بحث متقدم
الزيارة
10209
محدثة عن: 2007/06/06
خلاصة السؤال
نرجو تفسیر الآیة المبارکة «لا اکراه فی الدین قد تبین الرشد من الغی....» مع الاخذ نظر الاعتبارالتفاسیر المختلفة لهذه الآیة المبارکة.
السؤال
نرجو تفسیر الآیة المبارکة «لا اکراه فی الدین قد تبین الرشد من الغی....» مع الاخذ نظر الاعتبارالتفاسیر المختلفة لهذه الآیة المبارکة.
الجواب الإجمالي

اذا نظرنا الى التفاسیر التی طرحت حول الآیة المبارکة یمکن احصاؤها فی خمسة اقوال، الصحیح منها انها تحمل رسالة عامة و شاملة و انسانیة مفادها: ان الدین مسألة اعتقادیة و قلبیة لامجال للاکراه و الجبر الى ساحته و ان العبد مختار و مخیر. و هذا یمثل دلیلا واضحا فی رد الجبریین القائلین بان "الانسان مجبر فی تلقی و قبول الاسلام او الکفر و کذلک هو مجبر فی عباداته و معاصیه و سائر افعاله" ، و فی نفس الوقت یمثل ذیل الآیة - منضما الى الآیة التی تلیها- ردا واضحا و حجة جلیة على القائلین بالتفویض حیث ادعوا ان الله تعالى و بعد ان خلق الانسان قد اعتزل الاشیاء و فوض جمیع الامور الى ارادة الانسان و اختیاره و ان الله سیبقى ینتظر و یأخذ دور المراقب فقط الى یوم القیامة، و هذا غیر صحیح لان ذیل الآیة و ما بعده یشعر بان لاشیء بخارج عن الولایة و السنة الالهیة و السیطرة الربانیة.

و بعبارة اخرى: کما انه لا اکراه و لا اجبار فی مجال الایمان و الاعتقاد، فلا یخضع و لایؤمن الانسان عن کره و اجبار، کذلک و فی نفس الوقت لا یمکن ان یخرج من تحت المالکیة و القدرة و السیطرة الالهیة، بل و طبقا لسنة الله فی الکون ان من أعرضوا عن الکفر و الطاغوت و آمنوا بالله تعالى، فبمقتضى قانون العلیة و المعلولیة قد تمسکوا بالعروة الوثقى التی لا انفصام لها و هیئوا الارضیة المناسبة لهدایتهم و لنجاتهم و الفوز من الظلمات التی تعترض طریقهم فی المستقبل ای انهم یسیرون من الظلمات الى النور، و على العکس من ذلک اؤلئک الذین لم یصغوا الى جمیع تلک البراهین الساطعة و الادلة الواضحة و اختاروا الکفر و العناد فانهم- و على اساس نفس السنة و القانون الالهی - یسیرون من النور الى الظلمات.

اذاً الانسان بالرغم من انه یملک قدرة الاختیار و الانتخاب، لکنه لا یملک القدرة و الاختیار فی ما یؤول الیه اختیاره و مایحصل من خلال انتخابه بل انه تابع و خاضع للسنة الالهیة، بمعنى ان نتیجة عمله لیست اختیاریة.

و بالنتیجة: یمکن و من خلال الآیتین المبارکتین التوصل الى اصل عام و قانون شامل قد ورد على لسان الائمة علیهم السلام و هو قانون« لا جبر و لا تفویض بل امر بین امرین».

