة التی ترفع الإشکالات و تحل العقد المتعددة فی العدید من الآیات القرآنیة.
[vi] نور الثقلین: ج3، ص404، ح165، حدیث الإمام الباقر (ع)؛ مفردات الراغب مادة، "عصى".
قبل أن نبین الجواب لابد من ذکر عدة امور:
1. بما أن السؤال المذکور مقتصر على الآیات المتعلقة بعصمة الأنبیاء و عدم عصمتهم، لذلک سوف نتجنب الخوض فی عدة مباحث منها: معنى العصمة و أقسامها و أدلتها (العقلیة و النقلیة) و ... مع أن دراسة هذه الآیات و تحلیلها و تفسیرها یتضمن فوائد کثیرة و مفیدة.
2. عدم التعرض للاختلافات و النظریات المطروحة بخصوص عصمة الأنبیاء (ع).
3. اجتناب ذکر جمیع الآیات التی تخص عصمة الأنبیاء أو الظاهرة فی عدم عصمتهم (کما هو المدعى).
و على هذا الأساس فجواب السؤال یتضمن قسمین: آیات العصمة، و دراسة الآیات ذات الظهور بعدم العصمة.
القسم الأوّل، آیات العصمة:
على الرغم من الإدعاء بعدم وجود آیات تدل على العصمة، إلاّ أن الآیات الدالة على لزوم العصمة بالنسبة إلى الأنبیاء کثیرة، و فیما یلی نشیر إلى بعض الآیات:
1- «وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّی جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قَالَ لا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ»[1].
بغض النظر عن بعض الدروس الموجودة فی الآیة لابد من الإشارة إلى مسألة فیها و هی بعد أن امتحن الله سبحانه إبراهیم (ع) بذلک الامتحان الذی یحضى بالأهمیة البالغة و کانت النتیجة النهائیة هی نجاح إبراهیم (ع) و تخطیه مراحل الامتحان و الابتلاء کانت (الإمامة) هی الهدیة الإلهیة القیمة لإبراهیم (ع)، و عندما طلب إبراهیم أن یجعل الله الإمامة فی ذریته، کان الجواب الإلهی «لا ینال عهدی الظالمین».
أی أن عهد الإمامة لا یصل إلى الظالمین. و من الواضح جداً أن الشخص المتلبس بالظلم فی الحال أو فی فترة من فترات عمره _ و إن کانت فی الزمن الماضی _ فإنه مصداق من مصادیق الظالم. و على هذا الأساس جاء بیان الفخر الرازی فی تفسیر الآیة حیث قال:" إن کل نبی هو إمام، و إذا لم یکن ممکناً أن یکون الإمام فاسقاً و عاصیاً فمن باب أولى ألا یکون النبی کذلک و بذلک یقول: سواء کان المراد من لفظة (عهدی) النبوة أو الإمامة، فعلى کل التقدیرین فلا یستحق أحد من الظالمین الوصول إلى مقام النبوة (و الإمامة)، و لابد أن یکون النبی معصوماً".[2]
و فی کلامه شیء من النقص و عدم استشعار المعنى الکامل فی الآیة حیث عد کل نبی إماما، فی حین أن الإمامة مرتبة متقدمة على النبوة و ... و ذلک ما یحتاج بیانه إلى مجال آخر. و لکن اعترافه صریح و واضح فی دلالة الآیة على لزوم عصمة الأنبیاء و کذلک عصمة (الإمام) سواء کانت العصمة قبل البعثة أم بعدها.[3]
2- «وَ مَا آتَاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مَا نَهَاکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقَابِ».[4]
الدقة والامعان فی هذه الآیة تفضی إلى أن المراد من قوله «ما آتاکم الرسول» تشمل جمیع أوامر الرسول الأکرم (ص)، لأن النقطة التی تقابل ذلک هی نواهیه «و ما نهاکم عنه فانتهوا» و لذلک صرح الکثیر من المفسرین من أن مفاد الآیة عام.[5]
و على أساس هذه الآیة فالواجب هو التسلیم المطلق مقابل أوامر و ونواهی الرسول الأکرم (ص)، و مثل هذه الطاعة المطلقة و التسلیم دون قید أو شرط لا یمکن أن تکون إلاّ مقابل المعصوم، لأنه فی حال الخطأ أو العصیان و الذنب، لیس الواجب عدم التسلیم فقط، بل الاعتراض و التذکیر و النهی.
3- «مَنْ یُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاکَ عَلَیْهِمْ حَفِیظاً»[6].
