Please Wait
8625
انقسم المسلمون بعد رحیل النبی الاکرم (ص) الى مدرستین اساسیتین، تذهب الاولى الى اعتماد مرجعیة أهل البیت (ع) فی الفقه و غیرها من المعارف الاسلامیة، و ذهب المدرسة الاخرى (السنیة) الى اعتماد مرجعیة الصحابة و التابعین فی هذا المجال.
و قد تطورت الحرکة الفقهیة لدى المدرستین حتى وصلت و سبب الظروف الموضوعیة و التحولات التی حصلت بعد الفتوحات الاسلامیة و ظهور مسائل مستحدثة کثیرة، الى قمة التطور الفقهی و تربع على عرش الفقه السنی فی أوائل القرن الرابع المذاهب الاربعة المعروفة. و کان باب الاجتهاد المطلق مفتوحا فی اوساط تلک المذاهب حتى حل العام 665 ق حیث انتهت المذاهب الاخرى لاسباب وعلل کثیرة، و ضیق الخناق على اصحاب المذاهب الاخرى فلم یسمح لهم بالتصدی لای منصب و مقام رسمی، و اغلق باب الاجتهاد المطلق و حصر فی الاجتهاد المقید الذی یدور فی نطاق المذهب الواحد.
و قد استشعر بعض المفکّرین و الکتاب المعاصرین بلزوم إعادة الروح إلى الفقه من خلال فتح باب الاجتهاد المطلق لیکون مواکباً لازدهار الحضارة و تقدّمها، مطالبین بفتح باب الاجتهاد و الانطلاق به من دائرة الاجتهاد فی دائرة المذهب الواحد الى الاجتهاد المطلق بحیث یتمکن الفقیه من الاجتهاد فی جمیع المذاهب الاربعة.
بدأ تشریع الاحکام الشرعیة مع بعثة النبی الاکرم (ص) و استمر طوال بعثته المبارکة. و قد ذهبت الشیعة الى الاعتقاد بان تبیین السنة و توضیح مراد الشریعة و سیرة النبی الاکرم (ص) و بیان الاحکام الشرعیة و غیر الفقهیة یقع على کاهل أهل البیت (ع). و ذهب علماء السنة الى القول بان الصحابة هم الذین رفعوا لواء ذلک و هدایة المسلمین بعد رسول الله (ص). فکان الصحابة (رض) قد تولوا مهمة بیان الاحکام و التأملات الفقهیة و استنباط الاحکام الشرعیة من السنّة الشریفة حتى العام 40 هجریة [1] و هذا لا یعنی بالضرورة انتهاء عصر الصحابة، بل بقی بعض الصحابة الى ما بعد هذا العهد و لکن أغلب الفقهاء کانوا من غیر الصحابة. و بعد مرحلة الصحابة انتقلت المهمة للتابعین و التی استمرت الى نهایة القرن الاول الهجری و بدایات القرن الثانی. [2]
عصر ظهور المذاهب الفقهیة لأهل السنة:
بعد أن رفضت المدرسة السنیة القول بإمامة أهل البیت و قیادتهم (ع) اختطوا لانفسهم طریقا آخر غیر طریق أهل البیت حیث رجعوا فی فقههم الى الصحابة و من بعد الصحابة رجعوا الى فقهاء التابعین.
و لما وصل الفقه الى القمة من السعة و الشمولیة و کثرة المسائل الفقهیة و خاصة بعد الفتوحات الاسلامیة و ظهور مسائل جدیدة و التوسع فی دراسة الفقه و التعمق فیه و ذلک من أوائل القرن الثانی الى أوائل القرن الرابع الذی تربع فیه الفقه السنّی على قمة الارتقاء حیث تشکلت المذاهب الاربعة المعروفة.
و من الواضح أن تشکیل المذاهب الاربعة کان استجابة طبیعیة لکثرة المسائل الفقهیة التی طرحت و حاجة المجتمع الاسلامی و الشعوب الحدیثة الدخولة فی الاسلام. و لکن لا ینبغی اغفال العامل السیاسی فی ظهور بعض تلک المذاهب لاقصاء مدرسة أهل البیت (ع) عن الساحة العلمیة؛ لان فی اقصائهم حدث خلل و فراغ کبیر لابد من سدّه و وضع البدیل له، فکان تقدیم بعض الفقهاء لاجل تحقیق هذا الغرض.
و الجدیر بالذکر أن المذاهب الفقهیة السنیة لم تکن منحصرة فی هذه الاربعة، بل کان هناک الکثیر من المذاهب الاخرى تتوزع على جغرافیة العالم الاسلامی، کمذهب حسن البصری (23- 110هـ) و مذهب الاوزاعی (88- 157هـ) و مذهب داود بن علی الاصفهانی (202-270هـ ) المعروف بالمذهب الظاهری، و کذلک مذهب محمد بن جریر الطبری (224- 310هـ). [3]
و لکن حدثت مجموعة من الاسباب و العوامل التی ساعدت على اقصاء بعض المذاهب و حصرها فی الاربعة المعروفة.
