Please Wait
6414
للمفسرین نظریات متفاوتة فی تفسیر هذه الآیات و ما یشابهها من الآیات، فالکثیر من المفسرین القدماء یصرون على حفظ ظاهر الآیة و التمسک به، و لکن الآلوسی أشار إلى عدة إیرادات على هذه التفاسیر ثم أجاب عنها.
و بعض المفسرین مثل صاحب «الظلال» یرى فی هذه الآیة و أمثالها أنها من مقولة الحقائق التی لا یمکن إدراکها، و لذلک مرّ علیها بسهولة. و ذهب بعض المفسرین إلى أبعد من ظاهر هذه الآیات حیث قالوا إن السماء التی ذکرت مقراً للملائکة هی عالم ملکوتی ما ورائی، و أنه خارج دائرة هذا العالم المحسوس و أعلى منه، و أن المراد من اقتراب الشیاطین لهذا السماء و استراق السمع ورجمهم بالشهب هو أنهم حاولوا الاقتراب من عالم الملائکة لیطلعوا على أسرار الخلق و حوادث المستقبل، و لکن الشهب أرجعت الشیاطین غیر القادرین على تحمل الأنوار المعنویة لعالم الملکوت.
جاء فی الآیة التاسعة من سورة الجن قوله تعالى: «وَأَنَّا کُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ یَسْتَمِعِ الْآنَ یَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا»[1]. و قبل تفسیر الآیة لا بد من إیضاح بعض المصطلحات:
أولاً: الاستراق من «السرقة»[2] و السرقة تعنی أخذ مال الغیر بالخفاء دون أن یکون عارفاً بذلک، و أما استراق السمع فمعناه سرقة الکلام، و بعبارة أخرى إذا تحدث شخصان بصوت خافت و لا یریدان لغیرهما أن یسمع کلامهما فیأتی شخص ثالث للاستماع و معرفة الکلام بشکل مخفی، و هذا من الذنوب الکبیرة[3].
ثانیاً: الشهاب: فی اللغة یعنی شعلة النار التی یرتفع لهبها[4].
ثالثاً: الرصد: «بمعنى الاستعداد للمراقبة، نصب الکمین و تهیؤ الکامن فیه»[5].
و إن مضمون هذه الآیة ورد مکرراً فی سورتین من القرآن الکریم:
1ـ سورة الصافات: « إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ»[6].
2ـ سورة الحجر: «إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِینٌ»[7].
و الآیة المشار إلیها فی سورة الجن و الآیتان الأخرییان من الآیات التی أطال المفسرون الکلام فیها و قد توصلوا إلى نتائج مختلفة و نظریات متعددة منها:
1ـ البعض مثل کاتب تفسیر «فی ظلال القرآن» فإنه یمر على هذه الآیة و الآیتین الأخریین مروراً سریعاً و ذلک بقوله أن هذه من الحقائق التی لا یمکننا إدراکها، و علینا أن نتوجه إلى ما یمس حیاتنا العملیة، و هکذا فقد اقتنع و اکتفى بتفسیر مجمل، و قد صرف النظر عن التوغل فی هذه المسألة.
و یقول بصدد العجز عن إدراک هذه الحقائق: «و ما الشیطان؟ و کیف یحاول استراق السمع؟ و أی شیء یسترق؟. کل هذا غیب من غیب الله، لا سبیل لنا إلیه إلا من خلال النصوص. و لا جدوى فی الخوض فیه، لأنه لا یزید شیئاً فی العقیدة؛ و لا یثمر إلا انشغال العقل البشری بما لیس من اختصاصه، و بما یعطله عن عمله الحقیقی فی هذه الحیاة. ثم لا یضیف إلیه إدراکاً جدیداً لحقیقة جدیدة»[8].
و أما صاحب تفسیر الأمثل فقد اعتبر هذا الموقف مرفوضا وبعیدا عن الموضعیة حیث قال: «و ینبغی التنویه هنا إلى أنّ القرآن کتاب سماوی جاء لتوجیه الإنسان إلى الحق، و هو کتاب حیاة و تربیة، فإن کان فیه ما لا یخص الحیاة الإنسانیة فمن الأولى أن لا یطرح أصلا، و هذا خلاف التخطیط و المنهج الرّبانی، و کلّ ما فیه دروس لنا و منهج قویم للحیاة.
و التسلیم بوجود حقائق غامضة فی القرآن أمر مرفوض .. أو لیس القرآن کتاب نور، و کتابا مبینا؟! أو لم ینزل کی یفهمه الناس و یسیروا بهدیه؟! فکیف إذن .. لا یهمنا فهم بعض آیاته؟! و بکلمة: فإنّ هذا التّفسیر مرفوض؟!»[9].
2ـ هناک عدد من المفسرین القدماء یصرون على الاحتفاظ بالمعنى الظاهری للآیات فقالوا: «فالسماء هی هذه السماء، و الشهاب هو ما نراه و نسمیه شهاباً (أی الکرات الصغیرة التی تسبح فی الفضاء، و تخترق بین الحین و الآخر جاذبیة الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتیجةً لاحتکاکها بالهواء المسبب لزیادة حرارتها).
و الشیطان هو ذلک الموجود الخبیث المتمرد الذی یحاول أن یخترق أعماق السماوات لیطلع على أخبار ذلک العالم لیوصل تلک الأخبار إِلى أولیائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع، و لکنّه یُمنع من الوصول إِلى هدفه برمیه بالشهب»[10].