و مفهوم هذه الآیة شبیه بمفهوم الآیة السابقة، و من الجدیر بالذکر أن الفخر الرازی عندما فسر هذه الآیة اعتبرها من أقوى الأدلة على عصمة النبی (ص) فی جمیع أوامره و نواهیه و التبلیغ عن الله سبحانه و تعالى و ما یصدر عنه من أفعال.[7]
و هناک آیات کثیرة أخرى تدل على عصمة الأنبیاء و الأئمة و تبین أبعادها و کیفیاتها، نکتفی فیها بذکر السورة التی وردت فیها و رقم الآیة دون الخوض فی تفسیرها و تحلیل مفادها.
4- الأنبیاء، الآیة 65.
5- الأحزاب، 21 و 32.
6- الأنعام، 90.
7- النجم، 3 و 4.
8- الزمر، 37.
9- یس، 62.
10- ص، 45 إلى 47، 82 إلى 83.
11- الجن، 26 إلى 28.
المحصلة: على أساس الأدلة العقلیة الدالة على عصمة الأنبیاء (و التی صرفنا النظر عنها فی هذا البحث) و آیات القرآن الکریم و روایات الأئمة المعصومین (ع) فإن الأنبیاء یتمتعون بمقام العصمة الرفیع.
القسم الثانی:
الآیات التی فیها ظهور بعدم العصمة _ حسب الادعاء _ کما جاء فی القسم الأوّل من السؤال فإن بعض العبارات الواردة فی بعض آیات القرآن الکریم یمکن أن تحمل على الظن أحیاناً إنها ظاهرة فی صدور الذنب أو الخطأ عن الأنبیاء! و من تلک الذنوب و الخطایا التی تفهم من الآیات _ کما یظن البعض _ هی: عصیان آدم (ع)[8] أو نسیان آدم و عدم ثباته على العهد[9] أو طلب المغفرة من قبل نوح (ع)[10]، أو الکذب فی ادعاء إبراهیم (ع) أن الذی کسر الأصنام هو کبیرهم[11]، أو ما أظهر إبراهیم من المرض مع أنه لم یکن سقیماً و إنما کان سلیماً و لکنه احتج بذلک حتى لا یشترک فی مراسم عبادة الأوثان[12] و ...
و من هنا کان من المناسب أن یکون السؤال على النحو التالی: هل أن وجود مثل هذه الآیات یسمح بالقول بعصمة الأنبیاء؟
و إذا ما قبلنا دلالة بعض الآیات على العصمة ألا یقع التضاد و التناقض بینها و بین مثل هذه الآیات؟
نتابع الإجابة عن هذه التساؤلات و کذلک الدراسة الإجمالیة لبعض الآیات التی تقع مورد البحث من خلال تقسیم الآیات و تصنیفها مع الإشارة إلى اسم کل واحد من الأنبیاء.[13]
المجموعة الأولى: دراسة الآیات التی تنسب العصیان إلى الأنبیاء نتیجةً لخداع الشیطان و فتنته مما أدى إلى نسیان العهد.
نماذج: 1- سورة الأعراف: 27، طه: 115، 117 إلى 119 و120 إلى 122.
اسم النبی: آدم (ع).
من مجموع البیانات و التفاسیر الواردة بخصوص الآیات المذکورة یمکن الإشارة إلى ثلاثة تفاسیر و أجوبة.
أ – إن نهی آدم هو نهی اختباری امتحانی. حیث أن الله سبحانه و تعالى خلق آدم (ع) لیکون حجته و خلیفته فی أرضه، و لیس للإقامة و الخلود فی الجنة، و لم تکن الجنة بدار تکلیف (و إنما هی دار اختبار) و إن معصیة آدم کانت فی الجنة و لیست فی الأرض، و عندما أُرسل آدم إلى الأرض و صار خلیفة الله فقد نال مقام العصمة و ... و قد ورد حدیث عن الإمام الرضا (ع) فیه إشارة إلى هذه المسألة.[14]
و محصلة القول أن أوامر الله و نواهیه فی الجنة هی لتعلیم آدم (ع) بما یواجهه فی المستقبل من مسائل الواجب و الحرام، و ما خالفه آدم إنما هو أمر اختباری تعلیمی و لیس أمراً قطعیاً و واجباً تکلیفیاً.