اسباب حصرها بالمذاهب الاربعة:
کثرة المذاهب الفقهیة بین أهل السنة و بسبب اختلاف المبانی و الاسس التی یقوم علیها کل مذهب، أدى الى حصول الکثیر من الاختلافات الفقهیة، من هنا ظهرت رغبة عند الکثیر من الناس بحصرها ببعض المذاهب فقط، هذا من جهة. و من جهة أخرى کان للحکومات و السیاسة الدور البارز فی حصر المذاهب بالمذاهب الاربعة؛ لان عامّة الناس لا یمتلکون القدرة على اقصاء مذهب و احلال مذهب آخر ملحه و حصر المذاهب بالاربعة، و انما الذی یتمکن من لعب هذا الدور الکبیر هو الحکومات و السلطات التی تمسک بزمام الامور و تمتلک الکلمة الحاسمة، بل نرى بعض الحکومات تحصر المذاهب بمذهب واحد یکون صاحب الکلمة الفصل بحیث یفسح له المجال فی الحرکة و التبلیغ و الانتشار، و فی المقابل یضیق على المذاهب الاخرى و لا یسمح لها بالحرکة و إبداء الرأی الفقهی، فعلى سبیل المثال تمکن أبو یوسف قاضی القضاة فی العصر العباسی استغلال المکانة التی حظی بها لدى الحکام لنشر المذهب الحنفی انتشارا واسعا، و توفیر الامکانات التی تمهد له التمدد و بسط سلطته الفقهیة على الساحة الاسلامیة، کذلک وفر القاضی الفرصة للکثیر من رجال المذهب الحنفی و علمائه لتقلد منصب القضاء. [4]
إئمة المذاهب الاربعة حسب الترتیب:
1. أبو حنیفه، النعمان بن ثابت (م 150ق)
2. مالک بن أنس (م 179ق)
3. الشافعی، محمد بن ادریس (م 204ق)
4. احمد بن حنبل (م 240ق)
اسباب غلق باب الاجتهاد فی المدرسة السنیة:
لا یشک انسان بما للاجتهاد من أهمیة و أنه الشریان الذی یمد الجسد الاسلامی بالحیاة و الحرکة و اضفاء النشاط على حرکة التقنین الاسلامی، الأمر جعل المسلمین و على مدى 14 قرنا فی غنى عن القوانین و التشریعات غیر الاسلامیة. و قد بقى باب الاجتهاد المطلق مفتوحا الى عام 665ق فی الوسط السنی، و لکن – و لاسباب و علل انحسرت المذاهب الاخرى و حصرت الفتیا بالمذاهب الاربعة فقط، حیث اقصی اتباع المذاهب الاخرى من المناصب الرسمیة کالقضاء و إمامة الجماعة و الجمعة و الفتوى و... و لم یسمح الا لاتباع احد المذاهب الاربعة بالتصدی لها. [5]
أما علل و اسباب اعراض أهل السنة عن الاجتهاد المطلق فمن الممکن الاشارة الى بعضها [6] :
1. التعصب المذهبی:
لا ریب أن تلامذة و اتباع کل إمام یتعصبون لآرائه تعصبا شدیدا فلا یسمحون بمخالفتها أبداً. و قد اشار احد اعلام الشیعة الى هذه القضیة، قائلا: من الاسباب التی أدت الى غلق باب الاجتهاد فی المدرسة السنیة- و الذی کاد أن یصیب المذهب الفقه الشیعی بکارثة کبرى و یحد من تطوره و نموه- الانبهار بعظمة أئمة المذاهب الاربعة و قوّة شخصیتهم العلمیة عند اتباعهم. و کان لهذا العامل دوره الملموس فی الساحة السنیّة بعد رحیل أئمة المذاهب الاربعة (احمد بن حنبل و محمد بن ادریس الشافعی، و أبی حنیفة و مالک بن أنس)، و هذا الاعجاب و الانبهار المفرط جعل الاتباع یخشون المساس بآراء الائمة و الاقتراب منها أو مخالفتها، و بهذا سُلب منهم عنصر الاجتهاد و الاستنباط. [7]
2. حصول اشکالات فی أمر القضاء
لما کان الفقهاء هم المتصدین للقضاء و فض النزاع بین الانسان، کان لاجتهاد کل واحد منهم أثره الخاص فی الحکم، فکان القاضی یحکم وفقا لاجتهاده مما أدى الى توجیه النقد و الطعن الیه من قبل الآخرین الذین لا یوافقونه الرأی، و هذا ما انجر الى شیوع حالة من الاضطراب بین الناس؛ لاختلاف الاحکام فی الموضوع الواحد. من هنا تصدت الحکومة - و للحد من هذه الظاهرة- لالزام القضاء بالحکم وفقا لفتوى مذهب واحد من تلک المذاهب الاربعة.