ذکر هذا التّفسیر الفخر الرازی فی تفسیره الکبیر، و کذلک الآلوسی فی (روح المعانی) بعد طرح الإشکالات المختلفة فی الموضوع اعتمادا على علم الهیئة و الطبقات الفلکیة القدیم و أمثال ذلک. و أکثر العلماء فیه البیان من خلال الإجابة على تلک التساؤلات. و لا ضرورة لذکرها لما وصل إلیه علم الفلک فی یومنا[11].
3ـ و ذهب جمع من المفسّرین مثل العلّامة الطّباطبائی فی (تفسیر المیزان) إلى حمل هذه الآیات على التشبیه و الکنایة و ضرب الأمثال، أو ما یسمّى بـ (البیان الرمزی) ثمّ شرحوا ذلک بصور عدّة:
نقرأ فی تفسیر المیزان: (أورد المفسّرون أنواعا من التوجیه لتصویر استراق السمع من الشیاطین و رمیهم بالشهب، و هی مبینة على ما سبق إلى الذهن من ظاهر الآیات و الأخبار، إنّ هناک أفلاکا محیطة بالأرض تسکنها جماعات من الملائکة و لها أبواب لا یلج فیها شیء إلّا منها، و إنّ فی السماء الأولى جمعا من الملائکة بأیدیهم الشهب یرصدون المسترقین للسمع من الشیاطین فیقذفونهم بالشهب.
و قد اتّضح الیوم اتضاح عیان بطلان هذه الآراء.
و یحتمل- و اللّه العالم- أنّ هذه البیانات فی کلامه تعالى من قبیل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس فی صورة المحسوس لتقریبها من الحس، و هو القائل عزّ و جلّ فی سورة العنکبوت (43): "وَ تِلْکَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما یَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ" و هو کثیر فی کلامه تعالى و منه العرش و الکرسی و اللوح و الکتاب.
و على هذا یکون المراد من السماء التی تسکنها الملائکة عالما ملکوتیا ذا أفق أعلى، نسبته إلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إلى الأرض، و المراد لاقتراب الشیاطین من السماء و استراقهم السمع و قذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائکة للاطلاع على أسرار الخلقة و الحوادث المستقبلة و رمیهم بما لا یطیقونه من نور الملکوت»[12].
4. اما صاحب تفسیر الامثل فانه بعد أن استعرض التفاسیر المذکورة خلص الى النتیجة التالیة حیث قال: و من کل ما تقدم یمکننا القول: إن «السماء» کنایة عن سماء الحق و الإیمان، و الشیاطین تسعى أبدا لاختراق هذه السماء و التسلل إلى قلوب المؤمنین المخلصین عن طریق تخدیر حمارة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.
و لکن علم و تقوى أولیاء اللّه و قادة دعوة الحق من الأنبیاء و الأئمّة علیهم السّلام و العلماء العاملین کفیل بأن یبعد عبدة الجبت و الطاغوت عن هذه السماء.
و هذا ما یساعدنا على فهم ذلک الترابط بین ولادة النّبی صلّى اللّه علیه و آله و سلّم أو ولادة المسیح علیه السّلام، و بین طرد الشیاطین عن السماء.
و یساعدنا کذلک على أن نفهم تلک الرابطة بین الصعود إلى السماء و الاطلاع على الأسرار، لتیقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بین طبقات هذه السماء المشاهدة، و کل ما هناک لا یتعدى عجائب الخلقة التی صورها الباری جل شأنه و التی یمکن دراسة الکثیر منها على سطح الأرض، و الذی ربما أصبح شبیه بالبدیهی من أن الأجرام السماویة المنتشرة فی الفضاء اللامتناهی بعضها أجرام فاقدة للحیاة و أخرى حیة، و لکنّ حیاتها لیست کحیاتنا.[13]
یمکن القول أن ما ذکرناه یمثل أشهر الأقوال التی تعرض لها المفسرون فی تفسیر الآیة و الآیات المشابهة لها.
[1] الجن: 9.
[2] لسان العرب، ج10، ص156.
[3] الطیب، سید عبد الحسین، أطیب القرآن، ج8، ص20، منشورات إسلام، الطبعة الثانیة، طهران، 1378 ش.
[4] الراغب، مفردات فی غریب القرآن، ج1، ص465.
[5] قاموس القرآن، ج3، ص101.
[6] الصافات، 10.
[7] الحجر: 18.
[8] الشاذلی، سید بن قطب، تفسیر فی ظلال القرآن، ج4، ص2133، الناشر دار الشروق، الطبعة السابعة عشر، بیروت، 1412 ق.
[9] مکارم الشیرازی، ناصر، التفسیر الأمثل، ج8، ص41، مدرسة الامام علی بن ابی طالب، الطبعة الأولى، قم، 1421هـ.
[10] مکارم الشیرازی، ناصر، التفسیر الأمثل، ج8، ص41.
[11] انظر: الآلوسی، سید محمود، روح المعانی، ج7، ص270، دار الکتب الإسلامیة، الطبعة الأولى، بیروت، 1415 ق.
[12] انظر: تفسیر المیزان، ج 17، ص 124( فی تفسیر الآیات من سورة الصافات).
الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج8، ص46-47.[13]