ب- إن النهی الموجه إلى آدم هو نهی إرشادی، فإن الأوامر المتوجة إلى الأنبیاء (ع) و من جملتهم آدم (ع) هی أوامر إرشادیة، و مثل ذلک أوامر الطبیب لمریضه فی اجتناب تناول نوع معین من الأطعمة، أو اجتناب مواد مشخصة بعینها، و مخالفة مثل هذه الأوامر لیس لها من أثر إلاّ ما یکون لها من آثار سلبیة على صحة المریض نفسه، فهی متعلقة بمصالح المریض، و عدم إطاعتها لا تشکل عصیاناً للطبیب. و علیه فمهما قیل فی حق آدم (ع) من أنه أظهر العصیان لأوامر الله سبحانه، و لکن المتیقن أن عصیان الأمر الإلهی و الواجب التکلیفی لم یقع فی واقع الأمر.
و الشاهد و القرینة على ما تقدم الآیات المبارکة من 117 إلى 119 من سورة طه، فی قوله تعالى: «فَقُلْنَا یَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَکَ وَ لِزَوْجِکَ فَلاَ یُخْرِجَنَّکُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَکَ أَلاَّ تَجُوعَ فِیهَا وَ لاَ تَعْرَى * وَ أَنَّکَ لاَ تَظْمَأُ فِیهَا وَ لاَ تَضْحَى».
و من هنا فلو لم یخالف آدم الأمر الإرشادی لکانت مدة إقامته فی الجنة أطول. و إن أحد معانی لفظ (الغوایة) المذکورة فی الآیات المتقدمة هو صد الإنسان و منعه من الوصول إلى أهدافه و غایاته و حرمانه من الاستفادة من المواهب و النعم.
جـ - إن عدم إطاعة آدم (ع) من باب (ترک الأولى) و هذا الجواب و التفسیر یحظى بتأیید الکثیر، و لیس فی هذا المورد فقط، و إنما فی جمیع الموارد التی نسب فیها الذنب و المعصیة إلى الأنبیاء، و قد حل هذا الجواب الکثیر من العقد و الإشکالات. فالذنب و العصیان على کیفیتین: مطلق، و نسبی، و المراد بالذنب المطلق هو ما یعد ذنباً بغض النظر عن محل صدوره فهو ذنب من أی شخص یصدر، و لیس فیه أی استثناء لأی کان. کمثل أکل المال الحرام، و الظلم، و الزنا و الکذب.
أما الذنب النسبی: هو ما یصدر من عمل غیر مقبول بالنسبة إلى الشخصیة و موقعها و ما یتلائم مع شؤونها و أحوالها فی المجتمع، و قد یصدر مثل هذا العمل من شخص آخر فلا یعد ذنباً و حسب، و إنما قد یحسب فضیلة و حسنة.[15] (حسنات الأبرار سیئات المقربین).
و من الجدیر بالذکر أن کلمة "معصیة" لم تستعمل فی ترک الواجبات فقط و إنما جاءت فی ترک المستحبات أیضاً کما فی بعض الروایات الإسلامیة و من ذلک ما جاء فی الحدیث المعتبر عن الإمام الباقر (ع) فی قوله و قد ذکر النوافل الیومیة: «و إنما هذا کله تطوع، و لیس بمفروض أن تارک الفریضة کافر، و أن تارک هذا لیس بکافر، و لکنها معصیة»[16].
و کذلک فإن لفظ "العصیان" لغویاً هو أی لون من ألوان الخروج عن دائرة الطاعة سواء فی الأمر الوجوبی أو الاستحبابی.[17]
و نتیجة الکلام هی الآتی: إن جمیع العبارات التی وردت فی عصیان الأنبیاء من قبیل إثم و ذنب أو سوء فإنها ناظرة إلى قضیة ترک الأولى.[18]
النموذج2: القصص، 15.
اسم النبی: موسى (ع).
الجواب: بعد أن رأى موسى (ع) الظلم و التجبر من الرجل الفرعونی (القبطی) على شخص من بنی إسرائیل (السبطی) وما یصدر منهما من ردود أفعال قال: «هذا من عمل الشیطان» و النکتة المهمة هی أن هذه العبارة تشیر إلى أصل النزاع و المشاجرة التی وقعت بین القبطی و السبطی أی أنها إشارة إلى هذا النزاع الخالی من الأهداف الواقع بین شخصین و أنه من عمل الشیطان.[19]
المجموعة الثانیة: الآیات التی تنسب "الضلالة" إلى الأنبیاء.
النموذج 1: سورة الشعراء، 20.
اسم النبی: موسى (ع).