3. العامل السیاسی
قیل فی هذا الصدد أن المؤسسة الحکومیة فی ذلک العصر کانت تخشى من التطور الفکری و الارتقاء العلمی للفقهاء و العلماء؛ لان العلماء و من خلال عمقهم العلمی و ارتقاء مستواهم الفکری یقفون حائلا أمام البدع و الانحرافات التی فی کثیر من الاحیان تکون الحکومات الظالمة وراء انتشارها، و هذا لا ینجسم مع تطلعات تلک الحکومات و ما تروم تحقیقه من هنا تصدت للحد من الارتقاء الفکری لهؤلاء العلماء. [8]
و الجدیر بالذکر، أن غلق باب الاجتهاد لا یعنی غلقه مطلقا حتى فی إطار المذهب الواحد، فان الاجتهاد المقیّد موجود الى حد ما فی المدرسة السنیّة. و فی هذا النحو من الاجتهاد یُمنح المجتهد الاذن بالاجتهاد فی نطاق مذهبه استنادا الى الاصول و المبانی المتبعة فی ذلک المذهب لا یتخطاها. و أما الاجتهاد المطلق فقد اغلق بابه بعد حصر المذاهب بالاربعة المعروفة.
توجه المدرسة السنیة نحو الاجتهاد المطلق
و قد استشعر بعض المفکّرین [9] و الکتاب المعاصرین بلزوم إعادة الروح إلى الفقه من خلال فتح باب الاجتهاد المطلق لیکون مواکباً لازدهار الحضارة و تقدّمها. و قد طالب هؤلاء بفتح باب الاجتهاد و الانطلاق به من دائرة الاجتهاد فی دائرة المذهب الواحد الى الاجتهاد المطلق بحیث یتمکن الفقیه من الاجتهاد فی جمیع المذاهب الاربعة. و تحظى هذه الحرکة مؤخراً باهتمام کبیر بسبب الظروف الموضوعیة التی تقتضی الاجتهاد المطلق.
و من هنا نرى بعض المفکرین من أهل السنّة یتساءلون عن المبرر الذی یفرض على الناس التقلید و الرجوع الى شخص کان یعیش قبل قرون عدیدة و الالتزام بفتواه فی قضایا مستحدثة لا یعرف عنها شیئا؟!
کذلک یتساءلون: إذا کان التقلید واجبا فلماذا استثنی منه أئمة المذاهب الاربعة؟ أم کانوا مقلدین شأنهم شأن غیرهم، و من هو العالم الذی یقلدونه إن کانوا مقلدین؟
و من الملاحظ أن عدد اصحاب النظریة الداعیة الى فتح باب الاجتهاد المطلق یزداد یوما بعد آخر، و قد یصل یوما ما الى حد یستطیع کسر هذا الحصار و فتح باب الاجتهاد.
انظر المواضیع التالیة:
السوال 796 (الموقع: 855) (الاجتهاد عند الشیعة).
السؤال 1434 (الموقع: 1467) (الاجتهاد فی القرآن و الروایات).
السؤال 7550 (الموقع: 9819) (بواعث ظهور المذاهب).
[1] السبحانی، جعفر،تاریخ الفقه الاسلامی و ادواره، ص 14، موسسه امام صادق(ع)، قم، 1427 ق.
[2] نفس المصدر.
[3] نفس المصدر، ص57- 64.
[4] کثیری، سید محمد، السلفیة بین أهل السنة و الإمامیة، ص107، نشر الغدیر، بیروت،1418 ق.
[5] السبحانی، جعفر، راهنماى حقیقت، ص577، نشر مشعر، طهران،1387 ش.
[6] انظر: السبحانی، «تاریخ الفقه الاسلامی و ادواره،فصل "اسباب غلق باب الاجتهاد."
[7] رضوانی، علی اصغر، شیعه شناسی و پاسخ به شبهات، ج2، ص 615، نشر مشعر، طهران، 1384 ش.
[8] نفس المصدر.
[9] منهم محمد علی السایس فی محمد على السائس: تاریخ الفقه الإِسلامی: 29؛ و الأُستاذ علی منصور المصری مستشار مجلس الدولة السابق لمحکمة القضاء الاداری حیث نشر مقالا مبسوطا حول فتح باب الاجتهاد، نشرته مجلة رسالة الإِسلام فی عددها الأَوّل من السنة الخامسة. (انظر: السبحانی، تأریخ الفقه الإسلامی و أدواره، ص: 94-95).