بحث متقدم
الزيارة
6105
محدثة عن: 2010/05/12
خلاصة السؤال
نظراً الی عدم قابلیة الکفّار المعاندین للهدایة، فما هو معنی اصرار الأنبیاء علی محاولة هدایتهم و ما معنی تعذیبهم فی الآخرة؟
السؤال
تقول الآیة 5 من سورة البقرة: "إن الذین کفروا سواء علیهم أ أنذرتهم أو لم تنذرهم لا یؤمنون. ختم الله علی قلوبهم و علی سمعهم و علی أبصارهم غشاوة و لهم عذاب عظیم" إن وجود الأنبیاء –طبقاً لهذه الآیة- یکون أمراً عبثیاً لا فائدة فیه. ثم مع هذا الختم الذی ختم الله علی عقولهم، ما هو ذنبهم لکی یکون مصیرهم الی جهنم؟
الجواب الإجمالي

هذه الآیات تتعرّض لذکر إحدی السنن و القوانین الإلهیة و هی أن شخصاً لو صار کافراً و فی ذات الوقت الذی عرف فیه حقیقة الدین و لکنه أنکر الدین الحق عناداً و مکابرة فإن عناده هذا و عداوته للدین ستکون سبباً لعدم هدایته أبداً.

و لکن حیث إنه اختار هذا الطریق عن علم و وعی فإنه سیکون مسؤولاً عن جمیع عواقب هذا الأمر من دون أن یلزم الجبر، فحاله یشابه تماماً حال من یعمد الی عینه فیعمیها و الی اذنه فیصمها لکی یکون عاجزاً عن رؤیة الأشیاء و سماعها.

و امّا لماذا یصرّ الأنبیاء علی هدایة هؤلاء مع کونهم غیر قابلین للهدایة؟ فینبغی أن نقول: أولاً: أن العقوبات الإلهیة ترتبط دائماً بأعمال الإنسان و تصرفاته، فلا یمکن معاقبة شخص بسبب کونه سیء السریرة فحسب، إذ یکون ذلک مصداقاً للقصاص قبل الجنایة. و ثانیاً: إن ذلک من أجل إتمام الحجة علی هؤلاء لئلا یقولوا بعد ذلک لو کان الأنبیاء قد أرشدونا فلربما کنا من المهتدین.

الجواب التفصيلي

هاتان الآیتان تتحدثان حول الکفار المعاندین الذین بلغوا فی ضلالتهم الی درجة انهم کانوا غیر مستع دین للقبول الحق مع کونه واضحاً لدیهم ، فالقرآن الذی هو هدی و بصیرة للمتقین لا یؤثّر فی هؤلاء أبداً، فسواء قلت أم لم تقل، أنذرت أم لم تنذر، بشّرت أم لم تبشّر، فإنه لا تأثیر لذلک. إن هؤلاء أساساً لیس لهم استعداد روحی لاتباع الحق و الخضوع له.

و الآیة الثانیة تشیر الی سبب العناد و اللجاج فتقول إن هؤلاء قد انغمسوا فی الکفر و العناد الی الدرجة التی فقدوا معها قابلیة التشخیص: "ختم الله علی قلوبهم و علی سمعهم و علی أبصارهم غشاوة" و لهذا السبب فکانت عاقبة أمرهم: "و لهم عذاب عظیم". [1]

أول سؤال یطرح نفسه هنا هو إنه طبقاً لهذه الآیة فإن الله قد ختم علی قلوب هؤلاء و علی أسماعهم و جعل علی أبصارهم غشاوة فهم مجبرون علی البقاء فی الکفر، فإذا کان الأمر کذلک، ألا یعدّ هذا من الجبر؟ و ما هو معنی عقوبتهم فی مثل هذه الظروف؟

و قد أجاب القرآن نفسه عن هذا السؤال فی مواضع أخری، بأن الله تعالی قد جعل لکل شیء أسبابه و علله فی نظام الخلقة، و إنه لا یفعل أی فعل من دون سبب و علة. و من جملة ذلک فإن التکبّر و اتباع هوی النفس و العناد و اللجاج فی مقابل الحق و الاستمرار علی الظلم و الجور و الکفر و ... یصیر سبباً لحدوث الغشاوة علی قابلیة تشخیص الإنسان و تعطیل آلة المعرفة لدی الإنسان. [2]

إن من الامور الطبیعیة هو أن الإنسان إذا تکرّر منه صدور الخطأ و الذنب، فإنه بالتدریج سیأنس به و یعتاد علیه، لأنه یکون فی المرحلة الاولی "حالة" ثم یتحوّل الی "عادة" و بعد ذلک یصیر "ملکة" و یصبح جزءً من ذاته.