الجواب:
أ- إن تعبیر الضالین الوارد فی الآیة بحاجة إلى معرفة الدلالة اللغویة لهذه الصیغة.
1- إن هذه اللفظة مشتقة من مادة "ضلال" و التی تعنی فی الأصل إضاعة الطریق المستقیم، و لیس معناها الواسع منحصراً فی إضاعة الدین الحق و على هذا الأساس فإن هذا التعبیر بخصوص موسى (ع) و سائر الأنبیاء الذی ورد بحقهم هو من قبیل ترک الأولى، فالنبی موسى (ع) عندما قتل الرجل الفرعونی ألقى بنفسه فی الخطر، و معنى ذلک أنه أضل طریق السلامة و سلک طریق الخطر الملیء بالمشاکل و الصعوبات، و لذلک لم یتمکن من البقاء فی مصر بعد وقوع تلک الحادثة، و إنما لجأ إلى الفیافی و القفار، حتى انتهى به الأمر فی النهایة إلى خدمة (شعیب) و تربى هناک إلى أن بلغ مرتبة تلقی المسؤولیة و حمل الرسالة). [20] و [21]
2- الضلالة فی الآیة بمعنى أن موسى أقدم على عمل لیس له فیه إطلاع کامل على ما یمکن أن یترتب علیه من نتائج و المصیر الذی یؤول إلیه أمره فی هذا النزاع.
و عدم الاطلاع بمعنى؛ أننی لا أعلم أن هذه الضربة سوف تنتهی إلى القضاء على الرجل القبطی، و بهذا یکون القتل مصداقاً للقتل الخطأ و لیس العمد.[22] ونتیجة قول موسى، إننی لم أکن حاسباً لنتائج هذا العمل.[23]
ب: الجواب الآخر أن قوله «و أنا من الضالین» هی من باب التماشی و مجارات الفراعنة، و معنى ذلک أنه قال على فرض أننی کنت من الضالین و لکن الله هدانی و أرسلنی إلیکم بالبرهان القاطع و الحجة البالغة.[24]
و الذی یؤید هذا الجواب، الآیات 19 و 21 من سورة الشعراء، ففی الآیة الأولى کان کلام فرعون شدیداً و قاسیاً مع موسى (ع) حتى بلغ به الأمر إلى أن خاطبه بالقول: «و أنت من الکافرین» و فی الآیة الثانیة یقول موسى (ع) و ماذا تقول الآن؟ و على أی حال «فوهب لی ربی حکماً و جعلنی من المرسلین» أی أننی الآن رسول، و کنت بظنک من الضالین.
النموذج 2: سورة الضحى، 6- 8.
اسم النبی: النبی الأکرم محمد (ص).
المراد بلفظ "الضال" هنا ضیاع الشخصیة و عدم أخذها المکان المناسب لها فی المحیط الاجتماعی لدى قومه، کما نقرأ فی الحدیث المروی عن الإمام الرضا (ع) حیث قال: «وجدک ضالاً، أی لا یعرفون فضلک فهداهم إلیک».[25]
المجموعة الثالثة: الآیات التی تثبت النسیان بالنسبة إلى الأنبیاء (ع).
نموذج 1: سورة الأنعام، 68.
اسم النبی: النبی الأکرم محمد (ص).
الجواب: و إن کان ظاهر الآیة یوحی بأن المخاطب هو النبی الأکرم (ص) و لکن المقصود هو أتباعه و أنهم إذا ما أصابهم النسیان و استمروا فی المشارکات فی مجالس اللهو الملوثة بالعصیان واستهزاء الکفار بالمقدسات، فعلیهم أن یبادروا إلى ترک هذه المجالس بمجرد التوجه و التذکر و التنبه لما هم علیه. لأنه قد جاء فی الآیة التالیة ما معناه أن المتقین إذا جلسوا مع هؤلاء بسبب النسیان أو الإجبار أو بقصد إرشادهم و التأثیر علیهم فلیس علیهم شیء من حسابهم، و لکن بشرط أن یکون هذا الجلوس من أجل تذکیر الکفار بالله و الیوم الآخر و النبوة، و کل ذلک أملاً فی هدایتهم، و لعلهم یتقون.[26]
النتیجة: إن الخطاب موجه إلى الأفراد من أهل التقوى و إلى عامة المسلمین، لا أنه مختص بالنبی الأکرم (ص)، و حقیقة مثل هذه التعابیر هی أنها من باب المثل المعروف (إیاک أعنی و اسمعی یا جارة).[27]
المجموعة الرابعة:
النموذج 1: سورة الشعراء، 82.