الجواب التفصيلي

قبل بیان مفهوم الآیة المبارکة « لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمیعٌ عَلیم‏»[1] لابد من الاشارة على بعض النکات من باب المقدمة للدخول فی البحث و هی:

1. الاکراه لغة بمعنى اجبار الانسان على القیام بعمل ما، و الرشد بمعنى الهدایة و النجاة و الصلاح و الکمال،ای هو الإجبار و الحمل على الفعل من غیر رضى‏،[2] و فی المقابل "الغی" الذی؛ یعنی السیر فی طریق الهلاک و تعنی الانحراف عن الحقیقة و الابتعاد عن الواقع‏،[3] یقول العلامة الطباطبائی: و الرشد، إصابة وجه الأمر و محجة الطریق و یقابله الغی، فهما أعم من الهدى و الضلال.[4]

2. ان اقوال المفسرین فی الآیة المبارکة« لا اکراه فی الدین» یمکن حصرها فی خمسة اقول ذکرها صاحب مجمع البیان و غیره من المفسرین: (أحدها) أنه فی أهل الکتاب خاصة الذین یؤخذ منهم الجزیة. (ثانیها) أنه فی جمیع الکفار ثم نسخ بآیات القتال[5] و الجهاد. [6] (ثالثها) أن المراد لا تقولوا لمن دخل فی الدین بعد الحرب أنه دخل مکرها لأنه إذا رضی بعد الحرب و صح إسلامه فلیس بمکره. (رابعها) أنها نزلت فی قوم خاص من الأنصار. کما انه قد طرحت مجموعة من القصص فی بیان سبب نزول الآیة منها: انها نزلت فی رجل من الأنصار کان له غلام أسود یقال له صبیح و کان یکرهه على الإسلام‏. (خامسها) انه قد ذهبت جماعة من المفسرین الى ان الآیة لم یکن لها شأن نزول خاص، بل أن المراد منها انه لیس فی الدین إکراه من الله و ان العبد مخیر فیه لأن ما هو دین فی الحقیقة هو من أفعال القلوب إذا فعل لوجه وجوبه، فأما ما یکره علیه من إظهار الشهادتین فلیس بدین حقیقة، کما أن من أکره على کلمة الکفر لم یکن کافرا و المراد الدین المعروف و هو الإسلام و دین الله الذی ارتضاه‏.[7]

و الذی یبدو من مجموع هذه الاقوال ان القول الاخیر هو الاقرب الى الصحة.

اذاً یمکن ان یستظهر من الآیة المبارکة ان خلاصة منطق القرآن هو: ان الدین لایمکن ان یکون امرا جبریا او غیر ارادی، لانه قد اتضح طریق الحق و الهدایة و الرشاد، کما اتضح طریق الغوایة و الضلالة،و ان الانسان حر و مختار فی انتخاب الایمان او الکفر، فمن شاء ان یؤمن و من شاء فلیکفر، و یمکن ان نستخرج- من سیاق الآیة الشریفة مع النظر الى ما قبلها و ما بعدها- اصلا عاما قد ورد على لسان الائمة علیهم السلام و هو« لاجبر و لاتفویض بل امر بین الامرین»[8] لان الآیة السابقة قد بینت و بصورة جلیة مسألة التوحید، الامر الذی یدرکه الانسان بفطرته السلیمة و بادنى تأمل و تفکر، و لکن بما ان منحرفی التفکیر یمکن دائما ان یطرحوا صورة مشوهة عن التوحید، من هنا جاءت هذه الآیة و ما بعدها لرسم صورة واضحة و بیان اصل کلی من اجل سد الطریق امامهم.

ثم ان اصل " لاجبر و لاتفویض..." و ان کانت جذوره و مجال عمله امرا کلامیا و لکن یمکن الاستفادة منه فی مجالات اخرى کعلم السیاسة و الاقتصاد و....