و أحیاناً یصل به الأمر الی عدم تمکنه من الرجوع. و لکن حیث إنه اختار هذا الطریق بارادته و وعیه، فإنه مسؤول عن جمیع عواقب ذلک من دون أن یلزم الجبر و حالة یشابه تماماً من یعمد الی عینه فیعمیها و الی اذنه فیصمّها من أجل الا یری و لا یسمع شیئاً. فإذا نسب ذلک الی الله تعالی فسبب ذلک هو أن الله قد جعل ذلک من خواص هذه الافعال، و إن الله هو الذی أوجد هذه العلیّة و المعلولیة.

و عکس هذا الأمر أیضاً مشهود تماماً فی قوانین الوجود، أی إن من یسلک سبیل الطهر و التقی و الصدق و الوفاء فإن الله یقوّی قابلیة التشخیص عنده و یمنحه فهماً و رؤیة و بصیرة خاصة حیث نقرأ فی القرآن قوله تعالی: "یا أیها الذین آمنوا إن تتقوا الله یجعل لکم فرقاناً". [3]

و قد رأینا هذه الحقیقة فی حیاتنا الیومیة أیضاً، فإن الأشخاص الذین یبدأون بارتکاب عمل سوء، فإنهم فی البدایة یقرّون بأنهم مذنبون و مخطئون مائة بالمائة و لهذا السبب فهم مستاؤون من عملهم، و لکنهم بالتدریج حینما یأنسون به، یزول استیاؤهم، و فی المراحل اللاحقة قد یصل الأمر بهم الی السرور و الانشراح بعملهم و یعتبرونه وظیفة انسانیة لهم!

و للإطلاع أکثر حول هذا الموضوع راجعوا السؤال 2081 (الموقع: 2317) هدایة البشر و 1553 (الموقع: ) علم الله و خلق الناس الأشرار.

و السؤال الآخر الذی یخطر فی الذهن حول الآیات المتقدمة هو أن هؤلاء الکفار إذا لم یکونوا قابلین للهدایة، فلماذا یصرّ الأنبیاء ؟

و للجواب عن هذا السؤال لابد من الالتفات الی ملاحظة و هی أن العقوبات الإلهیة ترتبط دوماً بأعمال الإنسان و تصرفاته، فلا یمکن معاق بة شخص علی کونه سیء السریرة فحسب، بل یجب دعوته الی الحق أولاً فإن لم یستجب و ظهر خبثه الباطنی علی عمله ففی هذه الحالة یکون مستحقاً للعقاب و بغیر ذلک یکون عقابه مصداقاً للقصاص قبل الجنایة، و بعبارة اخری یجب أن یکون الجزاء و الثواب علی العمل بعد وقوع العمل حتماً و لا یکفی فی ذلک العزم أو الاستعداد أو توفّر الدواعی الروحیة و الفکریة لهذا العمل.

و اضافة الی ذلک فإن ذلک من أجل اتمام الحجة علی هؤلاء لکی لا یقولوا بعد ذلک لو کان الأنبیاء قد ارشدونا فلربما کنا من المهتدین.



[1] مکارم الشیرازى، ناصر، الأمثل فى تفسیر کتاب الله المنزل، ج 1، ص 85، مدرسه امام على بن ابى طالب‏، قم، 1421 ق‏.

[2] ورد فی سورة النساء الآیة 155 قوله تعالی "بل طبع الله علیه بکفرهم" و ورد فی سورة المؤمن الآیة 35 قوله تعالی "کذلک یطبع الله علی قلب کل متکبر جبار" و فی سورة الجاثیة الآیة 23 قوله تعالی "أ فرأیت من اتخذ الهه هواه و اضلّه الله علی علم و ختم علی سمعه و قلبه و جعل علی بصره غشاوة".

[3] الانفال، 29.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279422 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    257170 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128118 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    113186 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88976 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59797 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59519 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56845 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49697 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47148 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...