اسم النبی: إبراهیم (ع).
الجواب: المراد من قوله "خطیئتی" هی ما ذکر من ترک الأولى رغم أن خطیئة مأخوذة من مادة "خطأ" و إن أصلها و معناها الزلل و لکن معناها توسع تدریجیاً حتى صار شاملاً للذنب و المعصیة ذات الأهمیة و غیر ذات الأهمیة التی هی من باب ترک الأولى. حتى أصبح انصرافها فی أکثر الأحیان إلى المعنى الأخف أی ترک الأولى.[28]
و من هنا فترک الأولى بالنسبة إلى النبی إبراهیم (ع) یشمل جمیع الحالات التی یکون فیها الإنسان غافلاً عن الله سبحانه و تعالى کممارسة الأعمال الیومیة الحیاتیة مثل الأکل و الشرب و غیرها، فهذه الأعمال و إن کانت تؤدی إلى أقل ما یمکن من أنواع الغفلة، و لکن أولیاء الله لا یرون هذه الحالة بأقل من الذنب. (حسنات الأبرار سیئات المقربین).[29]
المجموعة الخامسة: الآیات التی تتضمن توبیخاً و عقاباً للأنبیاء (ع).
النموذج1: سورة التوبة، 43.
اسم النبی: النبی الأکرم محمد (ص).
الجواب: الکلام فی هذه الآیة عن العفو «عفا الله عنک» و بعد ذلک یأتی العتاب فی قوله: «لم أذنت لهم» و الکلام فی إعطاء النبی الإذن لمجموعة من المنافقین لترک الاشتراک فی الحرب. و إذنا نظرنا بدقة فی محتوى الآیة صدراً و ذیلاً و ما جاء فیها من عبارات لأصبح من المعلوم لدینا أن کلمة "العفو" و "العتاب" الموجه إلى النبی مسوقة لبیان ما کان علیه عمل المنافقین من سوء، و مثله ما یوجه للشخص الذی یقف حائلاً بین المتشاجرین فیمنع من توجیه أحدهما الضرب للآخر، فیخاطبه الناس و یعاتبونه بالقول: لماذا لم تترک یده حرة و تترکه یکیل الضربات لهذا الإنسان الجافی المعتدی لیعلم الناس مدى حقارته و لینال جزاءه العادل؟! و من الواضح أن مثل هذا الکلام هو فی مظهر العتاب و التأنیب للصدیق الذی یصدر منه العمل بحسن نیة و طلباً للخیر، و هو کنایة عن بیان سوء المقابل و انحطاطه.[30] قال الإمام الرضا(ع) فی تفسیر هذه الآیة:« إن هذه الآیة من قبیل المثل العربی المعروف (إیاک أعنی و اسمعی یا جارة) و کذلک الأمر فی هذه الآیة فإن المخاطب الظاهر فیها هو النبی الأکرم (ص) ، و لکن المقصود هو الأمة. خاطب الله بذلک نبیه و أراد به أمته».[31]
المجموعة السادسة: الآیات التی توحی بوجود الشک و التردد عند الأنبیاء (ع).
النموذج: 1 إلى 5 فی السورة الآتیة: یونس: 94، البقرة: 147، آل عمران: 60، هود: 17، السجدة: 23.
اسم النبی: جمیع الأنبیاء (انظر: هود، 17) و على وجه الخصوص النبی الأکرم محمد (ص).
الجواب: مع أن هذه الآیات تقول إذا کان من شک فی القرآن و الوحی، فلا تکن ممن یشکون به و لکن:
أ- لا یوجد أی موضع ینسب فیه الشک و التردد بشکل صریح و قاطع بالنسبة إلى الانبیاء فمثلاً جاء فی سورة یونس، 94: «فَإِنْ کُنْتَ فِی شَکٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَیْکَ فَاسْأَلِ الَّذِینَ یَقْرَءُونَ الْکِتَابَ مِنْ قَبْلِکَ لَقَدْ جَاءَکَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکَ فَلاَ تَکُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِینَ».