و بعبارة اخرى: ان هذا دلیل واضح و جلی فی رد الجبریین القائلین بان الانسان مجبر فی ایمانه و کفره و عباداته و معاصیه و سائر ما یصدر منه من الافعال، والحال ان الامر لم یکن کذلک.[9] و ان الله تعالى لم یجبر احدا او یکرهه، کما ان الآیة یمکن ان تکون ردا على المفوضة القائلین بان الله تعالى- و بعد ان خلق الانسان- قد اعتزل الاشیاء و فوض جمیع الامور الى ارادة الانسان و اختیاره و ان الله سیبقى ینتظر و یأخذ دور المراقب فقط الى یوم القیامة، قال أبو مسلم، و القفال: معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإیمان على الإجبار و القسر، و إنما بناه على التمکن و الاختیار، و یدل على هذا المعنى أنه لما بیّن دلائل التوحید بیانا شافیا، قال بعد ذلک: لم یبق عذر فی الکفر إلّا أن یقسر على الإیمان و یجبر علیه، و هذا ما لا یجوز فی دار الدنیا التی هی دار الابتلاء، إذ فی القهر و الإکراه على الدین بطلان معنى الابتلاء. و یؤکد هذا قوله بعد: «قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ» یعنی: ظهرت الدلائل و وضحت البینات، و لم یبق بعدها إلّا طریق القسر و الإلجاء و لیس بجائز لأنه ینافی التکلیف، و هذا الذی قاله أبو مسلم و القفال لائق بأصول المعتزلة.[10] فالآیة دلیل واضح على هؤلاء لانها بعد ان خطأت الجبریة اردفت الکلام و بلا فاصلة بالقول «فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمیعٌ عَلیم‏»، و مع الالتفات الى الآیة التالیة و التی تشعر بان الولایة و السنة الالهیة، یمکن استظهار انه لایمکن لای شیء ما ان یخرج عن ملک الله و سیطرته.

و بعبارة اخرى: صحیح انه لا اجبار و لا اکراه فی الایمان و الاعتقاد، و لکن هذا لایعنی الخروج من تحت سیطرة الله و مالکیته، بل و طبقا للسنة الالهیة ان الذین أعرضوا عن الکفر و کفروا بالطاغوت و آمنوا بالله تعالى، فبمقتضى قانون العلیة و المعلولیة قد تمسکوا بالعروة الوثقى التی لا انفصام لها و هیئوا الارضیة المناسبة لهدایتهم و الفوز و النجاة من الظلمات التی تعترض طریقهم فی المستقبل، ای انهم یسیرون من الظلمات الى النور، و على العکس من ذلک اؤلئک الذین لم یصغوا الى جمیع تلک البراهین الساطعة و الادلة الواضحة و اختاروا الکفر و العناد فانهم- و على اساس نفس السنة و القانون الالهی - یسیرون من النور الى الظلمات.

النتیجة: مما سبق نحصل على الاصل التالی (لاجبر) الذی یشیر الیه صدر الآیة الشریفة « لا اکراه فی الدین»، (و لاتفویض) الذی یشیر الیه ذیل الآیة المبارکة (فمن یکفر) و ان هذا الاصل یساعدنا فی حل الکثیر من العقد والمشاکل الفکریة التی تواجه طریقنا.



[1] البقرة، 256.

[2] القرشی، سید علی اکبر، قاموس قرآن" قاموس القرآن"، ج 3، ص 100.

[3] نفس المصدر.

[4] العلامة الطباطبائی، تفسیر المیزان، ج 2، ص 342.

[5] التوبة، 5.

[6] التوبة، 73.

[7] الطبرسی، مجمع البیان، ج ‏2، ص، 631؛ العاملی ابراهیم، تفسیر العاملی، ج 1، ص 515 و 516 ؛ الزمخشری، الکشاف، ج 1، ص 487؛ مکارم الشیرازی، تفسیر الامثل، ج 2، ص 279 و ص 280.

[8] الکافی،ج1،ص160،باب الجبر و القدر.

[9] طیب، سید عبدالحسین، أطیب البیان در تفسیر قرآن" أطیب البیان فی تفسیر القرآن "، ج 3، ص 18.

[10] الفخر الرازی، التفسیر الکبیر، ج 3، ص 15؛ البحر المحیط فی التفسیر، ج ‏2، ص، 617.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279435 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257248 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128143 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113245 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88997 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59838 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59551 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56856 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49740 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47165 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...