فالنتیجة هی من خلال التعبیر (بإن) نفهم نوعاً من التعلیق و عدم الجزم و هی بمعنى إذا کنت فی شک، کما یخاطب أحدنا صدیقاً مقرباً من نفسه محاولاً ترسیخ الاطمئنان فی نفسه و لیثبت له مدى صدقه و جدیته فیقول له: إذا کان لدیک من شک فأنا على استعداد لتزویدک بالدلیل، و من الواضح أن مثل هذا اللحن من الکلام یرمی إلى ما وراء وجود الشک فی نفس المخاطب، فهو یحکی عن قوة و صدق المتکلم الذی یرید إثباته للمخاطب حتى مع افتراض وجود الشک فی نفسه، و إنه مستعد لإزالة الشک إن وجد و الإتیان بالدلیل حال لزومه.
ب- و فی مثل هذه الموارد و إن کان الظاهر فیها أن المخاطب هو النبی (ص) إلاّ أن المقصود فی الخطاب هو الأمة و عموم المؤمنین، فهو من باب (إیاک أعنی و اسمعی یا جارة).
المجموعة السابعة: الآیات التی جاء فیها وعد بمغفرة ذنوب الأنبیاء و العفو عنها:
النموذج1: سورة الفتح، 2.
اسم النبی: رسول الإسلام محمد (ص).
الجواب: مع أن الآیة دلالة صریحة على غفران ذنب النبی ما تقدم منه و ما تأخر ولکن:
أ: إن المراد بالذنب هو ترک الأولى.
ب: جاء فی الحدیث عن الإمام الرضا (ع) فی معرض جوابه لسؤال المأمون عن کیفیة انسجام هذه الآیة مع القول بالعصمة: «لم یکن أحد عند مشرکی مکة أعظم ذنباً من رسول الله (ص) لأنهم کانوا یعبدون من دون الله ثلاثمائة و ستین صنماً، فلما جاءهم بالدعوة إلى کلمة الإخلاص، کبر ذلک علیهم و عظم و قالوا: «أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَیْءٌ عُجَابٌ» فلما فتح الله على نبیه (ص) مکة، قال له: یا محمد «إِنَّا فَتَحْنَا لَکَ فَتْحاً مُبِیناً * لِیَغْفِرَ لَکَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِکَ وَمَا تَأَخَّرَ» عند مشرکی أهل مکة بدعائک توحید الله فیما تقدم و ما تأخر؛ لأن مشرکی مکة أسلم بعضهم و خرج بعضهم من مکة، و من بقی منهم لم یقدر على إنکار التوحید إذا دعا الناس إلیه، فصار ذنبه عندهم فی ذلک مغفوراً بظهوره علیهم».[32]
و من هنا فالذنوب التی نسبها المشرکون للنبی (ص) فإنها تلاشت و اندثرت بسبب هذا الفتح و النصر العزیز، و إن المشرکین سحبوا أیدیهم عما کانوا یعدونه ذنوباً على رسول الله (ص).
المجموعة الثامنة: الآیات التی تنسب الکذب إلى الأنبیاء فی ظاهرها.
نموذج1: سورة الأنبیاء، 62، 63.
اسم النبی: إبراهیم (ع).
الجواب: لم یقل إبراهیم (ع) صراحةً أن کبیرهم هو الذی فعل هذا الفعل و إنما قال ذلک فی سیاق جملة شرطیة و یمکن توضیح ذلک؛ فمن خلال روایة عن الإمام الصادق (ع)، حیث قال: «ما فعله کبیرهم و ما کذب إبراهیم (ع) قال الراوی: فقلت کیف ذاک؟ قال إنما قال إبراهیم: «فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ کَانُوا یَنْطِقُونَ» فکبیرهم فعل، و إن لم ینطقوا فلم یفعل کبیرهم شیئاً، فما نطقوا و ما کذب إبراهیم (ع)».[33]
المجموعة التاسعة: الآیات التی تصرح بأن النبی قاتل!
نموذج1: سورة الشعراء، 14.
اسم النبی: موسى (ع).
الجواب: مع أن موسى (ع) تدخل فی النزاع الحاصل بین الشخصین _ الفرعونی و الإسرائیلی _ و إنه قضى على الفرعونی بضربة محکمة، ولکن:
أ- إن القتل لم یکن قتل عمدٍ، و إنما کان موسى (ع) یحاول أن یردع الظالم فی هذا النزاع فوقع منه الضرب دون قصد القتل.
ب- إن هذا القتل وقع من موسى من قبیل قصاص الجنایات حیث کان الفراعنة یوقعون القتل فی بنی إسرائیل، کما یشهد بذلک القرآن فی قوله تعالى: «یُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَکُمْ» و کما عبر القرآن الکریم أیضاً أنهم کانوا «مُفْسِدُونَ فِی الأَرْضِ».
و على هذا الأساس فعلى الأقل یمکن أن یقال أن احتمال کون الرجل الفرعونی جائز قتله احتمال وارد و مقبول.[34]
المجموعة العاشرة: الآیات التی تنسب الشرک إلى الأنبیاء.
النموذج1: سورة الأنعام، 76-78.
اسم النبی: إبراهیم (ع).
الجواب: مع أن إبراهیم (ع) أشار إلى النجوم و الشمس و القمر و قال عقیب ذلک "ذا ربی" و لکن:
بالنظر إلى الآیات السابقة و اللاحقة یتضح أن هذا القول جاء فی سیاق الاستدلال، و لم یسق على سبیل إبراز الاعتقاد، فقد قبل إبراهیم (ع) کلام کل مجموعة یواجهها على سبیل "الفرضیة" و لذلک کان یذکر بلزوم بطلان کل قول بعد أفول الأجرام المشار إلیها، و فی حقیقة الأمر فإن هذا الأسلوب من أنجح الأسالیب فی إدارة الحوار الناجح الذی ینتهی إلى إبطال نظریات المخالفین و دحض حججهم من دون إثارة حس التعصب و الاعتزاز بالرأی فی حالة رفضه و إبطاله من رأس. خصوصاً إذا علمنا أن إبراهیم (ع) تبرأ من کل هذه المعبودات فی نهایة الأمر، و ذلک ما صرح به کما ینقل القرآن الکریم قوله: «یَا قَوْمِ إِنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ».[35]
المجموعة الحادیة عشرة: الآیات الدالة على خوف النبی من الناس دون الله!
نموذج 1: سورة الأحزاب، 37.
اسم النبی: محمد (ص).
الجواب: على الرغم من دلالة عبارة القرآن مع قلیل من التأمل، إلاّ أننا نورد روایة عن الإمام السجاد (ع). و هذا الحدیث ینقله المفسر المعروف "القرطبی" و هو من غیر الشیعة، و الحدیث هو: إن الله سبحانه و تعالى أوحى إلى النبی (ص) أن زیداً سوف یطلق امرأته، و فی نهایة الأمر و لأجل المحافظة على المشاعر الإنسانیة و وجوه من الحکمة الأخرى فإن النبی سوف یتزوجها.[36] و عندما جاء زید إلى النبی و اشتکى له من أخلاق زینب و طریقة تعاملها معه طلب من النبی أن یوقع الطلاق بینهما، و لکن النبی (ص) أسدى إلیه النصح بإمساک زوجته و عدم مفارقتها، و لکن النبی کان متیقناً من جهة أخرى بأن هذا الطلاق سوف یقع، و طبقاً لما جاء فی الوحی الإلهی فإن النبی سوف یتزوج بزینب التی هی ابنة عمة النبی (ص) و لذلک فالذی جاء فی القرآن على أن النبی أخفاه فی قلبه هی هذه المعلومات التی تلقاها من الوحی. و من جانب آخر فإنه لم یرد أن یأمر زیداً بالطلاق حتى لا یقول الناس کیف ارتضى لنفسه أن یتزوج مطلقة زید الذی کان مملوکه فی أول الأمر ثم قبله ولداً بالتبنی، و کذلک رغب زید بطلاقها هذه هی الشائعات التی من الممکن أن تلصق بالنبی الأکرم (ص) فیما لو أقدم على هذا الزواج. و من أجل هذا عاتب الله نبیه على إخفاء هذا الأمر المباح و هو الزواج من مطلقة الولد بالتبنی، و لماذا هذا الخوف و الوجل من الناس؟
و لذلک أرشد الله نبیه و أطلعه و أشار علیه بأنه على أی حال و بأی کیفیة إن الله أحق أن تخشاه.
و مما یذکر أن القرطبی أضاف: إن علماءنا یقولون أن هذا الحدیث هو من أفضل ما قیل فی تفسیر الآیة، و قد وقع مورد قبول جمیع المفسرین و العلماء الأفاضل.. حتى أن "الترمذی" و هو المحدث الکبیر قال ضمن إشارته إلى هذا الحدیث فی (نوادر الأصول):« إن علی بن الحسین الإمام السجاد (ع) أتى بهذا الحدیث من خزانة العلم، و هو جوهرة من الجواهر و درة ثمینة من أحسن الدرر».[37]
ما هی فلسفة و حکمة التعبیر القرآنی بکیفیتین مختلفتین فیما یخص الأنبیاء (ع).
من المحتمل أن یرد السؤال التالی: صحیح أن العصیان والذنب له مفهوم واسع، و أن ترک المستحبات هو من باب ترک الأولى و لکن ما هی الحکمة فی استعمال هذه التعابیر من قبل الله سبحانه فی القرآن الکریم بهذه الکیفیة و بهذا التکرار؟
و جواب هذا السؤال الجمیل ورد فی حدیث أجمل! سأل رجل زندیق غیر مسلم أمیر المؤمنین علیاً (ع) قائلاً: لماذا أظهر الله تعالى زلل أنبیائه و رسله، من أمثال قوله: «وَ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» و قد أجابه الإمام قائلاً: «و أما هفوات الأنبیاء (ع) و ما بینه الله فی کتابه فإن ذلک من أدل الدلائل على حکمة الله (عز و جل) الباهرة، و قدرته القاهرة، و عزته الظاهرة، لأنه علم أن براهین الأنبیاء (ع) تکبر فی صدور أممهم، و أن منهم یتخذ بعضهم إلها، کالذی کان من النصارى فی ابن مریم، فذکرها دلالة على تخلفهم عن الکمال الذی انفرد به (عز و جل)».[38]
[1] البقرة، 124؛ انظر: رسالة القرآن ، ج 7، ص82-83.
[2] انظر: الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، ج10، ص193.
[3] تفسیر روح البیان، ج1، ص 338.
[4] الحشر، 7.
[5] من أمثال: المرحوم الطبرسی، فی مجمع البیان؛ أبو الفتوح الرازی، فی روح الجنان؛ القرطبی، فی تفسیره؛ الفخر الرازی، فی التفسیر الکبیر و ...
[6] النساء، 80.
[7] الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، ج10، ص193.
[8] طه، 121.
[9] طه، 115.
[10] هود، 47.
[11] الأنبیاء، 62 و 63.
[12] الصافات، 89.
[13] لأجل الاختصار فی الإجابة و إیجاد روح التحقیق و التتبع لدى القارئ تجنبنا ذکر الآیات و ترجمتها، و من یطلب مزید الفائدة فمن الممکن مراجعة ترجمة القرآن، لآیة الله مکارم الشیرازی أو محمد مهدی فولادوند.
[14] انظر: العلامة المجلسی، بحار الأنوار، ج11، ص72.
[15] إذن فإذا کان التعبیر عن ترک الأولى بالمعصیة، فالمراد هو الذنب النسبی لا المطلق، و إن العمل الذی یترک فی حالة ترک الأولى من الممکن أن یکون من المکروهات أو المباحات، بل و حتى المستحبات.
[16] نور الثقلین، ج3، ص404، ح165.
[17] الراغب الأصفهانی، المفردات، مادة "عصى".
[18] رسالة القرآن (تفسیر پیام قرآن) ، ج7، ص107 و 108.
[19] رسالة القرآن ، ج7، ص124.
[20] السید المرتضى، تنزیه الأنبیاء، ص69.
[21] رسالة القرآن ، ج7، ص125.
[22] نفس المصدر.
[23] الأستاذ مصباح الیزدی، تعلیم العقائد، ج12، ص256؛ السید المرتضى، تنزیه الأنبیاء، ص69.
[24] تعلیم العقائد، ج2، ص256.
[25] مجمع البیان، ج10، ص506؛ نور الثقلین، ج5، ص596.
[26] الأنعام، 96.
[27] رسالة القرآن ، ج7، ص159.
[28] رسالة القرآن ، ج7، ص 115 – 116.
[29] تم الحدیث عن مسألة ترک الأولى فی المجموعة الأولى من الآیات.
[30] رسالة القرآن ، ج7، ص152.
[31] تفسیر البرهان، ج2، ص130، ح1، نقلاً عن رسالة القرآن.
[32] رسالة القرآن ، ج7، ص149؛ نور الثقلین، ج5، ص56، ح 18.
[33] نور الثقلین، ج3، ص434، ح84؛ بحار الأنوار، ج11، ص76، ح4 باب عصمة الأنبیاء (ع).
[34] رسالة القرآن ، ج7، ص123.
[35] رسالة القرآن ، ج7، ص178.
[36] زید هو ابن رسول الله (ص) بالتبنی.
[37] تفسیر القرطبی، ج7، ص 5272، تفسیر الآیة مورد البحث.
[38] نور الثقلین، ج3، ص404، ح163.